تعيش دول الشرق الوسط وشمال أفريقيا وضعاً متشابهاً من حيث عدم القدرة على إستبدال المفاهيم الثقافية البالية بمفاهيم عصرية على جميع المستويات، ولقد حاول الكثير من المفكرين الخوض في هذا الموضوع لقرابة مئة سنة ولكن دون جدوى، أذكر من هؤلاء المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي إستخدم أليات غربية من أجل عصرنة الواقع الإسلامي، في كتبه عن مشكلات الحضارة ومشكلات الثقافة، وحُرفت أفكاره لتكون منطلقاً وتبريرا لنشؤ الحكم الشمولي من العراق شرقا إلى موريتانيا غربا في النصف الثاني من القرن العشرين.
من الواضح أن إدراج السير والتاريخ ضمن الدين الإسلامي أصبغ على ثقافة العصور الوسطى نوع من القداسة تمتنع عن التغيير أو الإزالة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن شعوب الشرق الوسط لم تطور قيد أنملة خلال أربعة عشرة قرنا، تقول الرواية أن أبرهة الأشرم لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدمها خرج معه بالفيل (وهو سلاح لم تعهده العرب من قبل)، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على أملاك الناس، فأصابوا إبلا لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: سل عن شريف مكة، وأخبره أني لم آت لقتال، وإنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم (جد النبي)، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا به قوة.
فقال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وأكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك، فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، حين جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمنه، فلم تكلمني فيه، وكلمتني لإبل أصبتها، فقال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رباً يحميه (سيمنعه)، فأمر بإبله فردت عليه، فخرج، وأخبر قريشا، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ورؤوس الجبال تخوفا من معرة الجيش إذا دخل، ففعلوا.
قد يُعذر عبد المطلب على خنوعه وأنانيته وضعف همته، لآنه يعيش في مجتمع جاهلي الثقافة، وثني الديانة رغم إيمانه بأن للبيت رباً، ، فلا يهمه البيت بقدر إهتمامه بإبله ومناصحة قومه بالخروج من مكة إلى رؤوس الجبال. كما لا يفوت على القارئ فطنة وحس الملك أبرهة وتقديره لقيمة الوطن ومقدساته. نعم للبيت وللوطن بيت يحميه ولكن أين الذين يعيشون على موارده، وينعمون بخيراته، وينتسبون إليه.
هنا علم أبرهة أن البيت ليس له رجال ولا قادة، فباشر بالزحف لهدم الكعبة، ولكن الإرادة الإلهية أبت إلا أن توقف هذا العدوان ولو كان أهلها متخاذلون، فأرسل لهم الباري طير الأبابيل لتقذف جيش أبرهة وتجعلهم كعصف مأكول.
للأسف هذه الثقافة لازالت هي السائدة عند معظم الدول العربية، فبعد أن كان الحكم الشمولي يعتبر الوطن مزرعة له ولعائلته وأتباعه، أصبحت الديموقراطيات المشوهة ببرلمانات زائفة تنتج ألافا من عبد المطلب، تتسابق على المرتبات العالية والمزايا والمهايا عملاً بالمثل القائل (البطن قبل الوطن)، في العراق وليبيا ولبنان، والجزائر وموريتانيا والسودان، حيث تطحن المحاصصة مفاصل الدولة ويتسابق النواب على الفساد الإداري والمالي، وفي مصر والأردن يتبادل النواب اللكمات بالأحذية والأسنان، وكلما ظهر بصيص أمل للخروج من النفق المظلم، سارع آخرون لتبديده من أجل البقاء لأطول فترة في المنصب، وإذا خرجوا منها يطالبون أن تكون مزاياهم وروتبهم على مدي الحياة.
ما حدث في إجتماع مجلس النواب الليبي بتاريخ 22 فبراير ينم عن التصحر السياسي وعدم أهلية بعض النواب وإدارة المجلس لتحمل المسؤلية الملقاة على عاتقهم، بعد أن عمت الفوضي قاعة المجلس من حفنة من النواب الفيدراليين، إنتهى بقفل الأنوار عن القاعة.
الجميع يعلم أن المجلس الرئاسي لم ينبثق عن مجلس النواب أو المؤتمر الوطني (وهما قد إنتهت صلاحيتهما بفعل المدد المقررة في الإعلان الدستوري) ولم يكن المجلس الرئاسي منتخباً، بل هو نتاج تفاوض بين الكتلتين من أجل إنشاء مجلس رئاسي وحكومة تابعة له تستمر للفترة الإنتقالية، وبذلك تكون مشروعية مجلس النواب كسلطة تشريعيه، وبالمثل المؤتمر الوطني الذي سيصبح مجلسا للدولة نابعاً من الإتفاق نفسه، وهو ما يؤكد أن الجسمين لا أحقية لهم في تعديل المجلس الرئاسي ولا الحكومة بعد الموافقة على الإتفاق، وما يثير الشفقة والإمتعاض أن هؤلاء النواب يسعون بكل جهدهم لفرض المحاصصة، وفرض أسماء معينة على الحكومة التي سيتحمل تبعاتها رئيس الوزراء.
ولا يعدوا هذا الأسلوب إلا تبني لفكرة التصعيد البالية والمعروفة منذ إجتماع سقيفة إبن ساعدة إلى تصعيد الوزراء في حكومات القذافي والأنظمة الشمولية الأخرى، والبعد عن أسس الديموقراطية التي تعتمد على الكفاءة والمسؤولية.
إن تشكيل المجلس الرئاسي من تسعة أعضاء كأحد مخرجات إتفاق الصخيرات يعني نهاية مجلس النواب ومجلس الدولة في زمن لا وجود للدستور أو للقوانين المنظمة للعمل السياسي وفصل السلطات بالدولة الليبية، وبذلك يضع منتسبي المجلسين في خانة العاطلين عن العمل برواتب ومزايا عالية، وهو ما لا يروق للكثير من أعضاء مجلس النواب ومجلس الدولة، حيث أعلن البعض منهم رفضهم للمجلس الرئاسي برمته وآخرون محاولة إنقاص عدده مع المطالبة بالتمثيل العادل لكل المكونات والأقاليم الجغرافية الليبية وهو ما لن يتأتى أبدا.
نعم لم يجتمعوا يوم التاسع والعشرين من فبراير ولن يجتمعوا بنصاب، وبداء تفرقهم بمشاريع شتى منها تحويل مجلس النواب من طبرق (الطاردة بفعل البلطجة) إلى بنغازي المكلومة، أو الجفرة التي سيقاطعها 51 نائب من المنطقة الشرقية، وأخيرا نفض الغبار عن الحوار الليبي الليبي من الفيدراليين من أجل قطع الطريق على حفتر من ناحية وإيجاد مخارج أخرى غير اتفاق الصخيرات الذي يبعدهم عن النظام االفيدرالي وتكوين إقليم برقة.
والسؤال: ما هو السبيل للخروج من هذه الدوامة؟ هناك سيناريوهات محدودة يمكن أن ترى النور في الايام القادمة، أولها أن الهيئة الأممية الراعية للإتفاق ستعتد بتوقيعات مئة عضو ونيف ممن صادقوا على الحكومة بعد قفل أنوار مجلس النواب من البلطجية، وبذلك سيباشر المجلس الرئاسي والحكومة عملهم من طرابلس، وعندها ينتظر مجلس النواب الهدؤ بمدينة بنغازي لعقد جلساته، ويلي ذلك تغيير قيادته، كما يعقد مجلس الدولة إجتماعاته كجزء من بنود الإتفاق، ويلتحق بهم المقاطعون لاحقا.
وبذلك يستطيع المجلس الرئاسي والحكومة الجديدة أداء عملهم بتوحيد البلاد وتحرير المواني ومعالجة ملف الجيش والشرطة والمجموعات المسلحة، هذا السيناريو ربما المفضل من الأمم المتحدة والهيأة الدولية، وهو إستكمال للإتفاق الذي تم توقيعه في غياب رسمي للمؤتمر ومجلس النواب، ثم أدعن له أغلبيتهم، وهو السناريو الواعد للخروج من الفوضى.
ويمكن للشعب المشاركة الإيجابية في ترسيخ هذا السيناريو بخروج جموع المدن سلمياً لتأييد المجلس الرئاسي والحكومة الجديدة، وحتى نزع الشرعية من النواب المعرقلين لمسار الإتفاق.
السناريوهات الأخرى الاقل حظا نجاح الحوار الليبي الليبي وهو بعيد المنال بسبب عمق الإختلاف الأيديولوجي وفقدان الثقة بين الأطراف المتحاورة.
أما إتفاق طائف ليبي برعاية السعودية فلن يكون مجديا مع الليبيين لعدة أسباب منها؛ أن ليبيا غير لبنان إجتماعياً وإقتصاديا، وأن السعودية ليست من الدول الراعية أو الفاعلة في الشان الليبي قديما وحديثا، وذلك لأسباب كثيرة لا يسع المقام لذكرها.
أخيرا رغم أنانية وتقاعس عبد المطلب ورجاله عن الدفاع عن مكة المكرمة فإن الله قد حال دون هدمها، ولا شك أن الله لن يترك الوطن في فوضي دائمة رغم أنانية وفساد الكثيرين في أي وطن.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً