نال رائد الفضاء السوري اللواء الركن محمد فارس (رحمه الله) بجدارة لقب “آرمنسترونغ العرب” نسبة إلى رائد الفضاء الأمريكي نيل آرمسترونغ، وهو أول شخص يمشي على سطح القمر. ومحمد فارس هو ابن مدينة حلب الشهباء، من مواليد عام 1951م، وقد تحول هذا الرجل إلى أيقونة عربية في يوم 22 يوليو 1987م، وهو اليوم الحاسم في حياته، وفي تلك اللحظات، اجتمع الآلاف خلف شاشات التلفاز، وقرب مسجلات الراديو لترقب انطلاق ثاني رحلة عظيمة لرائد فضاء عربي إلى الفضاء، بعد رحلة رائد الفضاء السعودي سلطان بن سلمان آل سعود في المكوك الفضائي ديسكفري عام 1985م، وكانت رحلة فارس ضمن برنامج الفضاء السوفياتي في مركبة سويوز M3 للمحطة الفضائية مير.
محمد فارس في الأصل هو طيار على الطائرة القتالية (ميغ 21)، وكان مدرباً للطيران في الكليات الجوية السورية، قبل أن يُختار لتمثيل بلده في الفضاء الخارجي إثر مجموعة معقدة من الاختبارات والتدريبات الشاقة في سورية وموسكو، فكانت رحلته “رحلة وطن وأمة لا رحلة شخص بذاته على حد تعبيره بعد عودته”.
استقبل السوريون آرمنسترونغ العرب استقبال الأبطال، وملأت التظاهرات الاحتفالية سورية ثلاثة أيام بعد عودته إلى أن أمرت السلطات بوقفها، وتحدث محمد فارس عن تفاصيل رحلته بأنه أجرى ثلاث عشرة تجربة علمية في رحلته، ولاقت استحسان الخبراء السوفييت أنفسهم، ولكن هذه الدراسات لم تجد أدنى اهتمام في سورية لاحقاً، وفي برنامج خاص برحلته على الجزيرة الوثائقية أدلى بالقول: “إن مركبتنا الفضائية كانت تدور دورة كاملة حول الأرض كل 90 دقيقة، ولذا كنا نشاهد الليل والنهار الأرضيين كل ساعة ونصف، رغم الظلام الدامس الذي يغمر الفضاء”.
في لقاءات اللواء محمد فارس مع الرئيس السوري حافظ الأسد كان يستشعر قلة الاهتمام الرسمي بما قام به، إذ اكتفى الرئيس الأسد الأب بمنحه وسام بطل الجمهورية العربية السورية، دون أن يُقلده إياه، وحاول المسؤولون التقليل من نجاحه؛ لأنهم – بلا شك – لا يريدون أن يظهر أي شخص في سورية يمثل الوطن إلا شخص الأسد وحده.
عاش رائد الفضاء اللواء محمد فارس طويلاً في فضاء الأحلام التي تحققت في رحلته، وغدا حديث الأجيال التي قرأت عنه في كتب الأدب والتاريخ، وكانت رحلته نجاحاً باهراً في حرب الإرادات في سبيل نهوض الأمة وتحرّرها، وظل يُحلق في فضاء العالم باحثاً عن سورية الأجمل، وحين بدأت الاحتجاجات الشعبية السورية كانت المنعطف التاريخي الأبرز في حياته، إذ شارك في المظاهرات السلمية، وأعطاها زخماً كبيراً نظراً لمكانته المرموقة لدى شريحة واسعة من السوريين، فاستدعته الأجهزة الأمنية، وحذرته، فغادر سورية لأنه رأى بأن قيمة الحرية والكرامة والتغيير أسمى وأغلى من أي شيء في الحياة (حسب قوله)، وأن ما ينقص سورية هو الخلاص من الظلم والفساد، وتحقيق الحرية، وكان يحزن حين يرى مدينته حلب ومدن سورية وقراها تُدمر تحت عينيه، وذكر في عدة لقاءات بعد استقراره في تركيا: “كنت أتمنى أن تستفيد بلادي من خبراتي أنا وزملائي الطيارين في بناء قوة جوية حقيقية للتصدي لأعداء سورية، وليس لقتل أبناء الوطن”.
كان يحلم محمد فارس أن يُحلق مرة أخرى في فضاء سورية على مكوك فضائي يحمل راية التغيير والتحول الديموقراطي، وشعلة الحرية والكرامة، ولكن انتقل إلى الرفيق الأعلى بمرض ألم به، وكان قد أوصى بأن يُدفن في سورية، حيث قابلته الجموع الغفيرة في شمال سورية، وخرج الآلاف ليُعبروا عن فخرهم، ووفائهم لهذه القامة الوطنية السامقة، وليكونوا أمناء على وصيته لهم التي تلاها ابنه بعد وفاته حين أوصى: “لا تيأسوا، واستمروا في ثورتكم”، فجدد له الجميع في جنازته عهدهم في الاستمرار على درب الآلام والآمال نحو الكرامة والحرية.
رحم الله رائد الفضاء محمد فارس، وأسكنه مستقر رحمته
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً