تظهر صور التدافع أو الصراع في أعلى درجاته، عندما يلجئ إلى تفعيل أذرعه العسكرية، بعدما تكون وفي الغالب وسائله الناعمة سياسية اقتصادية إعلامية ثقافية إلخ، قد استنفدت ما بجعبتها من وسائل وأدوات، فيفسح الطريق عندها لأدواته الخشنة، للتقدم والاندفاع إلى ميادين وساحات عملياته، ويحمّلها ويسند لها الأولوية في إدارة شئونه وغاياته، عندها سيكون للمدفع والدبابة والراجمة والطيارة وغيرها الكلمة الفصل في وضع النقاط على مفردة النهاية لجولاته، ولكن عندما تتراجع درجات حدة تفاعلاته القصوى، بتخلّيه عن الدبابة والمدفع والطيارة، لا يعني هذا ولا يعبر عن توقف نشاطه، بل عن انتقال نشاطه المحموم إلى ميادين أخرى من ميادين الحياة، إلى ساحات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلم وغيرها، فالتدافع حاضر ودائما وبقوة في مسيرة الحياة، إذ أنه الدافع والمحرّك لعجلة سيرورتها، فلا حياة بدون تدافع وصراع والعكس صحيح.
ولكن وفي حاضرنا المعاصر، نلاحظ بأن التدافع والصراع، وبعد عبوره هذا المشوار الطويل في مسيرة التي تُعد بمئات القرون من الدهر، وما حمل وانعكس مشواره الطويل هذا، بنتائج كانت في الكثير منها إيجابية على أوجه الحياة العديدة، زراعية، اقتصادية، تقنية، تجارية، طبية، خدمية، علمية، إلخ، فصارت الحياة بهذا أكثر نضج مما كانت عليه، بل صارت وكأنها تستوّطن قرية صغيرة، من حيث أن ما قد يحدث في طرفها البعيد، ستطال ارتداداته المباشرة بقية أطراف القرية، مما دفع بالحياة للتحرك والانزياح نحو التأسيس لا إلى الاستغناء عن وجه الصراع الخشن، بل إلى التقليل من حيّز مساحته على خريطتها، من خلال الزيادة من مساحة التدافع الناعم، الاقتصادي، الصناعي، التقني، الثقافي، إلخ، على حساب ما يقابله من المساحة الملتهبة للصراع الخشن.
ومن الشواهد على ذلك في وقتنا الحاضر، ما ظهر بوضوح في الحرب الأوكرانية، إذ وبعدما عجز الوجه الناعم للتدافع عن استدراج الصراع وجرّه إلى قاعات مؤتمر (منيسك)، لتتولى أذرعه السياسية تصّريف وإدارة شئونه بعيدا عن ساحاته الحربية، من خلال تكّملة ما بدأه مشوار مؤتمر منيسك الأوكراني الروسي وبمشاركة مجلس الأمن والدفاع الأوروبي، فمن على حالة العجز والوهن التي صاحبت الوقوف طويلا أمام قاعات مؤتمر (منيسك) المُغلقة، تمكن الوجه الآخر للصراع من استجماع قواه، وأفتك المبادرة واندفع بها في الاتجاه الذي أطلق الشرارة التي أشعلت الحرب الأوكرانية.
غير أنه وبعد أشهر من دورة الحرب الطاحنة، ظهر لأوزارها ارتدادات مُكّلفة على جميع وجوه الحياة، فنشطّت هذه، وحفّزت التحرك نحو بلورة تكتلات حياتية في طور الإنشاء، وبعثت إرهاصات أخرى نحو التبلور والتشكل، وجميعها تنزع نحو صياغة توازنات حياتية جديدة، تتمكن بها الحياة وبواسطتها، من استدراج الصراع بعيد بما يكفي عن بدائية التدافع الخشن وسفهه، من خلال العمل والاجتهاد على سحّبه نحو ميادين الصناعة والتجارة والمال والطب والعلم، إلخ، بهدف جرّه نحو درجة أدنى تبتعد به عن درجاته القصوى.
قد يكون في تبلور (تكتل بريكس) وأهدافه ما يؤكد هذا التوجه، وأيضا استطيع القول، بأن الإرهاصات التي جاءت على يد السعودية برفقة إيران وبتنشيط من الصين، لا تبتعد عن هذا التوجه بل تثريه وتنتهي إليه، فهي تسعى وتتحرك نحو بلورة مشروع يعمل على خلق آلية تواصل تتمكن من تأسيس وترسيخ علاقات ذات بُعد إيجابي، بناء ومُنتج بين دول الخليج ومحيطها الإقليمي، مما يفتح السُبل نحو الابتعاد بالصراع عن سفه خشونته إلى درجات أدنى، قد تكون أكثر فائدة في مردوداتها على جملة منحى الحياة.
وفي المقابل، نجد الوجه الآخر للصراع، وهو يدفع ويندفع نحو التربع به عند درجاته القصوى، كما نشاهده في أحداث ما تعيشه وقائع الحرب الأوكرانية، غير أنه وبرغم استنفاره وبأعلى درجاته القصوى، على اتساع رقعة كبيرة من جغرافية الحياة، نجده ودائما يلجئ للتغطية على انتكاساته المتكررة، مستخدما جهازه الإعلامي على نحو يمكّنه، من توّجيه الأنظار بعيد عن عجزه وفشله، في إعلاء حضوره وفعاليته داخل مشهد الحياة على ما سواه.
فهل هذا الخذلان لمن كان ولا يزال، يعمل وعلى نحو مسعور، كما تعكسه ونشاهده في وقائع الحرب الأوكرانية، وهو يدفع نحو ساحات الصراع الخشن حيث للدبابة والراجمة والطيارة وغيرها الكلمة الفصل فيه ما يكفي من الإشارات والدلالات التي تقول بأن الحياة صارت تنحاز إلى ميادين صراع ليس من أدواتها الدبابة والطيارة وأخواتهما، لأن ما يتصدر أولوياتها الحفاظ على وجودها من الفناء الذي يهددها ومن أعراضه، التغير المناخي، الجوائح المحملة بالموت الجماعي، العطش، وحتى الذكاء الاصطناعي إن لم يتم تهذيبه.
فهل الغرب الأطلسي* في صيغته الإنجليزية، والذي نشاهده يعمل ويجتهد على الدفع بالصراع، نحو درجاته القصوى على ساحة الأحداث بالحرب الأوكرانية إلى الحد الذي صارت أيادي السلاح النووي تتحسس زرار الإطلاق، هل يعي خطورة حماسه هذا، وانعكاسه على ساحة الحياة التي تقلّصت بفعل إنجازات التدافع والصراع حتى صارت بحجم قرية صغيرة بصحارى فزان، من حيث ما قد يحدث على طرفها البعيد، ستنعكس ارتداداته دون إبطاء على باقي أنحاء القرية.
*الغرب الجيوسياسي ليس غرب واحد، بل غربين اثنين، غرب أوروبي وآخر أطلسي بامتدادات إنجلوسكسونية، وهذا الأخير برأسين اثنين أمريكي وآخر إنجليزي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً