شعوب اندفعت بقوة وسرعة نحو رحاب التقدم. حققت الرفاهية والازدهار. منها شعوب تعدادها قليل، وأخرى ملأت أرضها مئات الملايين، ومنها ما تجاوز تعداده المليارات. مساحة الأرض أو عدد السكان، لا تشكل في حد ذاتها عوامل القوة أو الضعف.
مملكة هولندا بلد صغير المساحة، مساحتها اثنان وأربعون ألف كم2، وعدد سكانها سبعة عشر مليون نسمة، أرضها منخفضة سبعة أمتار عن مستوى سطح البحر، بلغ ناتج دخلها الإجمالي تريليون دولار سنوياً تقريباً. هذه البلاد الصغيرة المساحة، امتلكت مبكراً قوة العقل. فتحت أبوابها لكل قادم من جميع أصقاع الأرض بحثاً عن الحرية منذ العصور الوسطى. الفيلسوف باروخ إسبينوزا، الذي هربت عائلته من شبه الجزيرة الأيبيرية بعد سقوط الحكم العربي بها، وقامت محاكم التفتيش بملاحقة المسلمين واليهود. وُلد هذا العالم الفيلسوف على أرض العقل الجديدة. قدّم للإنسانية كلها ومضة العقل التي لم تنطفِ ولن تنطفي. حاربته طائفته اليهودية، واتهمته بالزندقة، لكن حضن المجتمع الحر الصغير، كان بمساحة الوعي والطموح النهضوي الذي يفتح الأبواب لأنوار التقدم. تنافس على أرض العقل والحرية، أكثر من مذهب وتيار. كالفن صاحب المذهب البروتستانتي المتشدد، وجد له مكاناً فوق الأرض الجديدة، لكن العقل الحر قادر على إشعال قوة الفكر الذي يقدم الحقائق التي تقشع الظلام.
العقل المبدع لا تحدّ قوته مساحة الأرض المحدودة، ولا قلة عدد السكان. بقوة العقل المبدع ردم الهولنديون البحر، وحولوا ما كان ماءً مالحاً أرضاً أنبتت أجمل أنواع الورد، وعاشت فوقها فصائل الأبقار التي روت الدنيا بالحليب وأشبعتها جبناً ولحماً. اليوم يفكر العقل الهولندي الذي لا يتوقف عن الإبداع، يفكر في تطوير أبقاره إلى فصيلة لا تلحق الضرر بمناخ الكون من دون أن يقلل ذلك التطوير مما تنتجه.
الصين الشعبية التي يقارب عدد سكانها المليار ونصف المليار نسمة، لم يكن هذا العدد الهائل من السكان ثقلاً على كاهل الوطني الصيني الكبير، بل حوله العقل المبدع قوةً أسطورية ضاربة حققت قفزة غير مسبوقة على كوكب الأرض. بعد سنوات عانت فيها البلاد من خيالات زعيمها ماو تسي تونغ، أرخت العنان لعقلها الذي تحرر من سلاسل الآيديولوجيا الدخانية الثورية، فتحولت البلاد أكبر معمل، وأعظم مصنع، وأكبر سوق في العالم. مقياس الزمن في الصين اليوم له عداده الخاص. سنواتها غير سنوات الآخرين، وكذلك أشهرها وأيامها وحتى ساعاتها. هي اليوم لا تنافس، بل ينافسها الآخرون. المشهد العالمي اليوم من منظور اقتصادي أو عسكري أو حتى سياسي، مثل ميدان سباق للجري. كل القوى الكبرى تتحس أنفاس من يركض خلفها ويهددها بالتجاوز. الولايات المتحدة الأميركية، تتحس أنفاس الصين الاقتصادية والعسكرية والسياسية. لقد صدق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عندما قال: إن الصين تهدد باحتلالنا اقتصادياً. وصل صافي ناتجها المحلي 18 تريليون دولار سنوياً. وغزت الفضاء، وباشرت في بناء حاملات للطائرات. لم يعد كثرة عدد السكان ثقلاً على من يمتلك العقل المبدع، بل قوة دفع لا مثيل لها نحو النهوض والتقدم والازدهار.
عن الهند لا تسأل، لقد تجاوز سكان هذه البلاد التي لها جذور ضاربة في التاريخ المليار ونصف المليار نسمة. لغاتها وأديانها وأعراقها متعددة، بل وفي كثير من الأحيان متصادمة، عانت من الاستعمار البريطاني سنوات طويلة، واستعمل المستعمرون رجالها في حروبهم الإقليمية والدولية. بعد الاستقلال انطلق العقل الهندي من عقاله، ونمت الحرية وأورقت ديموقراطيتها، تحولت البلاد غابةً للعلم. ثمارها تزداد نضجاً في ظلال العقل الوارفة. اليوم تحتل الهند الترتيب الرابع في الاقتصاد العالمي، ولها إنتاج هائل في كل أنواع الصناعة، وأخيراً غزت الفضاء، وهي اليوم أكبر مصدّر للعلماء في العالم، في كل المجالات، وخاصة في التقنية السيبرانية.
الخلاصة، أن صغر مساحة الأرض، أو قلة عدد السكان أو كثرتها، ليست حبالاً تقيّد حركة الشعوب نحو التقدم، إنما العامل الحاسم هو العقل المبدع، الذي يتخلق في أرض الحرية، وينتج قوة الحياة التي تصنع التقدم.
الأمم التي تنام في جحور رؤوسها المغلقة، تضيق مساحات أرضها في شخير وهنها، وتتحول كتل شعوبها أشياء، لا تعرف إلا المسافة بين المطبخ والحمام إن وُجد في أكواخها الخشبية أو الإسمنتية. التعليم عندها ضرب من العبث، والحرية من عمل الشيطان، وبالشهامة الجاهلية تتقاتل الأحياء والعشائر والقبائل، ويصير النهب والفساد عقيدة، والجهلة والفاسدون هم القادة بالقتل والنهب والعمالة. لقد تجلت عدالة الخالق سبحانه، في هبة العقل لجميع الناس بالتساوي، لكن منهم من لم يدخل إلى خزينة رأسه، فتراكم على ما فيها تراب الجهل، وبقي حقله بوراً وبواراً. العقول البشرية أرض، بذورها المعرفة وسمادها العلم وماؤها الحرية.
شعوب تمتلك ثروات هائلة في باطن أرضها، وفوق أرضها مساحات خصبة هائلة صالحة لزراعة كل أنواع المحاصيل. تتدفق حولها مياه الأنهار، والغابات أدغال يعمّها السواد. لكن في رؤوس من يدبّون فوق تلك الكنوز، حقولاً يسكنها تراب. وكم من أمة منَّ الله عليها بخيرات سائلة تندفع من بطون الأرض التي يعيشون فوقها، لكنها اكتفت باستخدام أفواهها لبلع ما يهبها لها العاقلون الذين يستخرجون ما ملكت بطون تلك الأرض، ويسخّرونها لخدمة شعوبهم ورفاهيتها.
من هولندا الصغيرة أرضاً وسكاناً، إلى الهند والصين الكبيرتين سكاناً، هناك مسافة موصوفة، لا تقاس بالكيلو مترات، لكننا نقرأ في امتدادها قوة فاعلة، وإن هي صامتة، إنها معجزة العقل الإنساني المبدع، يؤسس كيان السلام الاجتماعي، ويطلق أنوار العقل، ويصبح الإنسان قوةَ حياةٍ تبدع. الجاهلون ينامون في قحف رؤوسهم، ويعبر أهل اليقظة في كل ثانية نحو رحاب الأمن والرفاهية. أفـلا تعقلون؟!
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً