لن يختلف إثنان عاقلان على أن الدولة الليبية من شعب وأرض قد فقدت الركيزة الأساسية لها وهي مؤسسات الدولة؛ المتمثلة في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإن وُجد بعضا منها بوهن كبير، لم يتوفر دستورا ينظم عملها ويرتب العلاقة بينها، وهي على هذا الحال لعقود طويلة. في مثل هذه الحالات يصيب الأفراد والجماعات بؤس شديد، سببه عجز الدولة عن القيام بمهامها، فيعودون إلى الحاضنة الجهوية أو القبلية أو الأيديولوجية المذهبية لتلقي الدعم والشعور بالأمن، ومع ضعف الدولة تصبح هذه الجماعات متهافتة على غنيمة ما بقي من مقدرات الدولة، بل وتنهار المنظومة السلوكية عند قطاع كبير من الشعب بسبب غياب الرادع، بل الكثير من الناس لم يعد يتبين بين الحق والباطل (وهو ما يسمى في علوم الدين بالفتنة)، وعندها لا ينفع النصح والإرشاد الديني ولا الإصلاح الاجتماعي.
تجميع شتات الأمة من جديد يحتاج إلى جهود مضنية، بسبب عدم وجود قاعدة للتفاهم بين جميع الأطراف، والدين رغم قدسيته لم يكن قاطعا في مسألة الحكم، في حين أنه كان جليا في مسائل الشريعة، ولذا نجد انتشار العنف والقتل والسحل من طرفين مسلمين تتعالى عند كل منهما صيحات التكبير، مثلما في بنغازي ودرنة وسرت، ويعود ذلك إلى الخلفية الثقافية (وليس الدينية) فمن رجع من أفغانستان لا يرى إلا قيام الإمارة الإسلامية حلاَ للمشكلة الليبية، في حين أن من قضى حياته تحت نعال العسكر لم تتاح له سوى الحمد والشكر لأمن وأمان النظام الشمولي، وبالمثل من افتتن بالحرية والنظام والتقدم لن يرضى غير النظام المدني أو الليبيرالي بديلا، هذا غير الملكية والفيدرالية والجماهيرية.
إن عجز النخبة السياسية (بل والشعب الليبي قاطبة) على الاتفاق على ماهية الدولة المنشودة يفسر الإقصاء المتبادل والعجز المزمن لكل من مجلس النواب والمجلس الرئاسي لإيجاد حلول مناسبة للاختناقات العالقة، (أي ما يسمى شعبيا بحوار الطرشان) كل يطالب بتنفيذ رغباته وليس إرساء لقواعد الدولة التي ستعود على الجميع بالخير، ويستمر التطاحن العسكري والإعلامي والسياسي (وحتى بالأيدي) ما لم يتم الاتفاق على عقد اجتماعي مناسب.
في الكثير من الدول التي واجهت أزمات سياسية كان الرجوع إلى مواد الدستور أو إجراء تعديل له طريقة ناجحة لتخطي الصعاب، أما في ليبيا فلقد غاب مفهوم الدستور لعقود طويلة، أي لا وجود لعقد اجتماعي منذ سبتمبر 1969م، وقبل ذلك تم تعطيل الكثير من مواده في الفترة الملكية مثل إلغاء الأحزاب. أما كتابة دستور جديد دون مصالحة ولا اتفاق على ماهية الدولة فذلك ضرب من الخيال، وهو ما تواجهه لجنة الدستور الحالية؛ بين من يكتب دستور فيدرالي ذو مزايا جهوية (مع عدم ذكر الكلمة) ومن يتمسك بالمواطنة والمساواة.
وفي غياب الثقافة المجتمعية المدنية كان الركون إلى الثقافة القبلية البدوية التي ترتكز على المال والرجال والبارود، لتجر الدولة الليبية إلى بحر الأزمات والحروب والقلاقل والتي لا يمكن تفسيرها إلا بعدم وجود عقد اجتماعي أو رؤية موحدة للدولة، فكيف يبارك المثقفون ومن شاركوا في جمعة إنقاذ بنغازي حكم العسكر والتصفية الجسدية للمعارضين والإلقاء بهم في القمامة وتدمير المدينة على أهلها، وكيف يصمت هؤلاء على تعيين حاكم عسكري وعمداء عسكريين لمدن الشرق الليبي، وكيف يصمتون على الاستعانة بالعسكر الأجنبي والعربي، بالمقابل لماذا يسمي من يدافع عن أرضه وبيته في بنغازي أو درنة “مجلس شورى” حيث لا مجلس ولا شورى، ولماذا تترك الزعامة لشباب المذهب السلفي الجهادي المتشدد والمطارد من جميع دول العالم، فلو كان تسميتهم وأفكارهم دفاعاً عن مدنهم ما وجدت القوى الأجنبية مبررا لصب جام غضبها عليهم.
في الغرب الليبي الصورة مشابهة، حيث المليشيات القبلية في المجتمعات القبلية والكتائب المسلحة العقائدية في المناطق الحضرية، وهذه في جملتها وإن استطاعت تقديم بعض خدماتها للشعب مثل لجم المجرمين إلا أنها ليست مهنية في العمل (كما نراه في المطار) ورغم أنها تعترف بالدولة وأنها منضوية لها ولكنها تعمل خارج منظومة الوزارات المعنية، ومثال على ذلك المشاحنات المستمرة بينها واستيلاء بعضها على مرافق الدولة.
تحويل الفصائل المسلحة إلى قوات نظامية ودمج بعضها الآخر لا يتأتى بطواعية بل يحتاج إلى الكثير من الترتيبات منا عرض برامج لإدماجها في أجهزة الدولة المدنية بعد إعادة تأهيلها، وحتها على تسليم السلاح بمقابل، وأخيرا اعتماد عمل استخباراتي محلي يخلق انشقاقات وزعامات جديدة تؤدي إلى تسليم السلاح للدولة، كما في الكثير من الدول التي عانت من أوضاع مشابهة.
لم يبقى لليبيين إلا طريق المصالحة، وهو طريق طويل وشاق، إلا أنه الطريق السوي إلى تكوين مؤسسات الدولة، والبداية تكون بالاتفاق على ميثاق وطني يتضمن الخطوط العريضة لماهية الدولة الليبية المنتظرة وطريقة الوصول إليها.
ربما التجربة الجزائرية للمصالحة خير دليل على نجاعة هذا الأسلوب، فبعد العشرية الدموية (سنوات الجمر) التي قضي فيها أكثر من 200 ألف، مع تدمير لمدن وقرى كثيرة، اعترفت الدولة الجزائرية بقصورها وتقصيرها، وكان صدور قانون الوئام المدني (المنحاز للسلطة) الصادر في 13 يوليو 1999م والذي تم تعديله تحت إثم “ميثاق السلم والمصالحة” وتم الاستفتاء عليه في 16 سبتمبر من نفس السنة وحصل على موافقة تجاوزت 97%، ومن ذلك تم الاتفاق على أسس التعايش وبناء الدولة الجزائرية وتوقف معه العنف.
نعم في ليبيا حيث لا دستور مكتوب ولا دستور عُرفي، وحتى الإعلان الدستوري لم يتم احترامه من القوى السياسية ولم يساعد على تنظيم عمل لجنة الدستور، هناك حاجة ماسة إلى أن يخرج اجتماع المصالحة بنالوت المزمع عقده في السادس عشر من سبتمبر الجاري بميثاق وطني يتفق عليه الليبيون، هذا الاتفاق الذي يجب ان يشترك فيه الجميع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فالقوى السياسية الفاعلة مثل مجلس النواب بكتلتيه (السيادة الوطنية والداعمة للاتفاق) ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي وممثلين عن رجالات النظام السابق يجب أن يكونوا من الموقعين على الميثاق والداعمين للمصالحة، أما القوى العسكرية والقبلية والجهوية التي تحاول ممارسة السياسة فلا مجال لها لأنها ممثلة في الأجسام السابقة أو لا فاعلية لها سوى التشويش وتمييع الموقف وهو ما نراه في الكثير من الاجتماعات السابقة.
الميثاق الوطني يمكن أن يحتوي على بنود عديدة متفق عليها بين الليبيين، والتي تشكل خارطة طريق للمصالحة الوطنية وماهية الدولة التي سنعمل على بنائها جميعاً، وكل من يعمل خارج هذه البنود يعتبر مارق، خارج عن الإجماع الوطني ويستوجب إقافه بحكم القانون وسلطة الدولة، ويمكن أن يكون منبوذا اجتماعيا بطبيعة أن الميثاق يصبح رأي عام وطني محترم من الجميع، ومن هذه البنود ما يأتي:
- أن المصالحة المجتمعية اختيار وطني جوهري لا غنى عنه، ولا قيام للدولة الليبية خارج إطاره، وستعمل مؤسسات الدولة جميعها لترسيخ قواعد المصالحة في كل ربوع ليبيا.
- تعديل قانون العدالة الانتقالية رقم (12) لسنة 2013م بما يتوافق عليه الليبيون له أهمية قصوى للبدء في خطوات تنفيذ المصالحة الوطنية.
- تأجيل استيفاء الحق الخاص إلى ما بعد استكمال بناء مؤسسات الدولة ونشر ثقافة التسامح.
- وقف كل حملات التحريض وبث الكراهية من أعضاء مؤسسات الدولة والاحتكام إلى ميثاق شرف وطني إعلامي، يعاقب قانونا كل من يتجاوزه.
- التهدئة ووقف الاقتتال، ومنع استيفاء الحق خارج إطار القانون ورفع الغطاء الاجتماعي عن كل من يقوم بذلك والعمل على إعادة بناء النسيج الاجتماعي تحت هوية وطنية ليبية جامعة.
- وقف جميع حملات الاعتقال والمداهمة لأسباب سياسية أو على الهوية.
- للقبيلة دور اجتماعي مهم لإصلاح ذات البين في محيطها الجغرافي، ولا علاقة لها بالسياسة أو الحكم.
- رفض جميع أشكال العنف والتطرف من الأفراد أو الجماعات او من المؤسسات التابعة للدولة ومكافحته.
- التعددية السياسية والثقافية إثراء للعمل السياسي والفكري فلا يجب إقصاء أي منها، طالما أنها تؤمن بالدولة المدنية ومؤسساتها الديمقراطية وتلتزم بالقانون وأن يكون التنافس والتداول على السلطة سلميا.
- أهمية بناء دولة المؤسسات والعمل على المساواة في المواطنة، وهي حقوق تمارس ووجبات تؤدى ومسؤوليات تحمل، كما يجب الدفاع عن قيمة المواطن الإنسانية وحقوقه وحماية كرامته تبعا للشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
- حماية وحدة التراب الوطني الليبي في حدوده المعروفة والمنصوص عليها في الوثائق القانونية الليبية والدولية.
- الشريعة الإسلامية مصدرا أساسياً للتشريع في الدولة الليبية.
- تتكاثف جهود الدولة نحو وضع أسس ومعايير بناء جيش عصري حديث عقيدته حماية الوطن وحدوده، تابعا لسلطة الدولة ولا علاقة له بممارسة السياسة.
- إعادة تنظيم وتأهيل المؤسسات الأمنية والشرطية لحماية أمن المواطن والمجتمع وتكون تبعيتها للسلطة المدنية الديمقراطية المنتخبة.
- ثروات ليبيا لجميع الليبيين وفقاً لمبدأ وحدة الثروات، والتوزيع العادل لها ولعائداتها والتزام الدولة بوضع برنامج وطني لتحقيق التنمية المكانية في ربوع البلاد.
- بناء مؤسسات السلطة والدولة على أسس وقواعد الحكم الرشيد التي تشمل الحوكمة والشفافية والرقابة والمحاسبة.
- أهمية وضع برنامج وطني يعنى بحماية الأسرة ورفع معاناتها الاجتماعية والاقتصادية وتوعيتها بدورها في بناء الجيل الصالح.
- الاتفاق على تمكين المرأة والشباب من تأدية أدوارهم والمساهمة في بناء وطنهم.
هذه البنود التي كثيراً ما تترد على لسان الوطنيين، هي التي ستصنع تيارا وطنيا عاما يقوم بتسيير دفة الدولة إلى بر الأمان، وتبقي التيارات المتشددة ووكلاء الاستخبارات الخارجية أقلية يرفضها قطاع كبير من الشعب الليبي والذي يحول دون تلويثها للمشهد السياسي الليبي كما نراه الآن.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً