في كل ما تقدم فيما كتبته من تحت هذا العنوان، استطيع القول، ما كان ليكون الشرق الأوسط. لو لم تؤسس الترتيبات الدولية، التي جاءت لفضاء شرق وجنوب المتوسط، إثر الحرب العالمية الأولى تحت مسمى مشوع سايس- بيكو، وعملت وبكل ما تمتلك من جهد، وفي متناولها منه الكثير، على اجتثاث هذا الفضاء الجغرافي إلى خارج إقليمه الطبيعي بحوض المتوسط، لتجعل منه الوعاء الجغرافي لكيان الشرق الأوسط، وليكون شرق وأوسط لها، ولا لأحد غيرها وعرّابها.
وما كان ليكون الشرق الأوسط، لو لم تعمل وتجتهد الترتيبات الدولية التي جاءت تحت مسمى سايس- بيكو، على تطويع اللغة واللسان الواحد لهذا الفضاء الجغرافي والقِبّلة الواحدة، والثقافة الواحدة، والامتداد الجغرافي الواحد إلخ.. لتجعل من هذا ومن مُجمله، نسيج يربط ويشدْ الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط بعضه إلى بعض بوشائج ولحّمة شرق أوسطية، وليس كما نعتقد واهمين، ورَسَخ في أذهاننا بما تقوله وتردده وسائل الإعلام بتنوعاتها على مدار قرابة قرن من الزمان.
وما كان ليكون الشرق الأوسط، لو لم يتولد عن هذا النسيج بعد اكتماله، ثقافة جديدة نهضت وترعرعت في تربتها، منظومة ثقافية شرق أوسطية، تمخضت عنها بنية فكرية سياسية اقتصادية، تجلّت في مجموعة من النظم الوظيفية، غطت بصيغتها وتنوعاتها الجيوسياسية كل الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط، مسنودة ومدعومة بمؤسسات إقليمية (الجامعة العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، الاتحاد الإفريقي) وبرعاية العرّاب الدولي للشرق الأوسط.
وما كان ليكون الشرق الأوسط، لو لم تتبلور على يد هذه الثقافة الشرق أوسطية، منظومة قيمية موازية، اتخذها واعتمدها كيان الشرق الأوسط مرّجعية ضابطة لسلوكه وتفاعلاته، ولتُأمن له ديمومة حضور كامل وبدرجة عالية من الحيوية داخل مشهد الأحداث، وتَمكّن وبالاتكاء عليها وبها، من اختزال فضاء شرق وجنوب المتوسط في مُسمى الشرق الأوسط.
ولهذا السبب نلاحظ وفي الحالة الليبية، الفجوة الكبيرة ما بين نتائج وحصيلة سلوك وتفاعل وسعى ورغبة كل من السيد الدبيبة، والبيدق الكبير، والمشرى ومن قبلهم السراج، في تعاطيهم مع تعقيدات تأزم البلاد، وتفاعلهم معه داخل الوعاء الجغرافي الليبي، وما بين ما يأمله الليبيون ويرجوّنه، في أن تأتي محّصلة مشاغلة هؤلاء للتأزم على نحو يصب في مصلحتهم ومصلحة بلادهم ومحيطها الإقليمي القريب والدولي البعيد.
بمعنى أن هؤلاء وما ضمت كوادرهم من مدنيين وعسكريين وملشياويين لا يرون في غياب الخدمات الضرورية (كهرباء، ماء، وقود، خدمات مصرفية.. إلخ) عن كل ـهل الجنوب الليبي – مثلا- وعن الكثير من الليبيين شيئا ذي بال يجب الالتفات إليه، لأن منظومتهم القيمية ومرجعياتهم قد صاغتها حواضن ليست محلية وطنية ليبية، بل شرق أوسطية لا هم لها سوى تطويع كل ما يقع بين يديها وما قد يصير في متناولها في خدمة كيان الشرق الأوسط، وليس في غير ديمومة وبقاء الشرق الـوسط.
كنت أحاول أن أصل بالقول من خلال ما سبق، بأن هذا وليس غيره، الواقع الموضوعي للمفردات التي تُشكل التأزم الليبي وتعقيداته، ولا يُجدى – في تقديري – مقاربته ومشاغلته من غير هذا المُدخل، فعراب كيان الشرق الأوسط، وليس غير من يتحكم ويسيطر على تحركات بيادقه، بدأ من الكبير إلى باقي البيادق المتنوعة الـحجام المنتشرة على اتساع رقعة الوعاء الجغرافي الليبي، في ما مضى وفي ما سيأتي من أحداث ووقائع في مُقبل الأيام.
ولهذا يجب أن تتجه نحوه وبوضح تام، كل المشاغلات السلمية وغيرها، في حركة الشارع، وملتقيات الحراك المدني وفي العصيان والتظاهر والاعتصام، وبكل صيغ جديدة مُبّتدعه تدعم هذا التوجّه، الذي قد ينتهى في مرحلة ماـ إلى تأسيس وجه أخر من المُشاغلة والاشتباك، قد يتخذ صيغة خشنة منفردة لها مخالب وأنياب، إن لم تكف سفارته بليبيا سرا وعلانية، عن وضع العوائق والعقبات في طريق محاولات الليبيين الجادة لتخطي تعقيدات تأزمهم، الذي أرهقهم وعصف ببلادهم وأحال حياتهم وجلببها ببؤس أزلى مدمر.
* المقال يتناول هؤلاء في شخصيتهم الاعتبارية، لا الأخرى الموازية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً