أولاً: دور الشيخ الإمام أبي الطاهر بن عوف الإسكندراني
هو الشيخ الإمام، صدر الإسلام، شيخ المالكية، إسماعيل مكي بن إسماعيل بن عيسى بن عوف بن يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، القرشي الزُّهري، العوفي الإسكندريُّ المالكيُّ، من ذرية عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، ولد سنة خمس وثمانين وأربعمئة، وتفقه على الأستاذ أبي بكر الطرطوشي، وبرع، وفاق الأقران، وتخرَّج به الأصحاب. وروى عن الطرطوشيِّ «الموطَّأ» وعن أبي عبد الله الرازيِّ، وكان إمام عصره، وفريد دهره في الفقه، وعليه مدار الفتوى مع الورع، والزَّهادة، وكثرة العبادة، والتواضع التام، ونزاهة النفس، وقد شهد أبو الطاهر بن عوف نهاية الدولة الفاطمية الشيعية، وقيام الدولة الأيوبية، وقد زار صلاح الدين الإسكندرية في سنة 577ه، وحرص في هذه الزيارة أن يحضر هو، وأولاده، وكبار دولته دروس أبي الطاهر بن عوف، وسمعوا عليه جميعاً «موطَّأ مالك» بروايته عن أستاذه الطَّرطوشي.
واعتقد الجميع: أنَّ صلاح الدين قد حصَّل خيراً كثيراً بتتلمذه على ابن عوف، وسماعه منه، فقد أرسل القاضي الفاضل عبد الرَّحيم بن علي البيساني رسالةً جميلةً بليغةً إلى صلاح الدين يهنئه فيها بهذا السَّماع وأصبحت لابن عوف عند صلاح الدين منذ ذلك الحين مكانةٌ كبيرةٌ، يجلُّه، ويحترمه، ويقدِّره، ويوقِّره، وإذا اعترضته مشكلةٌ في الدين، أو الدولة، أرسل إليه يسأله الرأي، والفتوى، ويؤكد هذا قول ابن فرحون: وكان السُّلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يعظِّم ابن عوف، ويراسله، ويستفتيه، وقد أشارت المراجع إلى أن نشاط ابن عوف لم يكن مقصوراً على التدريس وحسب، بل كان له نشاط مماثل في ميدان التأليف، فقد قال السيوطي: وله مؤلفات، وللشيخ أبي الطاهر: تذكرة التذكرة في أصول الدين، وغير ذلك من التأليف، وفي سنة 581هـ توفي ابن عوف، ودفن في الإسكندرية، وله ستٌّ وتسعون سنة، إنَّ ما قام به أبو الطاهر السِّلفي، وأبو الطاهر بن عوف من طلب العلم، ونشره بين الناس، والعمل على إحياء المذهب السني من أعظم الجهاد، فإنَّ الاشتغال بطلب العلم، وتعليمه من أعظم الجهاد لمن صحَّت نِيَّتُه، ولا يوازنه عملٌ من الأعمال لما فيه من إحياء العلم، والدين، وإرشاد الجاهلين، والدَّعوة إلى الخير، والنهي عن الشرِّ، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه (سير أعلام النبلاء، الذهبي، 21/122).
ثانياً: عبد الله بن أبي عصرون
الشيخ الإمام العلامة، الفقيه البارع، المقرئ الأوْحَدُ، شيخ الشافعية، قاضي القضاة شرف الدين، عالم أهل الشام، أبو سعد عبدالله بن محمد بن هبة الله بن المطَهَّر بن علي بن أبي عصرون بن أبي السَّريِّ، التَّميميُّ الحديثيٌّ الأصل، الموصليُّ، الشافعيُّ، وقد تولَّى ابن أبي عصرون في عهد نور الدين قضاء سنجار، ونصيبين، وحرَّان، وغيرها من مدن ديار بكر، وأصبح هناك أشبه بقاضي القضاة، ينوب عنه في سائر المدن نوابٌ أشرف على تعيينهم بنفسه، فقد ولد بالموصل سنة 492هـ أو 493هـ وتفقه على جماعة من العلماء، وانتقل إلى حلب سنة 545هـ 1150م، ثم قدم دمشق لدى دخول نور الدين إليها عام 549هـ 1154م ودرَّس في الزاوية الغربية من جامع دمشق، وتولى أوقاف المساجد، ثم رجع إلى حلب، وأقام بها، وصنف كتباً كثيرةً في الفقه، والمذاهب، ودرس على يده عددٌ كبير من التلاميذ، وانتفعوا به، وكان فقيهاً من طراز أول، ووصف بأنه من أفقه أهل عصره، وأنه إمام أصحاب الشافعي يومذاك، وكان متوحِّداً في العلم، والعمل، وسرعان ما تقدم عند نور الدين، فكلفه بالإشراف على بناء المدارس في حلب، وحمص، وبعلبك، وغيرها، ثم ما لبث أن ولاه قضاء ديار بكر، ومنحه صلاحيات واسعة، كما اعتمده عام 566هـ 1170م رسولاً إلى الخليفة المستضيء في بغداد.
ـ عبد الله بن أبي عصرون وصلاح الدين الأيوبي:
كان صلاح الدين على معرفة تامة بعبد الله بن أبي عصرون منذ أيام نور الدين محمود زنكي، فكلاهما نشأ في ظلِّه، وتحت رعايته خاصة صلاح الدين، وكان الاثنان من رجاله الأكفاء أحدهما يشتغل بالقضاء، والحكم، والفتيا، والتعليم، والعلم، والآخر يشتغل بالأمور العسكرية، ويوليها اهتماماً زائداً، وتدلُّ مجريات الحوادث منذ أيام نور الدين محمود زنكي على أنَّ العلاقات بين الرَّجلين كانت سليمةً، تسيرها روح الود، والمحبة، والتقدير، فقد عرف كل منهما الآخر حقَّ المعرفة، وبادله الاحترام بمثله، والدَّليل على ذلك الرسالة التي بعثها صلاح الدين من مصر للشام إلى ابن أبي عصرون، ولعلَّ اختياره بالذات تفضيلٌ له على غيره، واعتراف بقدرته على التأثير في الأحداث وأنَّه كان من الشخصيات الكبيرة في المجتمع، وثانياً: أنَّه وقف ضدَّ الأمراء الذين طلبوا الاستمرار في معاداة صلاح الدين الأيوبي، والعمل ضدَّ قدومه إلى بلاد الشام الأمر الذي جعل صلاح الدين يوليه قضاء مصر (عصر الدولة الزنكية، علي الصَّلاَّبي، ص 241).
ـ تعيين ابن أبي عصرون على القضاء:
كان صلاح الدين بعد وفاة كمال الدين الشهرزوري يميل إلى تعيين ابن أبي عصرون على القضاء للأسباب التالية:
1 ـ قوَّة شخصية عبد الله بن أبي عصرون العلمية والأدبية، ومكانته كشيخ للمذهب الشافعي في زمنه، وقد شهد له معظم المعاصرين بهذا.
2 ـ حبَّ صلاح الدين الأيوبي لأتباع مذهب الشافعي، وتقديرهم؛ لا سيما وأنه كان شافعياً إلى درجة التعصب أحياناً، وأنه أراد أن يوَّحد الدَّولة على أساس المذهب الشافعي.
3 ـ احتضان صلاح الدين لعبد الله بن أبي عصرون عندما قدم إليه إلى دمشق، لا بل تفويض قضاء مصر له، كما روى المقريزي عام 570هـ، وتوجيه كتاب له يحضُّه على إبطال مفعول معاهدة دمشق مع الصليبيين في العام نفسه، لدليلٌ على أن صلاح الدين يكن له الحبُّ، والتقدير، ويتمنَّى أن يكون قاضيه، بل تعتبر الرسالة تمهيداً لاختياره في المستقبل.
وقد كانت علاقة صلاح الدين وابن أبي عصرون على درجة كبيرة من المتانة، وكان ابن أبي عصرون هو الذي تولى الإشراف على تزويج صلاح الدين الخاتون عصمة الدين معين الدين أنر، وزوجة السلطان نور الدين – قبيل وفاته – التي كانت تقيم بقلعة دمشق عام 572ه.
5 ـ وجود شخصيات هامة في دولة صلاح الدين الأيوبي تُحَبِّذ أن يسند قضاء قضاة الشام إلى عبد الله بن أبي عصرون أمثال القاضي الفاضل؛ الذي كانت علاقاته به متميزة، وكان ابن أبي عصرون كثيراً ما يخاطبه في مراسلاته بمجير الدين القاضي الفاضل دليلاً على احترامه، وعلوِّ شأنه، وكذلك الفقيه عيسى الهكاري أحد أمراء صلاح الدين، والذي تتلمذ على يدي عبد الله بن أبي عصرون، والذي كان يميل إلى أستاذه، ويتمنَّى أن يراه قاض لقضاة الشام.
إنَّ مجمل هذه الأسباب مجتمعةً هيأت الظروف لأن يتولى شرف الدين بن أبي عصرون قضاء القضاة في جميع ممالك بلاد الشام الخاضعة لصلاح الدين الأيوبي عام 573هـ، وكان شرط صلاح الدين على هذا التعيين أن يكون محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين، والأوحد داود نائب كمال الدين الشهرزوري في الحكم، والقضاء قاضيان يحكمان، وهما عن منابته يوردان، ويصدران، وتوليتهما بتوقيع من السلطان نفسه (المدارس العصرونية في بلاد الشام، صادق جودة، ص 31).
ـ إنتاج ابن أبي عصرون العلمي والأدبي:
كان ابن أبي عصرون شخصيةً متميزةً لها سماتها الفريدة، فقد وصفه صاحب النُّجوم الزاهرة بأنَّه كان: إماماً فاضلاً مصنفاً، ووصفه السِّبكي صاحب طبقات الشافعية بقوله: نزيل دمشق، وقاضي القضاة بها، وعالمها، ورئيسها، ومما صنفه ابن أبي عصرون: صفوة المذهب في نهاية المطلب، وهو سبعة مجلَّدات، و«الانتصار» في أربعة مجلدات، و«المرشد» في مجلدين، و«الذريعة في معرفة الشريعة» مجلد، و«التيسير» في الخلاف في أربعة مجلدات، و«مآخذ النظر» و«مختصر الفرائض» و«الإرشاد المغرب في نصرة المذهب» ولم يكمله، وذهب فيما ذهب له بحلب، وله مؤلَّفات أخرى منها: «التنبيه في معرفة الأحكام» و«فوائد المهذب» في مجلدين، و«الموافق والمخالف، و«فوائد المنذري» في مجلدين، وجمع جزء في جواز قضاء الأعمى، وأضاف البغدادي في هداية العارفين، وفتاوى، ومسلسلات في الحديث.
وقد اشتهر شرف الدين في علوم الفقه، والأصول، والخلاف، والفتاوى، والقضاء، وكذلك بالجانب الأدبي، فقد كان شاعراً أديباً أورد له العماد الأصفهاني، وغيره مقطوعاتٍ شعريةً كثيرةً تنمُّ على إحساسٍ متدفِّق، وخيالٍ خصبٍ واسع، ونفس مجربة عركتها الحياة.
- حمله البشارة إلى الخلافة العباسية:
من المهام الجليلة التي قام بها القاضي شرف الدين بن أبي عصرون هي حمل البشارة إلى الخلافة العباسية سنة 567هـ/1171م بقطع صلاح الدين الخطبة للخليفة الفاطمي العاضد، وإقامتها للخليفة العباسي المستضيء بالله، وكتب معه نسخةً لهذه البشارة تقرأ بكلِّ مدينة يمرُّ بها، فسار إلى بغداد، ولم يترك مدينة إلا دخلها بهذه البشارة الجليلة القدر، وقرأ فيها هذا المنشور العظيم الخطر، والذكر؛ حتى وصل إلى بغداد، فخرج الموكب إلى تلقيه، وجميع أهل بغداد مكرمين لخطير وروده، معظمين لجليل مورده، ونثرت عليه دنانير الإنعام، وحُبِيَ بكل إحسانٍ، وإكرام، وأرسلت التشريفات إلى نور الدِّين، وصلاح الدين، واستمرَّ القاضي شرف الدين بن أبي عصرون مشاركاً في الحياة السياسية بعلمه، وآرائه، وسفيراً لصلاح الدين إلى الخلافة العباسية ببغداد، حتى كانت موقعة حطين سنة 583هـ/1187م.وأكَّد المؤرخون مشاركته لصلاح الدين في هذه الموقعة العظيمة؛ التي فتح الله بها معظم مدن الساحل الشَّامي، وبيت المقدس (دور الفقهاء والعلماء في الجهاد، آسيا نقلي، ص 135).
- عبد الله بن أبي عصرون يصاب العمى:
ظلَّ شرف الدين بن أبي عصرون قاضياً يحكم بالشَّرع حتى عام 577هـ، حيث أصيب آنذاك بالعمى، وفقد بصره، فتكلَّم الناس في عدم أهليته للقضاء، وطعنوا بها،وهنا وقع صلاح الدين في حرج شديد، وورطة فقهية، فهو لا يريد أن يمسَّ مشاعر صاحبه الذي فقد بصره، ويعزله عن منصب القضاء، وهو في الوقت ذاته يتعرَّض لأقوال الفقهاء؛ التي تطعن في بقاء ابن أبي عصرون في منصبه لعدم أهليته، وقد تصدَّى شرف الدين بن أبي عصرون لهذه المشكلة بنفسه، وأصدر كتاباً في جواز قضاء الأعمى مخالفاً في هذا مجموع الفقهاء، وكان سند ابن أبي عصرون فيما ذهب إليه من جواز قضاء الأعمى وجهٌ ورد في جمع الجوامع للروياني، واختاره شرف الدين بن أبي عصرون، وصنَّف فيه جزءاً في جواز قضاء الأعمى، وظلَّ هو قاضياً لمَّا أصيب بالعمى، ووجد صلاح الدين المخرج بلا حرج بعد مسائل وآراء، فأبقى شرف الدين على رأس القضاء، وفوَّض الأمر إلى ولده محيي الدين أبي حامد محمد بن شرف الدين؛ على أن يكون والده هو الحاكم الحقيقي، ويظهر للناس على أنه نائب عن أبيه بحيث لا يظهر للناس صرفه عن القضاء. وهكذا بقي شرف الدِّين بن أبي عصرون يمارس قضاء القضاة في بلاد الشام، وولده نائب عنه، بفضل دفاعه عن نفسه، والغوص في أعماق الفقه، واستخلاص ما يجيز قضاء الأعمى، ثم تضامن صلاح الدين معه، ومساندة صاحبه القاضي الفاضل له بالحق (مفرج الكروب، جمال الدين واصل، م 2/ص 51).
- وفاة ابن أبي عصرون:
توفي القاضي ابن أبي عصرون في حادي عشر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمئة، ولما بلغ الخبر القاضي الفاضل بمصر كتب رسالةً بهذه المناسبة يُعَزِّي بشرف الدين، ويردُّ على الرسالة التي وردته بالخبر من الشام: وصل كتاب الذات الكريمة جمع الله شملها، وسرَّ بها أهلها، ويسَّر إلى الخيرات سبلها، وجعل في ابتغاء رضوانه قولها، وفعلها، وفيه زيادة هي نقص الإسلام، وثلم في البرية يتجاوز رتبة الإنثلام إلى الانهدام، وذلك ما قضاه الله تعالى، وقدَّره من وفاة الإمام شرف الدين بن أبي عصرون، رحمه الله تعالى، وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها، ومن مساءة أهل الملَّة، ومسرَّة أهل خلافهما، فلقد كان علماً للعلم منصوباً، وبقية من بقايا السَّلف الصالح محسوباً، والعلم بالشام زرعه، وكلُّ من انتفع فعليه كان، وإليه ينسب نفسه، رضي الله عنه، وأرضاه، ونقع بماء الرَّحمة مثواه، ولقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته، واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته، واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفر (كان) من أدعيته. وما مات بحمد الله حتى أحرز غيبته بأولادٍ كرامٍ بررةٍ، وأنشأ طلبةً للعلم نقلة، وللمداس عمرة، وحتى بنى لله المدارس، والمساجد، وأحيا نهاره، وليله بين راكع، وساجد، فهو حيٌّ لمجده، وإنما نحن الموتى بفقده (وفيات الأعيان، ابن خلكان، (3م/ص 54).
هذه شخصية ابن أبي عصرون المتميزة فهي متكاملةُ الجوانب، لها أثرها في مجال القضاء، والفتيا، والسياسة، والإدارة، والدبلوماسية، والسَّفارة، تمتعت بقدر كافٍ من العلم، والأدب أهَّلها إلى أن تتسنَّم أرقى المناصب، وأرفعها، وهي: قضاء القضاة، والسَّفارة، ومشيخة الشَّافعية في عصرها، رحمه الله تعالى.
مراجع المقال:
1. المدارس العصرونية في بلاد الشام، صادق أحمد داوود جودة، مؤسَّسة الرسالة، دار عمار، ط1، 1406 هـ، 1986م.
2. سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، ط7، 1990م.
3. عصر الدولة الزنكية، علي محمد الصَّلاَّبي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، مصر، ط1، 2007م.
4. مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.
5. وفيات الأعيان وأنباء الزمان، ابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار صارد، بيروت.
6. دور الفقهاء والعلماء في الجهاد ضد الصليبيين خلال الحركة الصليبية، آسيا سليمان نقلي، مكتبة العبيكان، 2002م.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً