سياسية تركيا مع جاراتها.. ديبلوماسية بلا انياب

يبدو أن نباح تركيا أشد من عضتها.. إسأل السوريين الذين أسقطوا طائرة استطلاع تركية يوم 22 يونيو/حزيران ولم يعاقبوا على فعلتهم.

شدد الزعماء الأتراك من خطابهم.. وأرسلوا صواريخ مضادة للطائرات إلى الحدود ومقاتلات اف-16 مرارا عندما كانت الطائرات الهليكوبتر السورية تحلق على مسافة قريبة للغاية. ونالت تركيا تأييدا من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.. وهذا كل ما حدث.

إسأل الاسرائيليين الذين قتلوا تسعة من النشطاء الأتراك المؤيدين للفلسطينيين على متن السفينة (مافي مرمرة) التي كانت متجهة إلى غزة لتقديم المساعدات عام 2010 وأفلتوا بفعلتهم. وهددت تركيا حينها بإرسال بحريتها لحماية المزيد من سفن المساعدات المتجهة لغزة لكنها لم تنفذ تهديدها قط.

والخطورة بالنسبة لتركيا هي أن الضراوة التي أبدتها سواء في قضية السفينة مافي مرمرة أو في إسقاط سوريا لطائرة الاستطلاع بدأت تبدو وكأنها بلا أنياب.

شبه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان قمع الرئيس السوري بشار الأسد لمعارضيه منذ بدء الانتفاضة قبل 16 شهرا بممارسات ألمانيا النازية واتهمه الاسد في المقابل بتحمل جزء من المسؤولية عن إراقة الدماء.

وقال الأسد لصحيفة جمهوريت التركية الأسبوع الماضي “في ظل رغبته التدخل في شؤوننا الداخلية للأسف في الفترة التالية جعل تركيا شريكة في كل الأعمال الدموية في سوريا”.

وأضاف “قدمت تركيا كل أنواع الدعم اللوجيستي للإرهابيين الذين يقتلون شعبنا”.

وبعد أن أعلن اردوغان أن تركيا شددت من قواعد الاشتباك على الحدود مع سوريا اتهمه زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي كمال كيليجدار أوغلو بالمقامرة بالمصالح الوطنية.

وقال كيليجدار أوغلو “كل ما قاله رئيس الوزراء وقت وقوع حادث مافي مرمرة قاله مجددا اليوم. إذا كنت تخادع فإنك بذلك تفقد عنصر الردع على المستوى الدولي”.

وتركيا قوة إقليمية لها مكانتها ولها جيش واقتصاد قوي لا يقارن بأي بلد آخر في الشرق الأوسط حيث يحسدها كثيرون على المزج بين الرخاء والديمقراطية تحت حكم حزب له جذور إسلامية تمكن اخيرا من الحد من نفوذ القادة العسكريين الذين كان لهم القول الفصل لعشرات السنين.

ربما تكون هذه صورة سطحية لتركيا لكن كان لها صدى كبير في الشرق الأوسط عندما حاول اردوغان التقرب إلى منطقة اعتبرها الأتراك منذ زمن طويل بها مشكلات اكثر من الفرص ووضع سياسة اطلق عليها “انعدام المشكلات” مع الدول المجاورة.

ونجحت هذه السياسة خلال معظم سنوات العقد المنصرم.

إذ أبقت تركيا على تحالفها القوي مع اسرائيل مع تجنب الصدام مع إيران وتنمية صداقات مع أعداء قدامى مثل سوريا والاكراد في العراق وتهدئة التوترات عبر التجارة ومساعدات في مجال الإنشاءات. وأصبح اردوغان والرئيس السوري صديقين على المستوى الشخصي.

بدأت هذه السياسة تنهار عندما هاجمت اسرائيل قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في ديسمبر كانون الأول 2008 مما قوبل بانتقادات شديدة من الزعماء الأتراك الذين كانوا يسعون جاهدين حتى ذلك الحين للتوسط في اتفاق سلام بين اسرائيل وسوريا حول هضبة الجولان المحتلة.

وعندما امتدت انتفاضات الربيع العربي إلى سوريا في مارس/اذار عام 2011 حثت تركيا الأسد على نزع فتيل الاحتجاجات بإجراء إصلاحات حقيقية. لكنه بدلا من ذلك حاول القضاء عليها بعنف شديد.

وفي سبتمبر/أيلول انقلب عليه الزعماء الأتراك الذين شعروا بأن الأسد خانهم بسبب تجاهله نصيحتهم.

لكن الأسد الذي تحدى توقعاتهم بأنه سيرحل شأنه شأن حكام آخرين انتفضت ضدهم شعوبهم في تونس ومصر وليبيا ما زال يتمسك بالسلطة.

واحتضنت تركيا المعارضة السورية ووفرت الملاذ لمقاتلي الجيش السوري الحر وكذلك اللاجئين السوريين بل انها تحدثت عن إقامة شكل من أشكال المنطقة العازلة داخل سوريا في حالة تزايد تدفق اللاجئين السوريين.

لكن أنقرة حذرت من أنها لن تقدم على أي عمل عسكري بدون حلف شمال الأطلسي أو دعم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أصيب بالشلل بسبب حق النقض (الفيتو) الذي تستخدمه روسيا والصين لمساندة سوريا.

وهذا يعني أن خيارات أنقرة الفعلية محدودة خاصة أنها ما زالت تواجه تمردا للاكراد في جنوبها الشرقي والمستمر منذ نحو 30 عاما وأسفر عن سقوط 40 ألف قتيل منهم ما يقدر بنحو 500 خلال العام المنصرم.

ويشعر البعض بالقلق من أن اردوغان الذي انسحب من مؤتمر في دافوس كان يشترك فيه مع شمعون بيريس عام 2009 بعد حرب غزة قائلا إن الرئيس الاسرائيلي يعرف “كيف يقتل” ميال لاضافة المزيد من الغضب لمنهج السياسة الخارجية التقليدية لتركيا الذي يمزج بين المنهج العملي والمباديء.

وقالت لالي كمال رئيسة تحرير مكتب صحيفة (طرف) في انقرة “كان من الممكن ان تتبع تركيا سياسة محسوبة اكثر حذرا ازاء سوريا… السياسة التركية الصريحة استفزت نظام الأسد. ارتكبت تركيا خطأ الظن أن الأسد سيرحل قريبا”.

وترى أن تركيا لم يكن يتعين عليها أن تدفع بطائرات قرب بلد “غير متعقل” مثل سوريا على شفا حرب أهلية.

ومضت تقول “قالت سوريا لتركيا من خلال إسقاط الطائرة انظروان، لدينا القوة.. يمكننا أن نسقط طائراتكم. أنتم أعضاء في حلف شمال الاطلسي لكن لدينا أيضا قوة نيران كبيرة”.

وقال وزير الخارجية التركي السابق ايلتر تركمان إن بلاده لم تتبع سياسة حكيمة عندما تحولت سريعا من صداقة الأسد إلى أشد منتقديه رافضا فكرة أن دعم مقاتلي المعارضة السورية ربما يؤتي بثمار لاحقة لتركيا.

وقال “لا أعتقد أن الدول تشعر بالامتنان أبدا” متوقعا أن أي حكومة مستقبلية بعد الأسد ستكون قومية بتطرف بل ربما تحيي مشكلات قديمة مع تركيا مثل النزاع على إقليم هاتاي الذي تطالب به سوريا.

وقال تركمان “ظللنا أسرى لخطابنا” مضيفا أن أي تدخل عسكري تركي من جانب واحد في سوريا سيكون حماقة وقال “يمكن الدخول لكن كيف يمكن الخروج؟”

وخلال أغلب التاريخ الحديث تجنبت تركيا الانخراط في المشكلات الخارجية وتدخلت من جانب واحد فقط في قبرص عام 1974 في الوقت الذي كانت مستعدة فيه للانضمام لبعثات السلام المدعومة من الأمم المتحدة في مناطق مضطربة في العالم من الصومال إلى أفغانستان.

وما زالت تركيا تحظى باحترام واسع النطاق في الشرق الأوسط لكن الحماس الذي يثيره اردوغان بحديثه المشدد عن اسرائيل والذي جعله يحظى بشعبية جارفة في العالم العربي قبل عدة سنوات تراجع.

وعلى الرغم من كل القوة العسكرية والاقتصادية فإن الأتراك يجدون انفسهم الآن بلا نفوذ لدى دمشق.

وقال هيو بوب المحلل من المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات “يمكن أن يبيعوا بضائع. كثير من سكان الشرق الأوسط لديهم بضائع تركية في منازلهم… لكن قدرتهم على بسط النفوذ في تلك الدول بالشرق الاوسط التي لا تعمل بكفاءة.. محدودة للغاية”.

اقترح تصحيحاً

اترك تعليقاً