أعلام من وطني.. قامات منسية!

أعلام من وطني.. قامات منسية!

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

هناك شخصيات وأفراد من شعبنا تركوا بصمات وآثارا ايجابية في مجتمعنا, وأعمالاً ومواقف مشرفة لنا جميعا, ووهبوا ارواحهم لخدمة الوطن والمواطن. والحقيقة ان هؤلاء القامات والرواد, سواء كانوا أساتدة او مشائخ او علماء او ادباء او شعراء او اعلاميين, او فنانين او رياضيين او رجال اعمال او سياسيين يحق لنا ان نَعرفهم ونفتخر بهم, ونُعلم سيرتهم ومواقفهم للاجيال الحاضرة والقادمة, ومن هؤلاء:

(1)

الشيخ علي يحي معمر

 

* في 15 يناير 1980, انتقل الي رحمة الله الشيخ المناضل علي يحي معمر الذي ولد في قرية تكويت, بمدينتنا نالوت, في جبل نفوسة الاشم, بوطننا الحبيب ليبيا.

* لقد كان الشيخ ذكيا في ادراكه وفهمه, أُصوليا في مُعتقداته ومبادئه, حركيا في احساسه بوقوفه مع القضايا العادلة اينما كانت, ومتميزا بين زملائه ورفاقه, ومحدثا ومجددا في ثقافته الوطنية وحضارته الاسلامية, وكان دائما من المنادين بالعدل والسلام, والامن والاستقرار, والنهوض والازدهار لكل من يعيش في وطنه.

* لقد كان الشيخ من رواد الحركة العلمية العقلانية الإصلاحية, حاملاً شعار:

المعرفة, والتعارف, والاعتراف.

وقد قضي عمره كله ينادي ويدعو الي هذه المبادئ الثلاث بين ابناء وطنه وامته, وخصوصا اصحاب الافكار والمذاهب والاتجاهات الاسلامية المختلفة.

* لقد كان الشيخ دائما رجل الوحدة ضد الفرقة, ورجل التعايش ضد التباغض, ورجل    التوافق ضد الغلبة, ورجل السلام ضد الحرب, ورجل الاعمار ضد الدمار.

* لقد كان الشيخ مجاهدا, سلاحه القلم , ودخيرته الكلمة الصادقة, وهدفه كل من يريد ان يسمع او يجادل بالحسني, ولعل من سخافات العسكر المحزنة ان قاموا, في بداية حكمهم بسجنه مع ابنه الاكبر محمد عام 1973, نتيجة لما عُرف انداك بــ “الثورة الثقافية”, وكانت جريمته الوحيدة هي الافكار التي كان يدعو لها! وباوامر من القدافي نفسه تم حلق لحيته, لأذلاله والاستخفاف به. لماذا؟ لان الشيخ الجليل القي محاضرة, نُشرت في كتاب صغير الحجم, بعنون “مسلم ولكن يحلق ويدخن.” وقد اضطر العسكر الي اطلق سراح الشيخ بعد سبع شهور, وحكموا علي ابنه محمد بالاعدام لمجرد انه كان عضوا في حزب التحرير الاسلامي! واستناداً علي مقولة القدافي “من تحزب خان.” ولعله من المناسب, في قصة إجبار الشيخ علي تحليق لحيته, ان نتذكر الطرفة المُحزنة المُبكية التي قالها الدكتور الفيلسوف عبد الرحمن بدوي (رحمة الله وغفر له) استاذ الفلسفة بجامعة بنغازي في تلك الفترة. عندما رأي طلابه قد تم تحليق رؤوسهم ولحاهم بعد رجوعهم من معسكرات التدريب الاجباري, قال لهم الدكتور: حصل ايه؟! فرد عليه احد الطلبة: لقد حلقوا رؤوسنا في المعسكر! فقال لهم مستغرباً ومبتسماً في نفس الوقت: “ذي هم يعتقدوا ان الشعر موش ح أيوم مرة ثانية؟!”

* لقد كان الشيخ من اسرة محافظة, ترك بعده رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, اكبر ابنائه محمد رحمه الله, مات في المهجر غريقا, بعد ان فرّ من سجون القدافي الذي حكم عليه بالاعدام, وكان ابنه حسن اول من استشهد فيما عرف بمعركة باب العزيزية علم 1984, عندما اتت به اللجان الثورية الي عمارة بوسط طرابلس ورموه بالرصاص امام المواطنين, تم استشهد بعده ابنه يحي في نفس المعركة, وتم سجن ابناء الشيخ الاخرين وتعرضوا الي كل اشكال التعديب والاذلال والمهانة التي لا تخطر علي بال.

* لقد كان الشيخ استاذا, وفقيها, ومؤرخا، وأديبا، ومسرحيا, ولغوياً, وداعيا للدين والوحدة الوطنية والاسلامية, ويمكن اعتباره احد فقهاء اللغة العربية بالرغم من انه من شعبنا الامازيغي العريق والاصيل.

* لقد كان الشيخ كاتبا, ومؤلفا, ولعل من أهم مؤلفاته:

1. الإباضية مذهب إسلامي معتدل، طبع عدة مرات في الجزائر وعمان.

2. الإباضية بين الفرق الإسلامية، طبع عدة مرات في كل من الجزائر ومصر وعمان.

3. الإباضية في موكب التاريخ، في أربع حلقات، طبع عدة مرات في كل من الجزائر ومصر وعمان.

4. سمر – أسرة مسلمة، (رواية) طبعت عدة مرات في الجزائر وعمان.

ولكن المؤسف حقا,

أن جُل الليبين لا يعرفون الكثير عن هذا الشيخ الجليل, ولا عن مجهوداته, ولا عن كتبه ومؤلفاته, والمحزن اكثر ان هذه الكتب والمؤلفات قد تم طبعتها, وتوزيعها, وقراءتها في اماكن  آخري, الا في مسقط راس هذا الشيخ الجليل, الذي كان يعيش في وطنه, ويحب شعبه, ويخاطب ساسته ونخبه في هذه المؤلفات!!! لقد كانت ولازالت الي هذا اليوم شهرته, علي سبيل المثال, في دولة عُمان والجزائر كبيرة جدا, وتعتبرون مؤلفاته مرجع من المراجع الاباضية المعتمدة, أذا لم تكن من اشهرها علي الاطلاق.

فهل آن الآوان, لشعبنا الليبي الكريم, وخصوصا النخب السياسية والوطنية, ان يتعرفوا علي هذه القامة العلمية المجهولة والمطموسة في وطنه, وان يتعرفوا علي غيره من القامات والرواد, وان تقوم الدولة بتكريمهم والتعريف باعمالهم وبكل ما قدموه من مجهودات ومحاولات لإصلاح الوطن والمواطن.

وفي هذه المناسبة ادعوا كل الشرفاء ان يقراءوا صورة الفاتحة علي روح هذا الشيخ الجليل, وعلي أرواح كل روادنا ومشائخنا, وعلمائنا, ومثقفينا, وفنانينا, ورياضيينا, ورجال اعمالنا, وكل الشريفات والشرفاء الذين اشتغلوا في صمت, واعطوا بدون مقابل, بعيدا عن الاضواء محاولين إصلاح ما يمكن اصلاحة.

كما ادعو كل الخيرين ان يكتبوا ولو صفحة واحدة, علي من يعرفوا من هؤلاء الرواد والقامات (نساء او رجال) المجهولهن والمنسيين, حتي تتعرف اجيالنا الحاضرة والقادمة علي تاريخها الحقيقي المُشرف, وبذلك يستطيعوا تكميل مسيرتهم, والاقتداء بهم, والسير نحو المستقبل والبحث عن الافضل والاجمل, وحتي تعي هذه الاجيال ان الشعوب التي تجهل تاريخها ولا تحترم قاماتها وروادها لا تستحق العيش الكريم, وسيكون مصيرها حتما السير نحو المجهول, وتكون مكانها دائما في مؤخرة التاريخ مع الشعوب المتخلفة. وفي الختام, هل آن الاوان ان نبحث عن هذه الكنوز المنسية والمدفونه, وان نفتخر ونحتفل بالجوانب المضيئة في تاريخنا المُشرق والمُشرف.

ادعو الله أن يتحقق ذلك.

والله المستعان.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً