وطننا الغالي ليبيا.. مدننا وقرانا الحبيبة.. شعبنا الأبي الطيب.. مجتمعنا المتماسك المحب للخير المتعاطف مع الغريب قبل الشقيق والصديق.. كم كنت عظيمًا شهمًا تمد يد العون لأشقائك من جيرانك وغيرهم.
كيف كنا عندما تحزن بنغازي تتألم لها الزاوية، وعندما تحزن طرابلس تتألم لها درنة، وعندما تتألم سبها يسارع أهل الشمال بكل مدنه وقراه لفزعة إخوتهم في الجنوب، هكذا كنا، لم نعرف الحقد ولا الحسد ولا الكره، كنا مجتمعًا متآلفًا يحب الفرد فيه لأخيه ما يحبه لنفسه، مجتمع يحترم الأصول والعادات والتقاليد، ويخاف علي نسائه ويحترم المرأة والطفل يحرص على تربيته ونشأته النشأة السليمة، كنا في معظمنا ملتزمين بعباداتنا الإسلامية وفقًا للنصوص القرأنية والسنة المحمدية مؤكدة، وعامتنا كانوا لا يعرفون الدين إلا من خلال هذين المصدرين.
وكذلك وجدنا آباءنا وأجدادنا يحثوننا على الأخذ بالمذهب المالكي دون التعصب له، بل يقولون لنا : إن في اختلاف المذاهب الأربعة رحمة، فالعمل أو العبادة التي لا تستطيع الإتيان بها لسبب أو لأخر في المالكية ويمكنك تنفيذ ما نص عليه أحد المذاهب الأخرى كالشافعي أو الحنبلي، فلا ضرر من الأخذ بذلك خاصة في عبادة الحج والصوم وغيرها.
نعم كنا لا نعرف الغلو في أي شيء، عشنا في مجتمع له أخلاق البادية وكرمها، وحتي من تحضّر منا في مدننا لم يرمِ خلفه هذه الأصول والمعتقدات والتقاليد الدينية والاجتماعية.
وأقولها بوضوح: حتي المذنبين والعصاة منا نجدهم بعد فترة يتوبون ويعودون إلي الدين والأخلاق والعادات الحميدة التي نشأوا وترعرعوا عليها.
نعم هكذا كان المجتمع الليبي ببنائه الاجتماعي المتماسك، فماذا حدث لنا؟!
سؤال مهم، وللإجابة عليه، فإن الأمر يتطلب الرجوع إلى نقاط مهمة وجوهرية منها:
أولا: النظام التربوي في المجتمع الليبي
حيث تلقى هذا النظام ضربات قوية ومتتالية من خلال قيادته السياسية الحاكمة من بداية من سبتمبر 1969 عندما بدأ إلغاء المناهج التربوية بالتعليم الأساسي والمتوسط، إلى جانب إهمال مرحلة التنشئة الاجتماعية للأطفال في رياض الاطفال ( الطفل تربيه أمه) والام غير مؤهلة للتربية السوية.
ثانيا: تفكيك البناء الاجتماعي المميز للأسرة الليبية.
من خلال العمل علي تقزيم دور الأسرة والعشيرة والقبيلة اجتماعيًا وإدخالها في برامج سياسيه تستهدف تأييد ومبايعة والدعاية للنظام والفكر المطروح وإدخال مجموعة من المقولات البراقة التي تحرض الفتيات والشباب على الخروج عن طاعة الوالدين والعرف والتقاليد، وهذا كان ملموسًا معروفا، مع إلغاء مراكز الرعاية الاجتماعية للأسرة التي كانت تقدم العون للأسر الفقيرة في برامج تربيتها لأطفالها اجتماعيا وثقافيا وتقوم بتأهيل الأمهات، لذلك تم هذا الإلغاء بأن في المجتمع الجماهيري الاشتراكي الشعبي لا وجود لأسرة فقيرة وأسرة غنية!
ثالثا: خلخلة البنية الثقافية للمجتمع الليبي وتهميشها
تم ذلك من خلال استهداف الوسائل والمؤسسات التي تعني وتهتم بالثقافة، ففي البداية أغلقت تدريجيا الصحف الخاصة إلي أن انتهت إلى أربع صحف موجهة ومؤدلجة بفكر واحد، بعد أن كانت أكثر من خمسة وعشرون صحيفة ومجلة، ما أدى إلى إيقاف الإبداع الثقافي وتنوعه، علاوة على إغلاق المراكز الثقافية غير الليبية ثم الليبية بشكل واضح وإلغاء المكتبات العامة، وحظر النشر ودخول الكتب إلا في إطار واحد معروف ثم إغلاق دور العرض السينمائية وعدم الاهتمام بالمسرح بعد أن كانت مدن مثل بنغازي وطرابلس بها أكثر من عشرين دار عرض تحولت إلى دار عرض واحدة خجولة في طرابلس وهي ” الودان”.
مقابل ذلك تم الاهتمام بالرقص والفنون الشعبية في إطار تسخيرها للتطبيل للفكر السائد أو تغييب الشباب في رغبته بالرقص والترفيه غير الهادف أو عديم الجدوي التربوية والثقافية التي تخدم الرقي بالذوق العالم بل تسهم في إفساده.
رابعا: تقزيم دور المؤسسات الأهلية والأندية الرياضية
كان للأندية الرياضية دور اجتماعي وثقافي مشهود له، وبرامج تنظمها الدولة لبعث روح التنافس الثقافي والاجتماعي بين الشباب المنتسبين للأندية، ولكن تم وأد كل المحاولات التي سعت لإحياء هذا النشاط بل لحق التقزيم حتي بالنشاط الرياضي ذاته والجميع يعلم ذلك.
كل هذه العوامل مجتمعة وغيرها أوصلتنا الي ما نحن فيه اليوم، شباب ضائع، جزء ليس بالقليل منه يتعاطى المخدرات التي توافرت سواء من قبل النظام أو بغضه النظر عن مكافحتها، إلا بعض الجهود الوطنية المخلصة من قبل رجال المكافحة، وهي لا تقاس بما يتم دخوله وتسريبه إلى داخل البلاد.
وأصبح معظم شباب اليوم فقير ثقافيا وعلميا وماديا، حتى باتوا لقمة سائغة وعجينة قابلة للتشكيل لمن يعطيه النقود ويغدق عليه العطاء ويدخل في عقله أي أفكار أو صورة يرغبها لتحقيق أهدافه، وهذا ما حدث بانتساب الشباب للتنظيمات المتطرفة والكتائب ( الدروع)، ولو تم وقف المال عن هؤلاء فسينسحب الشباب ويعطونهم ظهورهم.
ماذا تتوقع من شاب فقير أسرته لم تنشئه تنشئة اجتماعية جيدة للأسباب السالف ذكرها، تسرب من التعليم السيئ أصلا، ويجد أحدا يمنحه ألف دينار أو أكثر ويعده بالجنس في الدنيا من خلال نكاح الجهاد وفي الحياة الثانية مع الحور العين؟!
مع كل هذا الذي طرحته نجد أن العالم أصبح قرية صغيرة، فهذا الشاب أصبح يشاهد ثقافات وأساليب حياة لشباب آخر في العالم يمارس أفعالا لا تتفق مع ديننا وثقافتنا وعاداتنا العربية الأصيلة، وهو ما زاد الأمر سوءًا.
أضف إلى ذلك أنه بعد ثورة فبراير ظهرت قنواتنا الفضائية التي قادها معدون ومقدمو برامج يفتقدون إلى أبسط شروط المهنية الحقيقية التي تخدم المجتمع، فضخموا “بوكا” وجعلوه بطلاً، وقزموا الخبراء والعلماء والمثقفين، بل ساهموا في هروبهم أو اغتيالهم.
إن معالجة هذا الواقع المرير ليست بالسهلة، نعم المشوار طويل والأشواك تعتريه، ولكن لابد أن نبدأ جميعًا- مسئولين وحكومة ومثقفين وشعبا ومعلمين وإعلاميين- من الآن إذا كنا وطنيين صادقين ويهمنا أن يعود وطننا كما كان .
حتي في هذه الايام العصيبة، علينا أن نسعى إلى بث روح التراحم فيما بيننا، ومساعدة كل منا الآخر، والعمل علي لم الشمل ونبذ الفتن والعنف والحسد والشماتة، وثقافة الانتقام، فكلنا ليبيون، قد نكون مختلفين، ولكننا لسنا أعداء.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً