بعيدا عن الجدل الفلسفي والتاريخي لمعنى الديمقراطية، فإن اوضح صورها واجله هو قبول الاخر وعدم اقصائه، وفي السياسة حكم الاغلبية مع احترام وصون حقوق الاقلية، وحتى لا نبتعد كثيرا عن الصواب في فهم معنى الاغلبية، فالأغلبية هنا لا تعني اغلبية القبيلة او غلبة السلاح، وانما الاغلبية البرلمانية التي تمثل طائفة من الشعب تتشكل من نسيجه الاجتماعي المختلط، وتشترك في مصالحها السياسية وفي برامجها في إدارة شؤن الدولة، وليس مراعاة مصالح فئة معينة او ادارة شؤن قبيلة او قرية او مدينة على حساب باقي القبائل او القرى او المدن… ولعل سنام الديمقراطية ورأس هرمها يكمن في التسليم للذي لا حول له ولا قوة بحقوقه في ممارسة حريته بالأسلوب الذي يشترك فيه في المسؤولية مع الذي له كل الحول وكل القوة المادية والسياسية.
الله والشيطان:
هذا الدرس الديمقراطي نراه في مسلك الله سبحانه وتعالى – رغم انه خالق لكل ما سواه عظيم القدرة على كل المخلوقات – مع الشيطان الرجيم رغم انه مخلوق لا قدرة له على شيء الا بما وهبه الله له من قدرة ومن حول، ففي سورة البقرة الاية 34، نقرا قوله عز وجل “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ” وقد تكرر هذا المعنى في الاعراف الاية 11 حيث يقول المولى سبحانه “إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ” وفي الاية 61 من سورة الاسراء في قوله “إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً” وفي الاية 50 من سورة الكهف “إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ” وفي سورة طه الاية 116 “إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى”. لقد رفض الشيطان امر الله سبحانه فكفر وابى وتكبر وفسق عن امر ربه بنص الآيات السابقة، وقد فعل كل ذلك وجادل وهو عالما بما يجادل فيه عارفا بمن يجادل مدركا لما يجادل فيه.
ولم يستعمل الله جبروته وقدرته في سحق الشيطان ونسفه، بل جادله وكأنه ندا له، نقرأ قوله تعالى:”مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَ”، ويترك للشيطان حق الاجابة والتعليل فيقول الشيطان مجادلا خالقة “أَنَا۟ خَيۡرٌ۬ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِى مِن نَّارٍ۬ وَخَلَقۡتَهُ ۥ مِن طِينٍ۬”. فماذا رد الله سبحانه وتعالي على حجة عبد من عباده الذي استقوى “بديمقراطية” ربه؟ نقرأ قوله تعالى كرد على تكبر هذا المخلوق: “فَٱهۡبِطۡ مِنۡہَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيہَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ”. انظر الى هذا الرد الديمقراطي، لم يسجنه ولم يوصي زبانيته بان يعدبوه ويجروه ويمنعوه وهو قادر على ذلك، بل تركه حرا لمصيره الذي اختاره، الا انه بهذا الاختيار اصبح غير صالحا للعيش في الجنة التي ينتفي فيها الكبر والخيلاء والعصيان، فمكانه ثمنا لمعصيته ان يخرج من هذا الفضاء النقي الذي لا تدنسه النفوس المتكبرة.
ويستمر الشيطان في جبروته امام خالقه، ويستمر خالقه في سماحته مع عبدا من عباده تطاول عليه وعصاه وهو عالما بقدره، فيجرى القرآن على لسانه “أَنظِرۡنِىٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ”، فيرد عليه المولى عز وجل “إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ” أي اذهب فانت حر. ويزداد تحدي الشيطان الضعيف قدرة خالقه فيقول “فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِى لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٲطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ” بمعنى سأعمل ضد مشيئتك واجعل من عبادك عصاة ومتكبرين وسفلة بما منحتني من قوة وما اجزيت به علي من حول.
حوار جرى بين عبد ضعيف اكتسب قوته من سيده وبين سيد له مطلق الارادة ومشيئته فوق كل مشيئة وقدرته فوق كل قدره، ومع ذلك لم يخرجه عصيان عبد من عباده عن سماحته ولم تسمح سماحة الله سبحانه ان يمارس على الشيطان صولجان سلطانه والات تنكيله، بل اطلق له يديه ليفعل ما يشاء على ان يتحمل نتيجة فعله ويتحمل من تبعه نتيجة عمله “وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِينَ”.
موسى وفرعون:
لا يتوقف امر ممارسة الله سبحانه للديمقراطية مع الشيطان فقط حتى يحسب استثناء وليس قاعدة، نرى نفس الامر يتكرر مع فرعون، فالله جل وعلا لم يقدف بفرعون في اليم، ولم يمارس عليه سلطانه بل تركه لخيارته وبعث له عبدان من عباده لمجادلته، فنابوا عنه وقد منحهم الله القدرة على تحدي فرعون، الا انه لم يأمرهما باستخدام تلك القدرة بل طلب منهم ان يجادلاه لعله يتراجع عن غيه وظلمه. فنقرأ قوله تعالى من سورة طه “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قال: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46). فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قد جئناك بآية من ربك. والسلام على من اتبع الهدى. (47)”.
هنا ايضا تتجلى الديمقراطية الالهيه في قوله تعالى:”فقولا له قولا لينا” وفيها دعوة الى الجدال وعرض الحجج باللين من القول، فاللين في القول تتفتح له القلوب وتركن اليه النفوس وتهدأ به الخواطر، انه ليس رسالة فوقية فيه امر قد ينفر وينهض كبرياء القادر على من يعتقد في ضعفه، اللين لا يثير العزة بالإثم ولا يهيج الكبرياء، بل فيه إحاء سلس من نفس لطيفة الى نفس أنفة بعزة السلطان وجاه الملك، والمرجو من اللين في القول هو ما يليه من قوله تعالى “لعله يتذكر أو يخشى”. وهذه “لعله” التي تأتي في هذه الاية تطرح مفهوم الدعوة الحقيقية، اذ الدعوة لا تعني ان يقبل المدعو لهذه الدعوة او ان تفرض عليه، لا تعني ان المدعو سيقبل دعوة الداعي، ولا تعني جبره ان امتنع، فالامر للمدعوا وله ان يقبل او ان يرفض. يقول المولى في موضع اخر الاية السابعة من سورة عبس “وما عليك الا يزكي”، ونفهم من هذه الاية أن ليس مهمة الداعي ان تقبل دعوته، قد تقبل وقد ترد ذلك شأن آخر، شأن تتجلى فيه حرية الارادة البشرية في الاخد والترك، فإذا كانت هذه الارادة هبة الاهيه من الله لمخلوقه البشري، فأنا للبشر ان يقاسم بشر اخر ارادته؟!…
ابراهيم والملائكة:
وللحوار الديمقراطي الالهي مستويات عدة، نذكر منها ايضا مجادلة ابراهيم مع ملائكة ربه ومحاولة ثنيهم عن تعذيب القرية الظالم اهلها، كما ورد في الاية 74 وما بعدها من سورة هود:”فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)” وقصة هذا الجدل معروفة إذ جادل ابراهيم عليه السلام الملائكة في أمر تعذيب قوم لوط، وورد في ذلك، أنه لما ذهب عنه الروع، وطابت نفسه وأخبروه بعزمهم على عقاب قوم لوط وهلكهم، أخذ يقول أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها كذا وكذا مؤمن.. حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته.
فإذا كان هذا عمل الله ومنهاج المرسلين المكلفين، اي تكريس الحوار والجدل وارساء دعائمه، فالاولى للمسلمين – وهم دون الله ودون انبيائه ورسله – ان يقتدوا بهذا المنهاج، خاصة هؤلاء الذين ينخرطون في تيارت الاسلام السياسي ويحملون السلاح للدفاع عنه، ولعمري اني لاقف مشدوها عندما تتعالى صيحات التكبير عند كل اطاحة براس انسان او ضرب عنقه او جلده او صلبه، ولا ادري كيف يقف من يفعل هذه الشنائع امام الله بعد كل قتلة مصلين او قارئين للقران، حتى لقد اصبحنا ننفر من صوت التكبير، خشية ان يعقبها راس قطعت او جسد صلب او سيارة نهبت او مسكين اختطف.
والله من وراء القصد
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً