اجتماع الدول المهتمة بالشأن الليبي في فيينا بتاريخ 16 مايو الجاري على درجة كبيرة من الأهمية، وتكتسي أهميته من أنه خطوة مبرمجة للدفع بمخرجات الاتفاق السياسي إلى الأمام، في زمن عجز فيه الفرقاء الليبيون وعلى رأسهم مجلس النواب عن أداء دورهم الصحيح، وأصبح المجلس رهينة لمجموعة جهوية صغيرة من النواب ليس لها نصاب إسقاط الإتفاق ولا تريد أن تكون في صف المعارضة فمارست بلطجة غير ديموقراطية وغير مسئولة وغير مهنية لتجميد العملية السياسية برمتها. من الواضح أن المجتمع الدولي قد ضاق درعاً من هذه المراهقة السياسية ومن الداعمين لها من الدول العربية، فكان مؤتمر فيينا إذانا للخروج من هذا النفق المظلم.
إن الدعم الدولي لليبيا وإن كان بطيئا إلا أنه مستمراً بخطى حثيثة على نهجه، فبعد اتفاق الصخيرات عارض كل من المؤتمر الوطني ومجلس النواب بنود الاتفاق، فكان مؤتمر روما بتاريخ 13 ديسمبر 2015م الذي مهد للاعتراف الدولي بالمجلس الرئاسي ودخوله طرابلس وتسلمه لمقار الوزارات وبداية تعاونه مع مؤسسات الدولة في طرابلس، وبذلك توارى المؤتمر وحكومته من المشهد السياسي الليبي. بالمقابل تعنت رئيس المجلس والمجموعة المقربة له لمنع عقد جلسة حرة وشفافة وكاملة النصاب، وبروز حفتر كقوة رافضة للاتفاق وللمجهود الأممي، عجل من عقد مؤتمر فيينا بتاريخ 6 مايو 2016م، للتصريح بأن القائد الأعلى للجيش هو المجلس الرئاسي، وأنهم على استعداد لتسليحه ومنع وصول السلاح لخصومه، وأن وجود قائد عام للجيش خارج المنظومة السياسية للدولة (أي لا وجود لوزير الدفاع) مقترح غير ديموقراطي، وأن حكومات البيضاء وحكومة المؤتمر في حكم العدم، وأن الحكومة الوحيدة المعترف بها دوليا هي المنبثقة عن المجلس الرئاسي ولها الحق في أن تباشر عملها من طرابلس، وأن مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الوطنية للاستثمار جهات حكومية تابعة للمجلس الرئاسي، مع ترك شعرة معاوية لمجلس النواب من أجل إلتأمه لتعديل الإعلان الدستوري وتمرير الحكومة في أسرع الآجال والحفاظ على المرتبات المجزية التي يتقادونها دون عمل يذكر، وإلا سوف لن يكون لوجود المجلس أهمية في غياب الدستور، وبذلك قُضي الأمر الذي طال جداله وانتظاره، وكان الشرق والغرب الليبي فيه يستفتيان.
والجدير بالذكر أن وجه الاختلاف بين الداعمين الأوروبيين والأمريكان من جهة والمصريين والإماراتيين من جهة أخرى يتلخص في أمرين، أولاهما أن يكون مجلس النواب هو القائد الأعلى للجيش، وأن يكون القائد العام للجيش الليبي اللواء حفتر تابعاً لمجلس النواب، وأن يكون خارج منظومة الحكومة، أي لا يكون هناك وزيرا للدفاع يأتمر بأمره، هذا النظام لا يوجد إلا في الدول الدكتاتورية مثل مصر وسوريا وكوريا الشمالية والعراق وليبيا واليمن وروسيا (سابقا) أو الدفاع مرتبط بالعائلة كما في دولة/العائلية مثل الإمارات والأردن. وبذلك فإن الدود عن هذه اللآت في الشرق الليبي متفق عليه عند الحاضنة الشعبية لحفتر، ولكن لكل منهم أسبابه؛ فحفتر مثلا كشف في العديد من المرات رغبته في إنشاء مجلس عسكري بقيادته لحكم البلاد، أما المحيطين به من العسكريين فلهم رغبة جامحة في إحكام قبضتهم على إدارة المشتريات العسكرية المعروفة بفسادها في العهد السابق والآن وفي الدول السالفة الذكر مما يفتح باباً كبيراً للنفعيين في ظل إستشراء الفساد الإداري والمالي بالدولة. أما الحكومة المصرية فمن مصلحتها وجود وكيل ليبي داخل مفاصل الدولة لدعم إقتصادها المنهار، والذي يتنفس بالمعونات الخارجية، ويدعم هوة الفساد التي لا قاع لها، وقد تكون المساعدات مباشرة كما في عهد القذافي، أو عن طريق تشغيل الشركات والعمالة المصرية بعقود إعادة الإعمار.
مشاهد هذه الأيام تعود بنا إلى نهاية القرن الثامن عشر (إذا كنا نؤمن بأن التاريخ يعيد نفسه، أو أن الغرب أكثر فهماً لتاريخنا)، ففي تلك الحقبة كان علي باشا القره مانلي على درجة كبيرة من العجز والضعف مما جعل أبناءه يتصارعون على السلطة حتى قتل الإبن الصغر يوسف أخيه الأكبر حسن. في هذا الأثناء جهز المغامر علي برغل أصيل جورجيا تسعة سفن وفرمان تعيين من الباب العالي ووصل إلى ميناء طرابلس في شهر مايو 1793م، وبنشر بعض الدعاية مفادها ” أنه سيخلص المدينة من سيطرة اليهود واضطهاد القره مانليين” إستطاع أن يخلق حاضنة شعبية له وخاصة من ليس على وفاق مع الحكم السابق، ومكث في المدينة سنتان، خلالها أولغ في القتل وإلقاء الجثث خارج أسوار المدينة لـتأكلها الكلاب، وقتل ضباط البحرية واستولى على أملاكهم وبيوتهم، وقام باضطهاد اليهود وشدد في جمع الضرائب والمكوس، كما استولى على جميع أملاك الأسرة القره مانلية، ولم يتوقف مسلسل الموت والهدم والتنكيل إلا بزحف الأهالي مع جيش والي تونس حمودة باشا من تونس حتى أطراف مدينة طرابلس، عندها وضع علي برغل سرقاته على مراكب واتجه شرقا إلى مصر في ليلة ظلماء ليكون ضيفا على والي مصر، وقيل مات بعد ذلك في الحجاز، فهل اللواء خليفة حفتر إلا المغامر علي برغل في ثوب القرن الواحد والعشرين؟؟.
مؤتمر فيينا حول ليبيا كذلك ليس الأول، فمند 200 سنة أي في 23 ابريل 1814م انعقد مؤتمر فيينا الذي دار حول منع تجارة الرقيق () وهي منع للهجرة غير الشرعية بأسلوب القرن التاسع عشر، والذي كان له دخل جيد على الجنوب الليبي، وساعد كثيراً على تنمية الإقتصاد زمن الأسرة القره مانلية إضافة إلى الملاحة والقرصنة، تلا ذلك مؤتمر باريس سنة 1815م الذي كان له أثر كبير على الحد من العمليات البحرية الليبية، والذي يعتبر بداية النهاية لحكم الأسرة القره مانلية.
من الواضح أن الشخصيات القبلية في الشرق الليبي قد أدركت مؤخراً أنها أكبر من أن تمثل بمن لبس عباءة برقة من الفيدراليين (النواب المراهقون) والمعروفون بعرقلة مجلس النواب عن أداء عمله، أو من له أهداف خاصة مرتبطة باللواء حفتر، ولذا باركوا انضمام ممثليهم في المجلس الرئاسي والحكومة، مما يعني بداية النهاية لمشروع الكرامة وشماعة التهديد بالانفصال، بعد نهاية المؤتمر الوطني وفجر ليبيا في الغرب الليبي، هذه البوادر ستجعل العملية السياسية مستمرة لتمارس الحكومة عملها، وإنشاء جيش نظامي جديد تنصهر فيه كل التشكيلات المسلحة في شرق وجنوب وغرب ليبيا، بالمثل لا تحتاج الزنتان إلى من يمثلها بالمجلس الرئاسي، فهناك عشرات من المدن أكبر من الزنتان عددا ولا يوجد لها تمثيل في المجلس الرئاسي وغياب ممثلها لا يكون له أثر محليا أو دوليا. أخيرا ما تسمي نفسها بكتلة السيادة الوطنية لن تنتهي أيديولوجيا (لآنها تحمل قناعات شخصية لا تؤمن بالمعارضة السياسية) ولكن سيتجاوزها الزمن حاليا حتى تتعلم أسس الحكم الديموقراطي وكيفية تغليب الولاء للوطن على الولاء للقبيلة أو الجهة أو للمصالح الشخصية.
إن المراقب (المحايد) للاستعراض السابق للفرقاء السياسيين وعملية المحاصصة القبلية والجهوية التي بني عليها اتفاق الصخيرات، يدرك مدى تردي مستوى الفكر السياسي الليبي الذي لم يستطيع أن يرقي إلى مستوى المواطنة رغم انخراط معظم ممثلو هذه المجموعات بشهادات عليا وخبرة طويلة وانفتاح الكثير منهم على مفاهيم الحداثة والفكر الحر المعاصر.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
استمتعت حقيقة بهذه القصة التي تفصح عن خيال كاتبها الواسع وأنصحه باﻹتجاه في كتابة هذه القصص الخيالية التي يظهر لي أنه بارع فيها وأقول له في النهاية خرف يابغني.