العلاقات الليبية الأمريكية بعد الاستقلال كانت جيدة، ومساعداتها لليبيا لم تتوقف لعقدين من الزمان، في فترة ساد الجفاف والفقر والجهل والمرض، وكانت المساعدات ضمن برنامج هاري ترومان، بما يعرف بالنقطة الرابعة التي تعتني بتطوير التعليم والصحة والخدمات، بل أن ميزانية الدولة الليبية تم تمويلها من المساعدات ومن تأجير قاعدة هويلس الجوية بطرابلس. انتهى كل ذلك بوصول القذافي الى الحكم واستيراد القوالب الناصرية من تبني الاشتراكية ورفع الشعارات القومية ومعادات الغرب. توفي عبد الناصر وانتهت الناصرية في مصر ولكن بقي عبد الناصر يحكم ليبيا لعقود طويلة لاحقة لوفاته.
قصة تفجير طائرة بان ام الامريكية بوينج 747 في رحلتها 103 تعود إلى يوم 21 ديسمبر 1988م، وكانت الطائرة قادمة من فرانكفورت الى مطار هيترو بلندن ثم قاصدة مطار نيويورك. كان على متن الرحلة عند إقلاعها من لندن 243 راكب منهم 189 أمريكيا وستة عشر من طاقم الطائرة. في لحظة الإقلاع من لندن تغيب رجل وإمراه من المسجلين في الرحلة، وغادرت الطائرة متجه شمالا نحو الأطلسي. بعد أربعون دقيقة وصلت الى أسكوتلندا وعلى أهبة الاستعداد للطيران فوق المحيط عند الساعة السابعة ودقيقين مسا، في هذه اللحظة سمع المراقب الأرضي قعقعة تم فقد الاتصال بالطائرة، وظهرت خمسة أجسام متطايرة في السماء على شاشة الرادار. شاهد عيان وصف المشهد بكرة نارية ملتهبة تسقط في سماء قرية لوكربي الاسكتلندية، ولقد تناثر الحطام على مساحة 845 ميل مربع.
هرعت أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية إلى عين المكان للبحث عن أي دلائل تفضي الى معرفة الجاني، إضافة إلى الصندوق الأسود، فوجد الامريكان شريحة إليكترونية استعملت في قنبلة التفجير مشابهة للتي وجدت في تفجيرات سابقة في تشاد والتوجو والنيجر بين السنوات 1984 وسنة 1989م ولكن لم يتم التركيز عليها في الحال، ووجدوا ملابس في حقيبة سمسونيت يعتقد أنها مكمن التفجير.
الانفجار أودى بحياة 259 شخصا، تقول المصادر أن 148 منهم قد نجو من الانفجار المباشر ليواجهوا فظاعة السقوط من علو 31 ألف قدم إلى الأرض في لحظة زمنية تساوي العمر كله، البعض تأبط الصليب الذي في رقبته، ليقينه أن الموت قادم، واثنان منهم فارقوا الحياة بعد وصولهم الى الأرض في حالة لا رجاء منها. أما على أرض القرية فان عشرة أشخاص قد وفاهم الاجل بعد أن سويت بيوتهم بالطريق جراء سقوط اجنحة الطائرة على مساكنهم.
أول البحث عن المشتبهين بهم كان اقتياد الرجل الذي تأخر عن ركوب الطائرة في لندن، وبعد استجوابه وهو لا يعلم بالحادثة تيقن المحققين أنه كان ثملا ولم يعي بموعد الطائرة فتركته في المطار، أما المرأة المسجلة فلم تستطيع تجهيز احتياجاتها لقضاء عيد الميلاد في نيويورك وعدلت عن رأيها بعدم ركوب الرحلة.
من جمع الاستدلالات، وضعت الاستخبارات الامريكية أربعة مشتبهين لضلوعهم في القضية وهم؛ الحرس الثوري الإيراني، والموساد الإسرائيلي، ومنظمة الجهاد الإسلامي في لبنان، والجيش الايرلندي، ولم تذكر ليبيا في تلك الآونة. وكانت أصابع الاتهام تتجه أكثر إلى إيران كرد فعل لإسقاط الطائرة الإيرانية 655 فوق الخليج الفارسي وتوعد الخميني بان السماء ستمطر دما.
أما فرنسا وبريطانيا فلهم شأن آخر؛ فهم يشتبهون في ضلوع القذافي في القضية وخاصة أنه المسئول على تنفيذ تفجير الملهى الليلي في برلين سنة 1986م وهو في عداء كبير مع أمريكا، كما يعزز ذلك الشريحة الاليكترونية التي وجدت في مكان الحادث وقيام السنغال باعتقال ليبيان بحوزتهم متفجرات سمتكس (غير معدنية) مشابهة للتي استعملت في طائرة لوكربي، وبذلك تحول الاتهام من إيران إلى ليبيا.
في محاولة لمعرفة الجاني أعلنت الاستخبارات البريطانية أنها تعرفت على ضابطين استخبارات ليبيين مشتبه بهم في التخطيط وتنفيذ عملية تفجير بان أم الامريكية، وهم عبدالباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة، وبالتعاون مع أمريكا تم طلب تسليمهم للقضاء الاسكتلندي، إلا أن القذافي رفض ذلك استنادا إلى اتفاقية مونتريال، بنا على تعنت القذافي أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 748 القاضي بحصار ليبيا وحظر التعامل معها في مجالات الطيران والشؤون العسكرية والتقنية المتقدمة ومنها معدات النفط حتى يتوقف القذافي عن الإرهاب، في حين أن الكثير من الشركات النفطية قبلت تلك القرارات على مضض، ولقد جاوزت خسائر الحصار المباشر لليبيا 20 مليار دولار، غير الخسائر في الصحة والتعليم وتوقف المشاريع وشراء المتطلبات مهربة أو بأسعار باهضه.
قاد نيلسون مانديلا بزيارة ليبيا سنة 1997 م وبذلك كان أول كسر للحصار، أعقبه مبادرة منه وملك السعودية، تقضي بمحاكمة المتهمين في هولندا بقضاة إسكوتلنديين، وأجاب القذافي بالموافقة حيت أرسل فحيمة والمقرحي إلى المحاكمة في مايو 2000م. أما فحيمة فكانت المحاكمة قصيرة، حيث أتبث أنه كان في السويد لحظة وقوع الحادث وثم إطلاق سراحه، في حين أن المقرحي قد طالت محاكمته رغم رفضه للتهمة، وكان الشاهد الرئيس بائع الملابس المالطي طوني قوشي (توفي سنة 2016)، حيث أفاد أن المقرحي هو مشابه للرجل الذي أشترى منه ملابس، وجدث في حقيبة سمسونيت التي حفظت فيها قنبلة التفجير، وهذه الشهادة رغم رفضها من المقرحي جعلت القاضي يصدر حكما قضائيا بالحبس مدى الحياة. تبين للقاضي سنة 2008 أن الحكم شابه إجهاض للحقيقة.
مع استمرار الحصار والخسائر الكبيرة التي تكبدتها الدولة ومنع القذافي للسفر الى الكثير من الدول أعلن القذافي من خلال مقابلة مع جريدة نيويورك تايمز أن ليبيا تتحمل مسؤولية تفجير طائرة لوكربي وأنها على استعداد لتعويض ذوي الضحايا مقابل رفع الحصار عن ليبيا، وكانت قيمة التعويض ثلاثة بليون دولار ثم دفعهم مع تحرير اتفاق بانتهاء القضية بين ليبيا وأمريكا وفتح صفحة جديدة من المساواة والتعاون المتبادل.
في سنة 2009 أذاعت بي بي سي تقريرا حول لوكربي أوضحت فيه أن عبدالباسط المقرحي على فراش الموت بسبب مرض عضال، وبناء على معلومات سابقة عند المحكمة بأن تاجر الملابس المالطي تم رشوته، أفرجت المحكمة عن المقرحي لظروف صحية ليبقى مع أهله للأشهر القليلة الباقية من حياته مع أسرته، واستقبلت شركات النفط هذا القرار بالترحاب.
بعد وفاة المقرحي اتجهت الأنظار إلى إيران مرة أخرى، واعتمدت الاستخبارات الـمريكية على تقرير الجزيرة سنة 2014 عندما أدلى مسئول إيراني منشق يدعى أبولقاسم مصباحي بان الخميني قد أمر أحمد جبريل رئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتفجير الطائرة الـمريكية ردا على تفجير الطائرة الإيرانية، ولكن لسوء العلاقات بين أيران وأمريكا لم يحدث أي تقدم في هذا الشأن.
أما التطور الأبرز هو إعلان المحكمة الفيدرالية الامريكية في 21 ديسمبر 2020م أن هناك ضابط ليبي ثالث تحوم حوله الشبهات في تفجير طائرة لوكربي وأنه مازال حيا في طرابلس، وهو أبوعجيلة مسعود خير المريمي، وعلى السلطات الأمريكية العمل على جلبه للمثول أمام المحكمة، وبقي الأمر طي الكتمان بين الدوائر القضائية والأمنية الأمريكية والليبية حتى كان يوم 9 ديسمبر 2022 حين تم اختطاف المتهم من بيته لتعلن أمريكا بعد يومين أنه قيد الاعتقال، وأن محاكمته قد بدأت في 12 ديسمبر 2022م أمام المحكمة الفيدرالية الأمريكية، وهي محاكمة ستكون طويلة يتم تعيين محامين له وفتح القضية من جديد. ولقد أعربت السلطات الأمريكية أن الإجراءات تمت بطريقة قانونية وبالتنسيق مع الحكومة الشرعية في ليبيا.
في هذا الاثناء أنقسم الشعب الليبي كالعادة إلى فئتين، مجموعة النظام السابق والقبليين والفيدراليين يرون أن ذلك انتهاك لسيادة الدولة وأن لا حق للحكومة المؤقتة تسليم أي مواطن ليبي كما حدث لأبوختالة وأبو أوس وغيرهم زمن حكومة السراج في تهم قتل السفير الأمريكي ببنغازي، ومجموعة أخرى ترى أن تسليم المتهمين هو جزء من مكافحة الإرهاب وأن القضية من الارتدادات السيئة للنظام السابق وأن الدول لا ترتهن لتصرفات أشخاص أو مغامرين.
رغم ذلك فإن السياسة الأمريكية لها بعد أخر لتحريك القضية واعتقال أبوعجيلة بعد سنتين من تحرير صحيفة جلب ومحاكمة، وهو أن أمريكا لا تعترف بأي حكومة أخرى غير حكومة الوحدة الوطنية، وأن مجلس النواب ومجلس الدولة هم والعدم سواء، وأن التدخل الإقليمي يجب أن يتوقف لأنه يضر بالمصالح الأمريكية، وما يؤكد هذا تصريح سفير أمريكا السابق ومبعوث أمريكا الحالي ريتشارد نورلند أن لا حكومة أخرى ولا فترة انتقالية أخرى في ليبيا وعلى البلاد الذهاب إلى الانتخابات في أسرع وقت ممكن، وهو نهج أمريكي لمحاصرة التواجد الروسي في القارة عامة وليبيا على وجه الخصوص.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً