الأهرام اليومي
دارت الأحداث الأخيرة في ليبيا بصورة دراماتيكية مذهلة و كأن المتابع لمجريات الأحداث هناك يشاهد فيلما أمريكيا شطح فيه خيال المؤلف لأن يختطف ارهابيون من القاعدة رئيس الوزراء انتقاما لاختطاف زميل لهم علي أيدي القوات الأمريكية بعلم الحكومة الليبية.
فما هي إلا ساعات قليلة فصلت بين قيام قوات أمريكية بعملية علي الأراضي الليبية اختطفت فيها أبو أنس الليبي المتهم الرئيسي في أحداث تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام منذ حوالي15 عاما, وبين تصريح لجون كيري وزير الخارجية الأمريكي قال فيه إن القبض علي أبو أنس الليبي تم بعلم الحكومة الليبية والتنسيق معها.. ثم تذيع كل وكالات الأنباء خبر اختطاف الدكتور علي زيدان رئيس الحكومة الليبية علي أيدي مسلحين ملثمين ردا علي اختطاف أبو أنس الليبي. ومع تدافع هذه الأحداث و تطورها تهاجم ذهنك أسئلة عديدة منها: من يحكم ليبيا؟ وأين الدولة؟ وعلي من تقع مسئولية أمن المواطن العادي بينما لا تستطيع الحكومة حماية صاحب أكبر سلطة فيها؟.. لذلك تحاول السطور التالية الرجوع لأصل الأزمة فيما وصلت إليه ليبيا اليوم.
فمع وصول نسائم الربيع العربي إلي ليبيا, لم يكن هناك أعلي من صوت الثورة. والحقيقة أن أحدا لم ير شيئا من الحقيقة لأن هذه النسائم كانت محملة بالغبار الكثيف ما بين الشرعية الثورية والعنف نتيجة طبيعية للقمع ومشروعية الاستقواء بالخارج مقابل الخلاص من الديكتاتورية. وأخذ الجميع في حالة التدافع الثوري ربما بلا سبب حقيقي سوي مجاراة موجة الثورة وانطبق هذا الحال علي الجميع, إلا فئة قليلة كانت تتحسس أسلحتها وتنتظر اللحظة المناسبة لتغيير مسار الأمور حسب مصلحتها وأجندتها الخاصة. وكانت هذه الفئة هي أسوأ من تحسبهم علي التيار المتأسلم.. السلفيين الجهاديين التكفيريين.
وأبناء هذا التيار يصرون حتي اليوم علي وصف أنفسهم بالثوار, رغم أنهم وضعوا أيديهم في أيدي الغرب الذي يصفونه بالكفر والالحاد, ويقتلون المدنيين من أبناء جلدتهم بلا ذنب في الشوارع, ولا يتوانون عن تفجير مواقع في بلادهم يروح ضحيتها أبناء وطنهم, هذا فضلا عن قيامهم بتدمير فكرة مؤسسات الدولة المنتخبة وهيبتها وهذا كله باسم الشرعية الثورية. وكل يوم جديد يطلع علي ليبيا يشهد تدهورا أسوأ من ذي قبله لدرجة يصعب معها الإجابة علي السؤال المحتوم: ليبيا إلي أين؟
وعلي الرغم من وجود حكومة شرعية منتخبة يفترض أن لها سلطة تمكنها من فرض النظام علي الأرض, إلا أن هذا لم يحدث لا بسبب قوة المليشيات الجهادية المسلحة فحسب, ولكن علي الأحري بسبب ضعف هذه الحكومة. فمنذ اللحظة الأولي حاولت الحكومة شراء ولاء هؤلاء المسلحين بضمهم إلي قوات الشرطة والجيش وأذعنت لمطالبهم المادية والسلطوية التي لا يعقلها أحد بحجة أنهم ثوار ليبيا الذين أسقطوا عنها الديكتاتور الذي ظل جاثما علي صدورهم لأكثر من40 عاما. فكانت النتيجة أن هذه الحكومة هي أول من يعاني آثار الفوضي العارمة التي حلت بالبلاد وهي في حالة من السلبية وقلة الحيلة.. ويكفي أن تصريح زيدان بعد الافراج عنه حاول دون جدوي التخفيف من وطأة الأمر حين قال إن الحادث يندرج في إطار المناكفات السياسية(!!).
أما الولايات الأمريكية المتحدة, فلا يمكن النظر إلي ما فعلته في نفس الاطار القديم الذي ظللنا نراها فيه لسنوات وهو أنها القوة العظمي التي لا تنسي ثأرها مهما مر عليها من الزمن. لكن توقيت العملية علي الأرجح يأتي برسائل عديدة للعالم وللمنطقة أهمها أنها لازالت تملك مفاتيح زعزعة أمن واستقرار أي بلد تحت غطاء من العدل وتطبيق القانون ومكافحة الارهاب والثأر لأرواح مواطنيها الأبرياء, ربما ينسي العالم بذلك فشل واشنطن في شن الحرب علي سوريا أو يغض أحد الطرف عن الانهيار الاقتصادي الذي تعانيه ويهدد مؤسساتها الحكومية أو يمحو من ذاكرة الشعوب العربية فضح أمر حلفائها باسم الدين وهم في الحقيقة رعاة ارهاب وعنف. فالعملية كلها لا تهدف إلا للتأكيد علي أن الولايات المتحدة مازالت قوية ولها أيادي تطول بها ما تشاء. لكن الحقيقة التي أرستها واشنطن علي الأرض ـ في غفلة منها ـ هي أنها كانت سببا في تقوية شوكة هؤلاء الجهاديين.. وإن لم تكن هي هدفهم اليوم فستكون كذلك في أقرب فرصة لتجني ما جنته علي أبناء المنطقة وبالا في لحظة انهيار تاريخية يترقبها الكثيرون.
أما الطرف الحاضر الغائب في هذه المعادلة الليبية المخضبة بالدماء فهو الشعب الذي لم يعد أمامه سوي الفرار بروحه من جحيم بلاده وهو يراها تتجه نحو النموذج العراقي ولا يجد حتي قوة جيش أوشرطة تحميه وتحمي أرضه وتصون استقراره.
اترك تعليقاً