من مدينة بنغازي انطلقت مسيرة الفنان أحمد فكرون، وقد ملأ حبها لسانه وقلبه، وروحها الثائرة أنغامه، ليبزغ نجمه مبكرا ملحنا ومغنيا وموزعا موسيقيا له أسلوبه الخاص المتماشي مع روح العصر، ويصبح من مؤسسي الموسيقى العربية الحديثة، التي استفادت من الألحان الغربية ومن تقنياتها وآلاتها المتطورة دون الوقوع في فخ الاستلاب وتبديد النكهة والهوية المحلية.
ولج فكرون دروب العالمية مبكرا منطلقا من باريس ولندن وروما لتطوف موسيقاه كل قارات العالم، وتتردد كلماته الليبية ذات الحرارة الوجدانية والدفء الإنساني بين جنبات المسارح، وفي أمواج الإذاعات وأشرطة “الكاسيت”، مخاطبا بواسطتها كل الأذواق الفنية.
غنى فكرون “عابر يا زمان” و”عيونك” و”عجوز بقيثارة” و”طاحن نجوم الليل وأنت وينك” التي يحفظها كل أهل ليبيا بحلتها الجديدة، وإيقاعها المتماشي مع روح الشباب ومع الذوق المتطور المتطلع للتغيير، وهي التي مزج فيها -بسلاسةٍ- أنغام الشرق والغرب.
عن الثورة والفن ومدينته بنغازي، وحول ليبيا ومستقبلها والإبداع فيها، وما عاناه من قبل النظام الديكتاتوري وجديده الفني، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الموسيقي الليبي، الذي وصفه مقدم البرامج الفرنسي الشهير ووزير الثقافة لاحقا فريديريك ميتيران ذات يوم بأنه أول مطرب عربي يأتي إلى الساحة الفنية الفرنسية مثل حلم.
رغم انتشارك عالميا إلا أن نشاطك المحلي ظل محدود جدا على الرغم من شعبية فنك.. ما سبب صمتك كل تلك السنوات في وطنك؟
– الحقيقة لم أكن صامتا طوال فترة إقامتي في ليبيا، فبعد رجوعي من الخارج حاولت أن أكوّن فرقة موسيقية وأن أقدّم العون إلى الفرق الفنية الأخرى، خاصة الشابة، بإقامة مهرجان للموسيقى ينتظم سنويا، ولكن كل المحاولات التي بذلتها بائت بالفشل بسبب وقوف النظام ضدي.
لكن كنت متحديا هذا الفشل المقصود، فصرت أغني وأسجل أعمالي في أستديو ببيتي، وكنت أحاول أن أصل إلى الناس بطريقتي، فموسيقاي كانت رسائل إلى أبناء شعبي، وكل عمل أنجزه كان يتضمن رمزية وصورا تعبيرية تصف المرارة التي نمر بها في حياتنا.
عملت بالإمكانيات المتاحة، بعد أن وضعت كل الحواجز أمامي من أجل تثبيط همتي وزرع اليأس في نفسي. وكنت أشعر وكل أصدقائي بالمؤامرات التي تحاك ضدي من قبل النظام، وكان الغرض من ذلك إيصالي إلى مرحلة الاستسلام والجمود، وقد استمر هذا الأمر إلى أن خرجت تقنية الإنترنت فانتقلت بأعمالي من عالم واقعي إلى عالم افتراضي أسعدني كثيرا.
بعد ظهور النت ونشر أعمالك على الشبكة العنكبوتية، هل تحولت المعركة ضدك إلى معركة إلكترونية؟
– حتى على الإنترنت تمت محاربتي وتم حجب موقعي كي لا يتمكن الناس من شراء أعمالي، وهو محجوب إلى يومنا هذا، كذلك صاروا يقومون بتزوير وقرصنة أعمالي وتقديمها للمتلقي بشكل رديء حتى لا أستفيد من مردودها المادي، بالإضافة للتعتيم والضغط علي بوسائل كثيرة لا داعي لذكرها.
منذ أول أعمالي الفنية في بداية السبعينيات، وحتى قبيل قيام ثورات الربيع العربي بأسبوعين لم يتوقف النظام عن محاولة استدراجي وشرائي، وظلت المطاردة مستمرة حتى جاءت ثورة 17 فبراير التي أطلقت عليها اسم ثورة الحق، حيث أزالت الخناق عني.
الأغاني والموسيقى الشعبية وأغاني الراب كان لها دور كبير في إنجاح ربيع الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا. كيف ترى جملتك الموسيقية في معركة الحرية، وهل تابعت الثورة الليبية من هذه الزاوية بالذات؟
عند زيارتي لمدينة مصراتة سمعت من الأصدقاء أن أغنية “يا بلادي” كانت تبث يوميا في إذاعة مصراتة، وكانت تبعث فيهم الأمل وتؤنسهم في تلك المحنة القاسية التي مرت بها ليبيا، خاصة عندما كانت كتائب القذافي ومرتزقته يحاصرون عدة مدن، عندها تيقنت أن أغنية “يا بلادي” كانت ردا صادقا على أبواق النفاق، حيث قالت لهم إن ليبيا فوق كل شيء، والفنان الليبي الحر لا يمكنه أن يتحول إلى بوق وإن تواصلت المحاولات والإغراءات معه دون توقف.
أحب أن أقول أيضا إن هنالك -لا شك- العديد من الألوان الموسيقية التي واكبت الثورات العربية بجميع أطيافها الفنية، وإن كل الموسيقى والغناء الذي واكب الثورة قد أدى دوره في إنجاح هذه الثورات، فالنغم هو سلاح أشد فتكا من سلاح النار.. فالنار تجرح الجسم والموسيقى تداوي الروح وتوقظها
في عصر الثورات، ألا تحتاج الموسيقى العربية -وبالخصوص الموسيقى الليبية- هي أيضا لثورة، وما رؤيتك للموسيقى الليبية بكل أطيافها وتنوعها العرقي؟
– على ما أظن إن ما قمت به من تطوير للموسيقى الليبية والعربية كان ثورة في الموسيقى، حتى آلة القيثارة التي تم حرقها في ليبيا لأنها رفضت أن تعزف وتغني إلا للإنسان والوطن أعتبرها من شهداء الموسيقى والفن.
بالتأكيد سيكون هناك زخم فني جديد في ليبيا وألوان متنوعة من الموسيقى، انطلاقا من الثقافات المختلفة التي تثري حياتنا وتؤنسها وتزيدها حرية.
علمنا أن أنصار نظام القذافي قاموا بالعبث بشقتك في مدينة طرابلس حيث تقيم. كيف تعاطيت مع الأمر، وما شعورك حيال هذا التصرف، وما الشيء العزيز عليك الذي فقدته جراء هذه الدهم؟
– دعني أقول لك إن نظام الدكتاتور القذافي أثناء حرب تحرير ليبيا أطلقوا إشاعة بأني قصفت من قبل الناتو، وتلقى أهلي وأصدقائي الفجيعة والعزاء في بنغازي وفي كل ليبيا.
لقد دهمت هذه الكتائب بيتي وعبثوا به وقلبوه رأسا على عقب وسرقوا حتى الأجهزة الفنية التي أعمل بها، مما سبب لي إرباكا في عملي الفني إلى حد الآن، حيث إنني لم أستطع إلى الآن إنهاء العديد من أعمالي الفنية المتراكمة.
مدينة بنغازي التي انطلقت منها الثورة ماذا تعني لك، وماذا تعِدُّ لها من أعمال جديدة؟
يصمت فكرون ثم يمسك قيثارته ويبدأ في الترنم:
– “بنغازي.. مهما عليك نتباعد، كيف ننساك وأنت الأمل الواعد.. في غربتي، وين تخطري تسيل دمعتي، وتبان صورتك وصورة أمي، وحنين وشوق.. وحكاوي تاخدني لشوارعك القديمة، لأيامك الحلوة، لبيوتك وحواريك، للضحكة السمحة من وسط القلب”.
عندما سافرت في السبعينيات للدراسة في بريطانيا، حملت معك تراثا موسيقيا ليبيا أخرجته بحلةٍ جديدة وموسيقى غربية، مستخدما بدل العود المألوف لدينا القيثارة غير المنتشرة عربيا. كيف استطعت المزاوجة بين النمطين المختلفين.
– من الطبيعي أن الموسيقى دائما في حالة تطور من بداية الحياة، ودائما تأخذ ألوانا وأنغاما وأشعارا وموسيقى مختلفة الطعم. عندما فكرت في تطوير موسيقانا كانت تلك مسألة طبيعية بالنظر إلى الإرث الثقافي والموسيقي الذي كنت أبحث عنه في مراحل الطفولة في بنغازي من مختلف الثقافات، من حلقات الذكر في الزاوية الصوفية إلى الموسيقى العالمية، إلى أن اشتريت القيثارة التي أحببتها وألهمتني هذا اللون الغنائي الجديد في عالمنا العربي.
كما أن آلة القيثارة هي آلة معروفة ومحبوبة في جميع أنحاء العالم، وهي أندلسية الأصل وليست غريبة عنا، انتشرت في أوروبا في القرن الثالث عشر خلال تفاعل الحضارات العربية والغربية، فهي نتاج ما نسمعه اليوم من ألوان مختلفة في جميع أنحاء العالم. أما السلم الموسيقي الذي يتألف من سبعة نوتات موسيقية فهو لغة عالمية يعبر بها فنانو العالم بمختلف ثقافاتهم وألوانهم بكل ما يبعث الحب والدفء في قلوب الناس.
الفنان المبد اسطوره الغناء.رائد الموسيقى العربيه الحديثه.احمد فكرون لك مني الف تحيه ووفقك الله