بعد ثمانية سنوات عجاف من الحروب والتهجير والمعاناة الاقتصادية، أصبح الشعب واعيا ومدركا لأهدافه، حازما في مطالبه، التي تتلخص في إزالة كل الاجسام التشريعية والتنفيذية الحالية، والمضي قدما في بناء الدولة بوجوه جديدة لم يتلوث أيديها بدماء الليبيين ولا المال الفاسد، وذلك بالذهاب إلى انتخابات حرة ونزيته.
وضوح المطالب الشعبية ومعوقاتها:
رغم وضوح الهدف لقطاع كبير من الليبيين، تمثل في تسجيل أكثر من مليونين ونصف ناخب للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات القادمة، إلا أن ذلك يقابله شبكة من النفعيين الفاسدين المتمسكين بالوضع الحالي، في كل من مجلس نواب طبرق والمجلس الاستشاري والحكومتين، والكثير من المؤسسات التي تترمم على فتات تلك الاجسام، مما جعل تغيير هذا الوضع في غاية الصعوبة بعد سبعة سنوات من الاجتماعات واللقاءات الفاشلة في معظم قرى العرب وعواصم أوروبا من شرم الشيخ الى بوزنيقة مرورا بباريس وروما وباليرمو وجنيف وفينا وبرلين وأبوظبي وتونس، من هذه الاجتماعات حظيت مصر بأغلبها إنعقاداً وكان مصير جلها الفشل ثم الفشل، والذي يمثل نكسة كبيرة للسياسة المصرية في ليبيا.
بعد تلك المحاولات الماراثونية، أصبح من العبث التحاور مع هذه الاجسام المهترئة ومن الحماقة انتظار حلول منها، ونقول ما قال الرئيس التشيكي إبان سقوط الشيوعية في بلده حيث قال: (Commonest should be Removed not improved) أي ان الشيوعية يجب إزالتها وليس تحسينها، والليبيون يقولون (كل الاجسام التشريعية والتنفيذية يجب ازالتها وليس التحاور معها)، وتشبث تلك الشخصيات بالمشهد الليبي طبيعي، فعندما يكون شخص معدوم ومغمور وليس له من كفاءة أو علم سوى مساندة القبيلة أو العائلة ليصبح نائب او وزير بمزايا لا توجد حتى في الدول الاسكندنافية فلا يلام عليه، وهم يعلمون أن مصيرهم النسيان بل جرجرة الى المحاكم للبعض منهم إن استقرت أمور الدولة.
تكتيكات الفاعلين الاقليميين على الساحة الليبية:
نتج عن خسارة حرب 4 ابريل 2019م على طرابلس وعدم تمكن حفتر من الوصول الى البنك المركزي ديون كبيرة على المصارف الليبية والاجنبية، أهمها على مصرف التجارة والتنمية الاماراتي بما يقارب 7 مليار دولار، مع توقف البنك المركزي عن تمويل هذا المصرف وتوقف المقاصة بين شرق وغرب ليبيا، وزاد من الامر سؤاً، قيام مالطا بحجز العملة الليبية المطبوعة في روسيا والتي كانت لتستبدل بالعملة الصعبة في المصارف الليبية، وهو ما جعل حفتر في ضائقة مالية كبيرة وعجز عن تسديد الديون ورواتب المرتزقة والمصروفات التي أحجمت حكومة الدبيبة عن تلبيتها بعد إنهاء حكومة الثني، كما خسرت الامارات قبل ذلك 132 مليون يورو في مرافعة نهائية بباريس بتاريخ 23 فبراير 2021م بخصور شركة ليركو الليبية الإماراتية التي توقفت عن تشغيل مصفاة راس الانوف لثمانية سنوات في المحاكم، وكان القرار لصالح المؤسسة الوطنية للنفط، مما جعل الصديق الكبير و صنع الله عدوان لدودان للإمارات.
في سباق مع الزمن بين أبناء الكرامة أخد إحداهما سبيل الاستخبارات المصرية بمساعدة عقيلة لتكوين حكومة جديدة برئاسة باشاغا تحث مسمى حكومة البرلمان، وهي الضامن للوصول إلى البنك المركزي الليبي بتغيير المحافظ عند اول يوم لتسلم الحكومة مكاتبها في طرابلس لأجل تسييل الأموال لجيش الكرامة وتسديد ديونه، وكانت مؤسسة النفط متماهية مع هذا النهج، حيث أستقبل صنع الله مدير شركة بتروجيت المصرية للنفط بمكتبه في 27 يونيو 2022م ووعدهم بعقود تناهز نصف مليار دولار لصيانة مستودعات البريقة والموانئ النفطية وبعض خطوط الانابيب. ولكن هذا النهج قٌوبل بمعارضة شديدة من الغرب الليبي، ولم تعترف بهده الحكومة أي دولة سوى مصر، وأصبح من المؤكد أن باشاغا لن يتمكن من استلام مقاليد الحكم، وأن بيع الخردة وتهريب الوقود وبيعه لتركيا (حسب معرفة وتصريح صنع الله) لم ولن يفي بمتطلبات قوات الكرامة، فكانت الخطة(ب).
الخطة (ب) تتمثل في طرق أبواب أدبيبة مباشرة في اجتماع بين أحد المسؤولين في مطبخ الدبيبة وصدام حفتر في الامارات بعد أن ابتعدت ألاخيرة عن مصر، والذي نقلته الكثير من وسائل الاعلام، وهدفه مرحليا تغيير مدير المؤسسة الوطنية للنفط بأحد أعوان الامارات وفتح الموانئ للتصدير من أجل تسديد ديون مصرف التجارة والتنمية والحصول على عقود جديدة للشركات الإماراتية مع حصول الكرامة على تمويل بتحويل الميزانية المقترحة لها، وبقاء الدبيبة في الحكم إلى إشعار أخر، وبذلك يمكن الضغط على قوات فاغنر للخروج من ليبيا وهو من أولويات السياسة الامريكية. الملاحظ أن الدول الغربية وخاصة بريطانيا وأمريكا قد أعطت الضوء الأخضر لتنحية صنع الله ولم توافق مرحليا على تغيير محافظ البنك المركزي لأسباب ربما تتعلق بمنع انزلاق الدولة إلى حروب أخرى بالوكالة عن القوى الإقليمية، إن توفر لها المال من المركزي.
سيناريوهات الحل والتأزيم:
يتفق معظم النشطاء الليبيين من خارج المنظومة الحاكمة والمتحكمة في ليبيا، إلى أن الحراك الشعبي المنظم هو السبيل الوحيد للضغط على الأجهزة التشريعية والتنفيذية الحالية، من أجل استقالتها أو إقالتها أو الدفع بها إلى انتخابات برلمانية جديدة، ولكنهم يختلفون على وسائل الانتقال من الوضع الحالي إلى تنظيم الانتخابات دون الانزلاق فى فوضى عارمة، وكل نهج له أنصاره، وتتمثل السيناريوهات المحتملة فيما يأتي:
- تسليم الحكم للقضاء:
هناك شريحة من النشطاء ينادي بسقوط جميع الاجسام من مجلس النواب ومجلس الدولة والرئاسي والحكومتين، ومن تم تسليم الحكم للمجلس الأعلى للقضاء الذي سيقوم بتشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة تدير البلاد، ويشرف على تعديل الدستور والاستفتاء عليه ثم الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتزامنة.
يعترض هذا الامر عقبتين أساسيتين، الأولى أن القضاء لا يستطيع تنفيذ قراراته على كل ربوع الوطن في غياب قوى أمنية موحدة تعمل على إنفاد مراسيم القضاء، فمثلا فشل القضاء في تنفيذ أحكام بطلان لجنة فبراير، وفشل في إيقاف المؤتمر الوطني وتحوله إلى مجلس الدولة، وأغلق المحكمة الدستورية فلا مجال لرفع الدعاوي ضد القوانين الجائرة مثل قانون الانتخابات الصادر من البرلمان، بالمثل فشل حتى في إصدار أي اومر قبض ضد من أجرم في حق الليبيين أو من قام بجرائم ضد الإنسانية.
والامر الثاني أن هناك شريحة كبيرة من الليبيين لها تخوف من استنساخ التجربة المصرية وعودة الدكتاتورية بمساعدة القضاء، ورفض حكومة باشاغا وهو من الثوار ووزير سابق إلا بسبب إمكانية أن يكون ممثلا حصان طروادة وتمكين غيره قانونيا من فرض سلطة الاستبداد لعقود قادمة، فكيف لقاضي مغمور أن يمثل هذا الدور.
- تسليم السلطة للمجلس الرئاسي:
يعتقد الكثير من النشطاء والأحزاب أن تسليم السلطة للمجلس الرئاسي من أفضل الطرق السلمية للانتقال الديموقراطي، وبذلك تنتهي كل الاجسام التشريعية والحكومات، ويقوم المجلس الرئاسي بإصدار مراسيم لتشكيل حكومة مصغرة، وإصدار وثيقة دستورية للانتخابات، وقانون الانتخابات، يتم بعدها إجراء انتخابات برلمانية، ينتج عنه حكومة تقوم باستكمال الدستور النهائي والاستفتاء عليه وهو الذي يحدد نظام الحكم وتحديد صلاحيات الرئيس والبرلمان، يعقبه انتخابات رئاسية وهو الحالة المستقرة للدولة.
هذا النهج يعترضه بعض المعوقات منها عدم قبول الكثير من النشطاء الفيدراليين في الشرق الليبي بالرئاسي ممثلا للجميع (وإن كان رئاسته من محمد المنفي وهو من شخصيات الشرق، ولكن ليس له الثقل القبلي) وهناك بعض الاعتراض من المجموعة الدولية والحكومات الإقليمية ولكن بدرجة أقل، وربما السبب المباشر أن المجلس الرئاسي ليس له شخصية كاريزمية تستطيع القيام بمثل هكذا عمل جوهري وسيواجهها الكثير من العراقيل التي لا تستطيع حلها وخاصة أن ليس للرئاسي قوة على الأرض سوى لواء دعم الاستقرار وهى قوة متواضعة مقارنة بالمجموعات المسلحة الأخرى في الشرق والغرب.
في حقيقة الامر أن هذا المسلك إن توافق عليه الليبيون هو الأفضل للمرحلة الحالية، والذي سيساهم في الانتقال الديموقراطي بأقل خسائر ممكنة، وخاصة أن إزالة جميع الاجسام ومنها الرئاسي سيفتح الصراع على مصرعيه بين قوات الكرامة والقوات المتواجدة في الغرب الليبي، وقد يؤدي إلى حروب عبثية تستمر لأعوام قادمة، وخاصة أن سيناريو الانقسام غير عملي وغير مرحب به من القوى الدولية أو الداخل الليبي، عدا الحكومة المصرية.
- اتفاق رؤساء مجلس النواب والدولة:
لم تتوقف المبعوثة الأممية ستيفاني وليامز من محاولات إدارة الازمة الليبية، وإصرارها على الوصول إلى وثيقة دستورية بين رؤساء مجلس النواب والمجلس الاستشاري، وهم من لم يعد لهم قواعد داخل مجلسيهما، بل شُلل تقتات على استمرار الازمة وإعادة تدويرها، وفي كل مرة تعلن مبعوثة الأمين العام نهاية الحوار، إلا وتعلن عن اجتماع أخر في سلسلة من الإخفاقات المستمرة. ويرجع السبب أن كلا الجسمين سينتهيا بمجرد الإعلان عن الاتفاق والذهاب الى انتخابات، ولذا لا يجب توقع الكثير منهم، إلا في عند تواصل حراك عارم يشل حركتهم ويدفعهم للاستقالة، وفي حقيقة الامر لن تصدر أي دساتير عن مجلس النواب لأنه وكيل لبرنامج إقليمي لا يستطيع الخروج عن تفاصيله.
- السيناريوهات المربكة للمشهد:
هناك سيناريوهات ثانوية غير واقعية ومربكة للمشهد الليبي مثل دعم العودة للملكية ودستور 1951م وهو تفكير خارج نطاق الواقع باسترداد ملكية زالت من نصف قرن أو دستور كتب قبل سبعون عاما، مع وجود عائلة مالكة وشخص يتم القسم به (كملك مفدى وسليل الفاتحين). المجموعة الأخرى هي المجموعة القبلية التي تنادي بالفيدرالية ليس كنظام حكم بل كوسيلة لتوزيع ريع النفط والمناصب السيادية كغنيمة على مبدا العامل الجغرافي المُخل لمبدأ المواطنة، وهي مجموعات صغيرة ليست ذات أهمية سوى تشجيعها من الدولة الجارة لجعلهم أداة ضغط وخلط الأوراق على الساحة الليبية.
الحراك الشعبي:
في الظروف الراهنة التي تناست فيه القوى الدولية المشكلة الليبية، لانشغالها بقضايا أكثر أهمية مثل الحرب الاكرانية الروسية، لم يبقي لليبيين إلا الحراك الشعبي المستمر لإسقاط مجلسي النواب والدولة، وهذا الحراك يجب أن يعم كل الأراضي الليبية، فالوضع الحالي من انقطاع الكهرباء والغلاء الفاحش وندرة السيولة وتدهور الامن لم يترك مدينة دون أخرى ولم يفرق بين الشرق والغرب والجنوب، وسؤ إدارة الدولة والفساد المالي والإداري لا يقتصر على مدينة دون أخرى.
الحراك الشعبي السلمي أسقط الكثير من الحكومات في الكثير من دول العالم، ففي سنة 1989 م سقطت 5 حكومات بأوروبا الشرقية وفي سنة 2011 سقطت أكثر من 12 حكومة، وتوالى السقوط إلى هروب رئيس سيريلنكا وحكومة العائلة الأسبوع الماضي. أما في السودان فهي الثورة المستمرة والصامدة لإسقاط العسكر بقيادة قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين وستسقط حكومة العسكر عاجلا أو أجلا.
نعم في ليبيا نفتقد الى تلك المؤسسات العتيدة مثل الأحزاب السودانية أو الاتحاد العام للشغل في تونس، ولكن هناك الكثير من النشطاء الذين يمكن تأطيرهم وقيادتهم لحمل أهداف الشعب على عاثقهم في التخلص من الاجسام التشريعية والتنفيذية الحالية والعبور بهم الى بر الأمان وهو من مهام الأربعة والخمسين حزبا المرخص لهم بالعمل ومنخرطين جلهم في رابطة الأحزاب، وبالتعاون مع الروابط الطلابية ومؤسسات المجتمع المهني والنقابات. العمل الحزبي هو السبيل الى الديموقراطية إلى إبعاد الشللية والقبلية وحكومة العائلات، فالاحزاب وحدها لها برامج ولها قيادات، أما الافراد والعائلات والقبائل فلا برامج لها، وسبيلها الوعود بالمناصب والمال أو استعمال الرجال البارود وهي ثقافة ما قبل الدولة.
لا شك أن المشاركة في الحراك الوطني السلمي المنظم والحضاري في مسيرات وإعتصامات ومداخلات تلفزيونية وتدوينات على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى منابر المساجد، من الاعمال الوطنية لذر المفاسد وجلب المصالح، بإبعاد المفسدين ومغتصبي الحكم وخائني الأمانة والمبدرين لأموال الشعب دون وجه حق، بل أنهم من شرعن الحروب والقتل لسنوات طويلة، وهم من أباد النسل وحرق الشجر والحجر، وهم من شرد العائلات وأوقف الدراسة، وجعل الليبيين كأيتام العصر في الكثير من الدول، والله تعالى يقول: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً