من الوهلة الأولى ليس هناك وصف لطوفان درنة إلا أنه كارثة ألمت بسكان تلك المدينة، جرفت البشر والشجر والحجر لتلقي بهم في غيابات البحر، ليست المرة الأولى التي تعرضت فيها درنة لفيضانات الوادي العتيد، ولكنها الأعنف على الإطلاق، في سنة 1941م وخلال الحرب العالمية الثانية حدث فيضان للوادي جرفت مياهه دبابات وسيارات وآليات القوات الألمانية إلى البحر، ثم فيضان 1959 الذي أودى بمئات القتلى جراء السيول المنهمرة من أعالي الوادي، تلى ذلك فياضانات 1968 و1969.
مع تكرار الفيضانات قررت هيئة الموارد المائية، إقامة سد على الوادي وأسند تنفيذه لشركة يوغسلافية لتنتهي منه سنة 1977م، بعد قرابة عشر سنوات أي سنة 1986 وبعدها في سنة 2011م تم تنفيس السد للتخلص من المياه المتراكمة جزئيا وهو إجراء احترازي نتج عنه فيضان على ضفتي الوادي ولكن أضراره كانت قليلة، بعد نصف قرن من إنشاء السد أي سنة 2022 كان هناك تقرير من الباحث عبد الونيس عاشور من جامعة عمر المختار يقول إن السد يحتاج إلى صيانة وتطوير ويحذر فيه أن انهيار السد سيكون كارثة على المدينة، ورغم تلك الحوادث فإن نواقيس الخطر دائما لا تجد لها أذان صاغية لخصوصية المدينة من عدة نواحي: درنة لها مجتمع متعلم حضري جله قادم من المنطقة الغربية والجنوبية، تلاشت عنده النزعة القبلية، ولذا فهي مدينة مشاكسة تمثل التنوع الديموغرافي الذي احتضن تنوع التعايش، وأزدهر على جنباتها العلم والفن والثقافة في بحر من الانتماءات القبلية البدوية.
في سنة 1805م ناصرت المدينة أحمد باشا ضد أخيه يوسف في طرابلس بمساعدة الجنيرال إيتون، ودخلها جيش يوسف باشا القره مانلي بعد طرد أخيه منها، وفي عهد القذافي رجع الليبيون الأفغان إليها، فوجدها النظام ذريعة للانتقام منها، أرسل جيوشه فأحرق القذافي جبالها بالنابلم، وقوات الضفادع البشرية تمشط هضابها بحثا عن المعارضين للنظام، بعد ثورة 2011 كانت درنة سباقة للتحرر من قبضة النظام السابق، ولكن لم يدم الزمن طويلا حتى وجدت نفسها معارضة لطغيان حفتر وقواته الغاشمة طوقت وجوعت المدينة، ثم دعت الطيران المصري ليصب الحمم على سكانها، بدعوى وجود داعش، واستمر ذلك من سنة 2014 إلى سنة 2017م، ورغم إذعان المدينة للسلطة العسكرية للكرامة قصراً إلا أنها لم تستكين، هاجر جل المثقفين منها وتركوها لإهمال السلطات العسكرية، أخيرا قبل كارثة الطوفان بأشهر كان هناك انتخابات بلدية، أفضت إلى مجلس بلدي مختلط من سكان المدينة، رفضته كتيبة أولياء الدم التابعة لحفتر لأسباب تتعلق بالولاء للقيادة العامة.
الأمر المحير جداً هو ما حدث منذ ضرب عاصفة دانيال الشواطئ اليونانية في بداية سبتمبر ثم تحولها إلى تركيا، ثم إلى ليبيا يوم 11 سيتمر 2023م، ففي حين أن الأرصاد الجوية الدولية قد حذرت من العاصفة ولذلك كان عدد الوفيات في اليونان وتركيا بضعة قتلى، كانت ضحايا درنة بالألاف رغم وجود زمن طويل وكفيل بإجراءات كثيرة لتلافي تلك الطامة الكبرى.
هذه الأحداث التاريخية وما تلاها يضعنا عند فرضيتين لا ثالث لهما، وهما إما الإهمال (وهي سمة العسكر ومنظومات ما قبل الدولة) أو الانتقام وهي سمة مخابراتية تهدف إلى جني المكاسب لأطراف الصراع ومن تمثل من دول الجوار أو القوى العالمية، لكلا الافتراضين أسسه وشواهد تدعمه، رغم أنها متداخلة ومتقاطعة في الكثير من أحداثها.
فرضية الإهمال، نعم لها شواهد، مثل عدم التواصل بين الجهات المشرفة على السدود والأرصاد الجوية، ومعرفة مقادير المياه المحتمل سريانها وإجراء تنفيس للسد قبل وصول ارتفاع المياه إلى الذروة وحدوث الكارثة، الإهمال في الاعتقاد أن تأثير العاصفة يكون من البحر على شكل تسونامي وليس من انفجار السد، آخر الإهمال هو الإذعان للتعليمات القائلة بإلزام البيوت وقت العاصفة، وهذه الأمور كلها أدت إلى الإهمال في إجلاء السكان من بيوتهم لتلافي الماء أي كانت من البحر أو السد، فكانت الكارثة.
أما الفرضية الأخرى، فإن المدينة لم تركع يوما لجلاديها ولذا تستباح من العسكر على مر السنين، ما يؤيد فرضية تفجير السد، أن هناك فرقعة سمعها الكثير من سكان درنة في الساعات الأولى من يوم الانفجار، علما بأن فيضان السد الترابي وانهيارة لا يحدث أصوات تفجير تسمع لمسافات بعيدة، الأمر الآخر هو توجيه أنظار الناس إلى تسونامي البحر وأمر المواطنين بالبقاء في البيوت، رغم التاريخ الطويل لذاكرة المدينة مع فيضانات السد وتقارير وجوب صيانته، كما أن التفجير يفتح باب الابتزاز لحكومة الوحدة الوطنية والمصرف المركزي الموحد لتخصيص مبالغ ومعونات لا تنتهي تصرف جلها على القوات المسلحة في الشرق الليبي كمؤسسة وكأفراد ضمن حلقة الفساد المستشري منذ سنوات، أخيرا أن التدخل المصري الكبير، واحتياجه لحل مشاكله الاقتصادية بتشغيل شركاته العسكرية على الأراضي الليبية حافزا للقيام بعمل مخرب، فلقد فازت مصر بمعظم عقود إعادة إعمار بنغازي وعقود الطرق بين جالو وإجدابيا وعقد الطريق الدائري الثالث بطرابلس، ولكن ذلك كله لن يحل مشاكل الانهيار الاقتصادي المصري، فهل من مزيد.
رغم ظهور النائب العام في مشهد الحدث، إلا أن العدالة بعيدة في الظروف الحالية وتحت مؤسسات موازية، لم يقوم النائب العام بإصدار أمر قبض بالمتسببين لحرب 4 أبريل 2019 واكتفى بالتنفيذيين ولا بمجازر ترهونه، ولم يستطع النائب العام تقديم التهم للمليشيات المتقاتلة بالغرب الليبي ناهيك عن دك المساكن في سرت وأبونجيم ودرنة وأباري، مثل هذه الفاجعة تحتاج إلى تحقيق دولي كما حدث في اغتيال الحريري وتفجير مرفأ بيروت.
أما النهج العاطفي بتحول المحنة إلى منحة، بإعادة اللحمة الوطنية والتواصل بين الشرق والغرب وتغيير المواقف في الشرق الليبي، وهو ما يشار إليه بوجود لواء 444 إلى جنب اللواء طارق بن زياد، فذلك مجرد أماني لا يدعمها الواقع، لا يزال مجلس النواب متربع على عرشه بنوابه الداعمين لجيش الكرامة، ولن تتوقف مصر من دعم جيش حفتر وبرلمان عقيلة ولو دخلت حروب أخرى، والمتابع يرى رسو بواخر حربية مصرية في ميناء طبرق ووصول وفود عسكرية مصرية إلى بنعازي لمعاينة الضرر وربما للاستعداد لتوقيع العقود، على المستوى الشعبي أثرت هبة المساعدات الشعبية في جل مواطنين المنطقة الشرقية ولكن لن تغيير من قناعاتهم بأن ممثليهم في مجلس النواب والجيش هم الضامن لحقوقهم في زمن كفر الجميع بالمؤسسات الوطنية المتشظية شرقا وغربا، وحتى يحدث التحقيق لكشف الحقيقة، والتغيير الذي يجعل الجميع يؤمن بحق المواطنة لك الله يا ليبيا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً