خلق الله – عزّ وجلّ – العباد ودعاهم إلى عبادته، وإلى كل ما يصلح حالهم، ويرفع في الدارين – الدنيا والآخرة – شأنهم، فحبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وهيّأ نفوسهم لاستقبال أوامره – بنشاط وهمة – بشتى أنواع الترغيب، وبأجمل أساليب التحفيز.
فتارة يخفّف من مشقة التكليف، بمناداة المكلَّفين بأحب النعوت إلي قلوبهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..)، وتارة يعلّق النفوس بما هو أفضل مما تتطلع إليه وتشتاق، وتارة يستثيرها بأوصاف الجنة وما أعدّه لعباده الصالحين ممّا لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر…!
تأمل؛ عندما زيّن الله لعباده حُبّ الشهوات – لعمارة الكون والحياة بضوابط الشرع – من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث – وذلك خير-، علّق قلوبهم، وشوّق نفوسهم إلي ما هو خير من ذلك كله، فقال جل شأنه:
“زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” [آل عمران: 14-15].
ولما كان الله – عز وجل – يعلم أن النفوس لا تنتهي رغباتها، ولا تقف عند حد شهواتها، بيّن لعباده أن ذلك لا يمكن أن يكون في الدنيا، وإنما يكون في الآخرة لمن صحّت في الله عقيدته، واستقامت على أمره طريقته.
“إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ” [فصلت: 30-32].
ولحب النفوس للتجارة الرابحة، دعاها الله للجهاد بأحب الأوصاف إليها – وهو الإيمان – وبأسلوب التشويق الذي تحبه وترغبه ..” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ” [الصف: 10 – 13] .
والمتأمل في سائر الأدلة – ابتداء من العقيدة ومرورا بالعبادات، وانتهاء بالمعاملات – يري أنها تحمل أجمل أنواع الترغيب، وأحسن طرق التشويق، وذلك بأسلوب أفضل التفضيل..
أذكر على سبيل المثال:
– في مجال العقيدة: “.. وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله.. “[حسنه الألباني في صحيح الترمذي].. وفي مجال العبادة: ” ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ” [رواه مسلم]، هذا في ركعتي السنة، فما بالك بركعتي الفرض؟! وفي مجال المعاملات: ” خير الناس أنفعهم للناس ” [رواه الطبراني، وصححه الألباني].
وهكذا تري أسلوب التشويق والتحفيز في سائر الأدلة التي تصاحب الأوامر والتكاليف الشرعية..
وحتى يتجدد للنفوس نشاطها ولا يتسرب الملل أو الفتور إليها، فضلّ الله بعض الشهور علي بعض، وبعض الأيام على بعض، وبعض الأوقات على بعض..
تأمل (ليلة القدر)؛ جعلها الله خيرا من ألف شهر، لينشط الإنسان فيها ما لا ينشط في غيرها، حيث تُختزل فيها ثواب وبركة عمر ثلاثين ألف ليلة.. ” لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ” [القدر: 3].
ولما كانت ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، رأينا الرسول صلي الله عليه وسلم يجتهد فيها أكثر من اجتهاده في غيرها.. ففي الصحيحين من حديث عائشة: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله ” .
واتخذ النبي صلي الله عليه وسلم من أسلوب الترغيب والتحفيز منهجا لبناء الرجال، وبعث الهمم…!
ففي غزوة بدر، وجد النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه وقد خرجوا معه للعير وليس للنفير، وهم في قلة من العدد والعدة، فإذا به صلي الله عليه وسلم يستثير هممهم، ويهيّج مشاعرهم، ويقوّي عزائمهم، بحكمته الصائبة، وأقواله الصادقة.. “والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ” [موطأ مالك :230].
فما كان إلا أن نصر الله المؤمنين – وهم قلة – وفرق بهم بين الحق والباطل.. “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [آل عمران: 123].
وفي خيبر، وقف النبي صلي الله عليه وسلم، يستثير همم أصحابه، ويحفّز النفوس لأسمي الغايات وأعزّ الأمنيات.. “لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.. ” [رواه البخاري].
فتشرئب أعناق الصحابة لذلك، حتى يقول عمر: والله ما تمنيت الإمارة إلا في هذا الموقف! وأعطي النبي الراية لعلي رضي الله عنه، ففتح الله علي يديه، وتحقق النصر بفضل الله ثم بفضل اختيار القيادة، وحسن توجيهها…!
فأجدر بنا – في ضوء ما تقدم من الأمثلة والأدلة – أن نتخلق بهذا المنهج الإلهي في الترغيب والتحفيز، ومنهج النبي صلي الله عليه وسلم في بناء الرجال، واستثمار الطاقات، ونتخذ من أسلوب (التحفيز) منهجا في التربية والتعليم، وفي أجهزة التأثير والتوجيه، وفي إدارتنا للأمور في جميع مؤسساتنا…!
إننا لا نستطيع أن نفجّر الطاقات الكامنة، ونستدرّ خير ما في النفوس إلا بهذا المنهج (منهج التحفيز)..
إن العمل لا يؤتي أكله، ولا يستوي على عوده، ولا يمكن أن نري إبداعا وإنتاجا إلا بهذا الأسلوب الذي يوقظ الهمم، ويستثير القِمم …!
إن الأمم التي أخذت بهذا المنهج (منهج التحفيز) في مناهجها وبرامجها، أبدعت وأنتجت، فتقدمت وسبقت سبقا بعيدا، وإن الأمم التي تجاهلت هذا المنهج وأخذت بمنهج وأد الطاقات، وقتل المواهب، توارت وتخلفت، فلا تكاد تري لها أثرا، ولا تكاد تسمع لها صوتا…!
فكم من مواهب قتلت، وكم من همم توارت، وكم من كنوز دفنت، وكم من طاقات وئدت، لأنها ابتُليت بِمَن يُحسنون الهدم، ولا يعرفون البناء …!!
وما أصدق ما قاله الدكتور أحمد زويل: الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء؛ هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.!
إن كلمة من النبي صلي الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد – ” أين خالد؟!”، ثم قوله: “ما مثل خالد من جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجنده مع المسلمين على المشركين، لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره ” – جعلته رائدا في الحق وسيف الله المسلول، بعد أن كان جنديا في الباطل وسيف المشركين …!
وإن كلمة (كرّ وأنت حر) جعلت من عنترة العبد – الذي لا يحسن إلا الحلاب والصرّ – فارسا حرا مغوارا يصول ويجول حتى أجلى العدو عن قبيلته، وأصبح حامي لواء بني عبس…!
ويبقي السؤال: لماذا تُستثار هممُ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فيُقبلون – بكثرة ملحوظة -على ما يعتقدون أنها (ليلة القدر)، دون غيرها من الليالي؟!
وتبقي الإجابة الثابتة الخالدة: إنه منهج الترغيب و(التحفيز الإلهي) الذي جعلها خيرا من ألف شهر …!!
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً