أرتقى الوعي بشريحة واسعة من النخب بشأن المصالحة الوطنية في ليبيا ووصل إلى قناعة بأنه على الدولة الحديثة بمختلف مراحل تأسيسها الملكية، والجمهورية-الجماهيرية، والانتقالية الاعتذار للشعب الضحية، فجميع الانتهاكات التي وقعت خلال المراحل الثلاثة هي مسؤولية الدولة وعليها الاعتذار للشعب قبل المباشرة في توثيق الانتهاكات وجبر الضرر مادياً ومعنوياً وفحص المؤسسات العدلية، ومن وجهة نظر الكاتب فهنالك مصالحة تاريخية مطلوبة من النخب السياسية والفكرية والحكومية الاعتراف بها، فتأسيس ليبيا الحديثة وتاريخها الحديث يحتاج لإعادة قراءة متأنية والاستئناس به، هذه المقالة مراجعة تاريخية هدفها المصالحة مع تاريخ تأسيس ليبيا وإسقاطه على حال ليبيا اليوم.
ليبيا الحديثة والمسيرة التاريخية:
جاءت ليبيا الجديدة بعد احتلال إيطاليا وفشل الدولة العثمانية في المحافظة عليها، إلا أن خسارة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية أفقدها السيادة على ليبيا وفي سبتمبر 1947 تركت مصير مستعمراتها ومنها ليبيا للدول المنتصرة الأربعة: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا. وكان من الصعب توافق الدول على قرار موحد، فكانت محاولة مشروع وزير خارجية بريطانيا أرنست بيفن ووزير خارجية إيطاليا كارلو سفورزا بحيث يؤجل استقلال ليبيا إلى عشر سنوات وتكون تحت الوصاية بحيث تكون برقة تحت الإدارة البريطانية وطرابلس تحت إيطاليا وفرنسا تسيطر على فزان. إلا أن بروز القوى الأمريكية ومعها روسيا، مع ضمان استمرارية مصالح بريطانيا بقدر، أفشل مشروع بيفن سفورزا.
وكان نشأة ليبيا الجديدة بعد أن تبنت الجمعية العامة الأمم المتحدة قرار اقترحته الولايات المتحدة والهند والباكستان والعراق بأن تستقل ليبيا قبل تاريخ 1 يناير 1952. وبحيث يكون للدولة الجديدة دستور تقره جمعية وطنية تضم ممثلين عن الأقاليم الثلاثة والذي اعتمدته بتاريخ 7 أكتوبر 1951 وأعلن استقلال ليبيا بتاريخ 24 ديسمبر 1951 باسم المملكة الليبية المتحدة.
ليبيا اليوم تعيش تقريباً نفس الصراع الدولي على أرضها فجميع اللاعبين والمتصارعين على أرضها اليوم شاركوا مع بداية القرن العشرين الماضي في الصراع، فبعد إنذار إيطاليا في 27 ديسمبر 1911 إلى الدولة العثمانية، تركيا اليوم، كانت الحرب بعد يومين وإنزال نحو ألفين جندي لاحتلال طرابلس، وبعد عام من المقاومة كانت معاهدة أوشي بين الدولتين في 18 أكتوبر 1912 وتنازل الدولة العثمانية عن ليبيا لإيطاليا، وبعد هزيمة المحور وانتصار الحلفاء انقلبت الموازين. واليوم يعاد صياغة ليبيا الجديدة القديمة وبنفس الأطراف القديمة تقريباً، لذلك المصالحة التاريخية تتطلب مراجعة القوى الفاعلة والتي عملت على التعجيل باستقلال ليبيا ووحدة أراضيها، وهنا لا يمكن لأي منصف إنكار الدور الأمريكي.
المصالحة التاريخية تتطلب منا مراجعة ما يحدث اليوم بالقياس مع ما حدث لليبيا قبل قرن من الزمان والأدوار التي لعبتها أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وتركيا، وإيطاليا، وحتى ألمانيا كدول أكثر فعالية اليوم.
المصالح الأمريكية والمصالحة التاريخية:
الدور الذي لعبته أمريكا في انتصار الحلفاء على المحور تصدر الجهود المبذولة في وقف التوسع النازي والفاشي. وفي ظل الصراع الدولي ظلت ليبيا موقعا استراتيجياً مهماً لجميع القوى الدولية. ومع التاريخ القديم الذي لعبته إيطاليا وتركيا إلا أن الدول الحديثة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا ومعهم روسيا حرصت أن يكون لها موطأ قدم على أرض ليبيا كبوابة أفريقيا للمواد الخام واليد العاملة الرخيصة وخاصة بعد تراجع الولادات بأوروبا والتهديد بالفناء الديموغرافي للأسرة الأوروبية. والتعويض لذلك يظل له مصدرين أفريقيا وأسيا، وتظل أفريقيا الأقرب تاريخياً وجغرافياً.
وما يميز ليبيا أن صراع الدول العظمى: أمريكا، والصين، وروسيا بدرجة لا توصف على أفريقيا، فتمدد الصين بوسط القارة بواسطة القوة الناعمة والاستثمارات التنموية مقلق لأمريكا، ومزاحمة روسيا فرنسا على نفوذها بالغرب الأفريقي يهدد المصالح الأمريكية وهذا ما يبرز أهمية ليبيا جيوسياسياً بشكل لافت للنظر. كانت ولازالت محاولات أمريكا في ضمان مصالحها بأفريقيا، وتكتيكها اتخذ عدة اتجاهات ومسارات انتهت بمصالحة تاريخية مع ليبيا.
هذه الاتجاهات كانت على النحو التالي:
- منح نظام الجماهيرية فرصة للانفتاح الاقتصادي وبناء ليبيا اقتصادياً إلا أن إهمال ليبيا داخلياً وتوجه القذافي لبناء الاتحاد الأفريقي واستحداث الدينار الأفريقي عجل بالسماح للانتفاضة ضده وخاصة بعد تصريحاته بترحيبه بدخول الصين أفريقيا ونعت سياستها بالقوى الناعمة، والمختلفة عن السياسة الغربية الأمريكية التي تعتمد على القوة الصلبة: قواعد عسكرية وتسليح، وحروب.
- مراقبة قوى المعارضة لصناعة وبناء ليبيا حديثة قوية اقتصادياً والتي فشلت في ذلك. فكان الصرف والتبذير بدون خلق برامج تنمية وتطوير، بل العكس كان التوسيع في دائرة العداء بين الأطراف الليبية وفتح المجال أمام التدخلات الدولية.
- مؤشرات التمدد الصيني سمح لأمريكا غض النظر في البداية عن دخول روسيا والسماح لحفتر الاستيلاء على السلطة في طرابلس. إلا أن حسابات تفكك المجموعات المسلحة في الغرب أثبت خطأ المحللين العسكريين في عدم وجود قوى بطرابلس قد تتصدى لحفتر وانقلابه العسكري.
- بعد التغول الروسي وفشل حفتر كان السماح لتركيا للمساعدة في صد العدوان ودحره بعيداً عن طرابلس ولخلق التوازن مع مراجعة للوجود الروسي.
- اليوم تتدخل أمريكا لحسم موقفها بالانحياز لليبيا كدولة موحدة ديمقراطية حرة اقتصادياً وما زيارة السيد وليام بيرنز مدير وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) الأخيرة إلا رسالة لمن يحاول إرساء أي قواعد من وراء الأمم المتحدة والعالم.
- رسالة السيد بيرنز لروسيا والصين والاتحاد الأفريقي، بأن ليبيا لن تكون ألا موحدة مستقلة، وبيئة للتنمية والاستقرار والشراكة الاقتصادية.
الكلمة الأخيرة:
المصالحة التاريخية تتطلب أن نرى دوراً بارزاً وفاعلاً لأمريكا بليبيا كما حرصت على ذلك، بعد إفشال مشروع بيفن سفورزا، وتأسيسها في 24 ديسمبر بل 1951، بل ودعم توحيدها في دولة واحدة موحدة في 1963. إذن فالمصالحة السياسية الحكومية تتطلب الاعتذار للشعب والمصالحة التاريخية مع الدولة التي رعتها، أمريكا ، وحرصت على استقلالها ووحدتها.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً