يعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر من الأنشطة الاقتصادية التي تساهم في دعم اقتصاديات الدول بما يحققه من تنمية وازدهار اقتصادي، وخلق لفرص عمل، وعوائد مالية ممثلة في الضرائب وغيرها، وهو استثمار مهم خاصة في الدول النامية التي تعاني من ندرة الموارد، وضعف في اقتصادياتها، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وغيرها من المشاكل الاقتصادية.
وفي ليبيا الغنية بالنفط والغاز والموارد الاقتصادية الأخرى، لدينا الكثير من الخيارات التي تجعلنا قادرين على التعامل مع المستثمر الأجنبي ومن موقع القوة والقدرة على مواجهة أي ضغوطات أو مساومات أو إملاءات قد يحاول المستثمر الأجنبي أن يفرضها علينا معتمداً على قدراته المالية، وقوة حضور وتأثير دولته على الساحة السياسية الدولية والإقليمية، وفي الحالة الليبية – الإماراتية وفي ظل الصراعات وحالة الانقسام السياسي والمؤسساتي في ليبيا تعتبر الدولة الليبية هي الطرف الأضعف أمام المستثمر الإماراتي، وهو مستثمر يملك القدرة على التأثير وفرض شروطه لأن دولته من اللاعبين المؤثرين في المشهد السياسي الليبي بتحالفها مع أحد طرفي الصراع، وهذه هي الحقيقة فمنذ عام 2014م وهو تاريخ انطلاق مشروع الكرامة في بنغازي، راهنت دولة الإمارات على خليفة حفتر في ضمان مصالحها في ليبيا ودعمته بالمال والسلاح، وسخرت كل إمكانياتها لكي يفرض سيطرته على كل ليبيا ويؤسس نظام حكم عسكري حليف لها، لكن رهان دولة الإمارات كان رهاناً خاسراً، اثبتت ذلك كل الحروب التي اشتعلت في ليبيا وكان للإمارات يدا في إشعالها منذ عام 2014م وحتى 4 أبريل عام 2019م عندما شن حفتر هجومه الكبير على طرابلس، ولم يفلح في دخولها والسيطرة عليها والقضاء على خصومه السياسيين.
جرائم الإمارات في تأجيج الصراع في ليبيا، وإشعال فتيل الحروب بدون أي اعتبار لأرواح ودماء الليبيين ليست خافية على أحد، وكثيرا من تقارير المنظمات الدولية تؤكد على ذلك، ووثقت ما قامت به دولة الإمارات من جلب للأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا، هنا يطرح سؤال مهم.. فشلت الإمارات في تحقيق أهدافها بسيطرة حليفها حفتر على كل ليبيا وحسم الصراع عسكريا، فهل توجد لديها خطة بديلة، أم أن دولة الإمارات سترفع يدها عن ليبيا؟، مؤكد بأنه هناك خطة بديلة فلا يمكن أن تتراجع دولة الإمارات عن تحقيق أهدافها في ليبيا، وقد وجدت فرصة قد لا تتكرر تتمثل في حالة الضعف والانقسامات التي تعاني منها ليبيا، البديل الإماراتي عن استخدام القوة والحرب لتحقيق الأهداف وضمان المصالح هو التغلغل الاقتصادي الناعم خلف شعارات براقة ومغرية تخفي وراها ما هو أعظم وأخطر، وهو ما حدث فعلا، ففي 15 أغسطس عام 2024م وقع الجهاز الوطني للتنمية في بنغازي عقودا مع شركة إعمار الإماراتية لإنشاء مشروع الداون تاون كمركز جديد لمدينة بنغازي، بالإضافة إلى منطقة حرة في المريسة غرب المدينة، ولم يتم الإعلان عن تفاصيل وبنود هذه العقود وقيمة المشروع، والفترة الزمنية للتنفيذ، ومدة الاستثمار وغيرها من التفاصيل الهامة، وهنا يُطرح سؤال مهم.. هل يستطيع الطرف الليبي الأضعف في هذا الاتفاق أن يفرض قوانين الدولة الليبية على مناطق الاستثمار المخصصة للمستثمر الإماراتي؟.
هذا الاستثمار الإماراتي وإن كان بعض الليبيين يرون فيه نواحي إيجابية لإعادة إعمار مدينة بنغازي، وتوفير فرص العمل، وازدهار التجارة، إلا أنه سيكون بداية لتغلغل أجنبي له عواقبه وأضراره التي ستظهر مستقبلاً، خاصة والنسيج الاجتماعي للمدينة ممزق ومثخن بجراح سنوات طويلة من الحرب والصراعات التي دفعت فيها المدينة ثمناً باهظاً، لقد فقدت بنغازي ما يقارب ثلث سكانها ما بين قتيل وجريح ومهجر ونازح، هناك من يخطط لأن يملأ هذا الفراغ ومن المتوقع بأن التركيبة السكانية المعروفة لبنغازي ستتغير مستقبلاً إذا استتب الأمر لهذا المستثمر الجديد، وقد يكون هناك طرف ثالث غير ظاهر الآن يختفي وراء هذا المستثمر الإماراتي الذي لم يأت فجأة، بل جاء وفق مخطط مدروس عمل على تنفيذه منذ سنوات طويلة، هذا الاستثمار يمكن وصفه بحالة استعمارية شبيهة بحالات الاستعمار التاريخية التي عانت منها الدول العربية وكثير من دول العالم الثالث، الفارق أن المستعمر اليوم عربي وليس أجنبي أوروبي، شكل جديد من أشكال الاستعمار الحديث وبوسائل جديدة، استثمار يقوم على طرد أصحاب الأرض من أرضهم بالقوة وإجبارهم على بيع أملاكهم، هو بلا شك استعمار، ما حدث في مناطق اللثامة وسيدي خريبيش وجليانة والصابري ووسط المدينة في سوق الحوت وما حوله من أحياء وشوارع عريقة، يؤكد بأن هذا الاستثمار الأجنبي الدخيل لم ولن يأت بخير لليبيين، وقد مارست قوات حفتر التعتيم الكامل على ما يحدث في بنغازي من انتهاكات واغتصاب لأملاك الناس، وتهيئة الأرض للمستثمر الإماراتي القادم من وراء الحدود، إلا المنظمات الدولية وثقت ذلك، في 4 سبتمبر عام 2023م قال خبراء في الأمم المتحدة: “إنه يجب على الجيش الوطني الليبي التوقف فوراً عن إخلاء السكان قسراً وهدم المنازل في وسط مدينة بنغازي وإنهاء الأعمال الانتقامية والعنف ضد المتظاهرين الذين يحتجون على عمليات الإخلاء هذه”.
وقال الخبراء أيضا: “منذ شهر مارس من عام 2023م أُجبر أكثر من 20 ألف شخص من سكان بنغازي على إخلاء منازلهم في خلال وقت قصير للغاية على يد أفراد كتيبة طارق بن زياد والكتيبة 20/20، كما أجبروا على التخلي عن ممتلكاتهم أو وثائق الملكية الخاصة بهم”، ووفقاً للتقارير التي تلقاها الخبراء، لم تكن هناك مشاورات مسبقة مع السكان المعنيين ودون أن يتم الإبلاغ علناً عن عملية اتخاذ القرار، وذكر الخبراء: “بأن عمليات الهدم المتعمد، بما في ذلك للأحياء التاريخية والمواقع التراثية المحمية والعديد من الوحدات السكنية، قد تسببت بالفعل في ضرر لا يمكن إصلاحه للبناء المعماري الحضري والتراث الحي للمدينة وأثرت بشكل نهائي على أسلوب حياة السكان”، وفي أغسطس عام 2024م تلقى المركز العربي الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون الدولي نداء استغاثة من بعض أهالي مدينة بنغازي بضرورة التدخل لوقف أعمال مصادرة عقارات المواطنين بالقوة وإرغامهم على التوقيع على مستندات تنازل بالقوة لصالح أشخاص مجهولين.
استثمار هكذا هي بداياته اغتصاب لأملاك الناس وطردهم من بيوتهم لا يبشر بخير، وسجل دولة الإمارات الحافل بالجرائم واغتصاب الحقوق ونهب ثروات الشعوب في كثير من دول المنطقة من حولنا موثق وبالأدلة وليس خافيا على أحد، ونحن الليبيين يجب أن نعي ذلك جيداً وأن لا ننخدع بالتسويق الإعلامي والوعود الكاذبة، ومن المهم أن يرتقي مستوى وعي الليبيين إلى الإحساس بمعاناة إخوانهم الذين طردوا من بيوتهم، وصودرت أملاكهم ، لأن المثل العربي يقول: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، يجب بأن يكون مستوى الوعي عند النخب وعامة الناس والبسطاء وكل فئات المجتمع الليبي أقوى من الانبهار بالعمران والأبراج والبنى التحتية المتطورة ورفع سقف الأحلام والطموحات لأن المستثمر الإماراتي ليس من مصلحته أن تنهض ليبيا اقتصادياً.
ما فعلته دولة دولة الإمارات في اليمن دليل قاطع على سياساتها العدوانية، وأنه لا خير يأتي من ورائها، فقد كان لها دور في إشعال الحرب في اليمن، ونكلت بالأحرار والوطنيين المدافعين عن أرضهم، واستولت على المواقع الاستراتيجية الهامة من موانئ وجزر على بحر العرب وفي المحيط الهندي، واستولت على أرخبيل جزر سوقطرى اليمني، ونهبت ثرواته، وقد أدركت بعض دول المنطقة حقيقة الإمارات، ونواياها الاستعمارية، وقامت بإلغاء الاتفاقيات والعقود الموقعة معها، في فبراير عام 2018م أعلنت جيبـوتي عن إلغاء عقـد الامتياز الممنـوح لشـركة موانـئ دبي العالميـة لتشغيـل محطـة دوراليـه للحاويـات لمـدة 50 عامـا، وقد كانت ضربة موجعة لدولة الإمارات، الأزمة بين الجزائر والإمارات تعطينا مؤشرات واضحة عن حقيقة سياسة دولة الإمارات العدوانية التي تهدد مصالحنا وأمننا القومي، في 23 ديسمبر 2023م نشرت جريدة الخبر الجزائرية المقربة من النظام الجزائري تقريرا بعنوان: “الشر القادم من الإمارات إلى الجزائر ثم السودان”، وقالت لويزة حنون زعيمة حزب العمال: “إن الإمارات أعلنت الحرب على الجزائر خدمة للكيان الصهيوني، وتُغرق بلادنا بالمخدرات عبر ليبيا، وتحرض على الحرب بين الجزائر والمغرب، وتريد عزلة الجزائر عبر دفع موريتانيا وتونس للتطبيع “.
في أغسطس عام 2023م عندما لم يتم قبول طلب الجزائر في الانضمام لمنظمة البريكس صرحت مصادر جزائرية لموقع “عربي بوست ” بأن الجزائر متيقنة من أن الإمارات التي دخلت البريكس مؤخراً لعبت دوراً حاسماً في إفشال مساعيها لدخول منظمة البريكس، وذلك بالتنسيق مع الهند، وأضافت المصادر نفسها بأن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون صرّح في لقاء إعلامي لم يُبَث بأن الإمارات دفعت الهند للعب دور الفيتو ضد دخول الجزائر لمجموعة البريكس الاقتصادية.
وفي خطوة تصعيدية من الجزائر ضد دولة الامارات وردا على سياساتها العدوانية قامت الجزائر بفض الشراكة مع موانئ دبي العالمية ذائعة الصيت والتي تطمح للسيطرة على أهم الموانئ في العالم، كما تم وقف التعاون العسكري مع الجيش الإماراتي، وأيضا فض الشراكة في مصانع التبغ وهي استثمار مشترك إماراتي – جزائري، ولكي نفهم حقيقة الاستثمارات الإماراتية في الجزائر فإن تصريحات زعيمة حزب العمال لويزة حنون توضح لنا الحقيقة الغائبة عن كثير من المنبهرين بالإمارات وسياساتها الاقتصادية في المنطقة عندما قالت عن الاستثمارات الإماراتية في الجزائر: “بأنها لم تجلب أي فائدة للجزائر، وإنما العكس لا سيما في مصانع التبغ”.
في أبريل عام 2024م هاجم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون دولة عربية، واتهمها بإشعال الفتن، واستخدام مالها من أجل التخريب والفتن وقال تبون: “إن تصرفات هذه الدولة غير منطقية، رغم أننا نعدّهم أشقاء، لكننا إلى الآن، لم نتحدث بكلام فيه عنف بحقهم، لكن يبدو أنه أخذتهم العزة بالإثم”، وأضاف تبون: “كيف الإنسان يخصص أمواله من أجل التخريب، الفتنة ملعونة، وكل الأماكن التي فيها تناحر، مال هذه الدولة موجود في الجوار، مالي وليبيا والسودان”.
مؤلم جدا وإهانة لكرامتنا الوطنية نحن الليبيين أن دولة لا يتجاوز عمرها 53 عاما تريد أن تقرر مصير ليبيا الضاربة في أعماق التاريخ، تقول كتب التاريخ: “في مطلع القرن التاسع عشر وقبل 200 عام في ذلك الزمن الذي لم تظهر فيه دولة الإمارات العربية المتحدة على خرائط الجغرافيا السياسية في المنطقة، وكانت عبارة عن إمارات ومشيخات متجاورة تسمى بالإمارات المتصالحة، كانت الدولة الليبية دولة موحدة ذات سيادة ومعترف بها دولياً وإقليميا، ووقعت الاتفاقيات مع الدول الأوروبية واستقبلت قناصلهم في طرابلس، وازدهرت فيها التجارة وكانت حلقة وصل ومحطة عبور لتجارة أوروبا مع أفريقيا، فهل يعقل أن تقفز هذه الدولة على حقائق التاريخ والجغرافيا؟.
قد يرى البعض بأننا نتحامل على دولة الإمارات انطلاقا من توجه سياسي، أو حسابات أخرى ضيقة، وهذا مجانب للصواب، إمارات اليوم ليست كما كانت بالأمس عندما كان يقودها زائد بن سلطان الذي أنفق أكثر من 80 مليار دولار لدعم الدول العربية والإسلامية، والذي قال قولته الشهيرة في حرب أكتوبر عام 1973م عندما اتفق العرب على حظر بيع النفط للدول الغربية المساندة لإسرائيل للضغط عليها، قال الشيخ زايد: “إن الذين قدموا دمائهم في معركة الشرف قد تقدموا الصفوف كلها، وإن النفط العربي ليس بأغلى من الدم العربي، إننا على استعداد للعودة إلى أكل التمر مرة أخرى، فليس هناك فارق زمني كبير بين رفاهية البترول وبين أن نعود إلى أكل التمر”.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً