كشفت وثائق من الأرشيف الوطني البريطاني الحكومي، عن الأطراف العربية الفاعلة في إقناع زعيم النظام الليبي الساق معمر القذافي، بتسليم المتهمين بتفجير لوكربي ومخاوفه حيال استغلال الأمر ضده من قِبل خصومه الإسلاميين، أو من الرجل الثاني في نظامه عبد السلام جلود الذي ينتمي إلى قبيلة المقارحة التي ينتمي إليها عبد الباسط المقراحي المدان الوحيد في التفجير.
ووقع التفجير مساء 21 ديسمبر 1988، وأسفر عن مقتل 270 شخصا، بعد سقوط طائرة ركاب أميركية تابعة لشركة طيران بان أمريكان رقم Pan Am Flight 103، أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي الاسكتلندية.
وأعلن النظام الليبي مسؤوليته عن حادث لوكربي وقبوله بالتعويض لضحاياه، وسلم رسالة رسمية بهذا الاعتراف إلى مجلس الأمن الدولي، في 15 أغسطس 2003، ومنذ وقوع الحادث عملت قناة تواصل بريطانية مصرية على التأثير على القذافي لإقناعه بتسليم المتهمين.
وبحسب ما نقل موقع “العربي الجديد”، فقد كشفت الوثيقة السرّية رقم (Z171530) المؤرخة في مايو 1992، والموجهة من السكرتير البريطاني الخاص في القاهرة إلى وزارة الخارجية البريطانية، عن محاور لقاء وزير الخارجية البريطاني مع أسامة الباز، مدير مكتب الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك للشؤون السياسية، في القاهرة بتاريخ 17 مايو، وتؤكد على محاولات الباز إقناع الزعيم الليبي الراحل بتسليم المتهمين وتعهده بأمور من قبيل أنه إذا وجد المتهمين مذنبين، فسيكونان حرين في العودة إلى ليبيا من دون عائق في نهاية عقوبتهما.
وأكد الباز للقذافي على ضرورة القيام بخطوتين أساسيتين للتخلص من العقوبات الغربية، الأولى الحاجة إلى قطع علاقة ليبيا بالإرهاب وإظهار أنها فعلت ذلك، والتحقق من تنفيذ الالتزامات الليبية.
ولفت الباز، بحسب الوثيقة، إلى أن القذافي أشار إلى استخدام قنوات تواصل أخرى بين الجانبين البريطاني والليبي. لكن الباز اتفق مع وزير الخارجية البريطاني على أن زيادة القنوات (بخلاف القناة التي تم إنشاؤها عبر المصريين) لم تكن مفيدة.
وسلطت وثيقة موجهة إلى وزارة الخارجية البريطانية من الدبلوماسي البريطاني فيرغوس كوكران ديت، الذي خدم في طرابلس وتم تعيينه رئيسا لقسم رعاية المصالح البريطانية (1996 – 1997)، الضوء على الدور الذي لعبه أسامة الباز في قضية لوكربي، إذ يصفه ديت في تقريره المؤرخ بـ10 يوليو 1995، بأنه من أقرب مستشاري الرئيس مبارك، “ويعمل منسقاً ومبعوثاً وأحياناً متحدثاً عاماً للشؤون الخارجية”، لافتا إلى فترة عمله الطويلة (كان لاعباً أساسياً في كامب ديفيد)، قائلاً: “ثبت حتى الآن أن الشائعات القائلة إن سوء الحالة الصحية أو طموحات الآخرين من شأنها أن تقوض منصبه لا أساس لها من الصحة”.
وتابع ديت أن الباز “مطّلع بشكل جيد ومحاور متمكن حول مجموعة كاملة من القضايا الإقليمية، كما لعب دوراً خاصاً كقناة لاتصالاتنا الخاصة مع الليبيين بشأن الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت (أحد الأجسام العسكرية التي انشقت عن الجيش الجمهوري)، ومن القضايا الأخرى التي نولي اهتماماً كبيراً لها نحن ومصر، انتخابات الفلسطينيين وإيران والعراق، ووجود متطرفين مصريين في المملكة المتحدة”.
وتؤكد الوثيقة السرية رقم 060050Z، المؤرخة في فبراير 1997 والموجهة من واشنطن إلى وزارة الخارجية والكومنولث بعنوان: “موضوع عقوبات ليبيا الجامعة العربية/ خطاب منظمة الوحدة الأفريقية”، على الدور المصري في الأزمة، مشيرة إلى أن “الولايات المتحدة تعتبر المصريين لاعبين رئيسيين، لكنهم يشكون من ضغوط أميركية عليهم بسبب تلك القضية”، وتتابع: “من شبه المؤكد أن القضية ستثار عندما يزور مبارك واشنطن في مارس”.
وتكشف الصفحة الخامسة من الوثيقة السرّية المؤرخة في 18 أبريل 1998 والموجهة من السكرتير الخاص لبريطانيا في القاهرة إلى مكتب رئيس الوزراء البريطاني، عن مخاوف القذافي من تسليم المشتبه بهما، إذ ينقل عن الرئيس المصري مبارك أن القذافي لن يسلم المشتبه بهما أبدًا، وأنه لا يملك الشجاعة للقيام بذلك لأنهما من قبيلة جلود (عبد السلام جلود من قبيلة المقارحة، كان يعتبر الرجل الثاني في ليبيا بعد القذافي قبل أن يغضب منه القذافي في التسعينيات ويتم وضعه تحت الإقامة الجبرية)، ويتابع: “هؤلاء ينتظرون فرصة لقتل القذافي على أي حال. لم يقل القذافي هذا الكلام، لكن هذه كانت وجهة نظر مبارك. لأنهما من قبيلة جلود الذي ينتظر بفارغ الصبر انتهاز فرصة قتله”.
ما سبق تدعمه الوثيقة السرّية رقم (Z171530)، إذ يقول وزير الخارجية البريطاني إن “القذافي لم يكن الصوت الوحيد في ليبيا، وهو ما وافقه فيه أسامة الباز، لكنه اعتقد بأن موقف القذافي قوي داخليا بما يكفي لاتخاذ القرار النهائي، مشيرا إلى الحاجة في الوقت نفسه إلى ضغط ثابت من مبارك حتى يفعل القذافي الشيء الصحيح، خاصة أنه رأى أن تأثير مبارك حميد”.
وتمثلت مخاوف القذافي، كما رصد الباز، في اعتقاده بأن المحاكمة ستستخدم سياسيا ضده، قائلا: “كان يشك في أن أنشطة الليبيين المهاجرين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أنشطة الهاربين الليبيين، ستؤدي إلى إنتاج معلومات كاذبة حول القضية”، قائلا: “النتيجة النهائية ستكون خدمة مصالح الأصوليين في ليبيا”.
وتدخل مسألة دعم نظام القذافي للجيش الجمهوري الأيرلندي في معظم وثائق قضية لوكربي، إذ تتطرّق الصفحة الثالثة من الوثيقة رقم (Z171530) إلى ما قاله وزير الخارجية البريطاني بأن حكومته ستكون سعيدة بقبول الوثائق المتعلقة باتصالات ليبيا بـ”الإرهابيين الأيرلنديين”. ذكر الباز أن وزير الخارجية الليبي إبراهيم البشاري زعم أن الليبيين جادون في تقديم معلومات مفيدة عن اتصالاتهم مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، “ومع ذلك لا يمكنهم الوعد بالكشف عن كل شيء”.
وتؤكد وثيقة سرية صادرة عن مكتب وزارة الخارجية والكومنولث، بتاريخ 16 نوفمبر 1995، حصول بريطانيا على معلومات كافية عن الجيش الجمهوري الأيرلندي، إذ جاء فيها أن “الليبيين أجابوا عن أحدث مجموعة من أسئلتنا حول علاقتهم بالجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، ولإغلاق هذا الفصل في علاقاتنا مع الليبيين، نرتب الآن لإخبار الأمين العام للأمم المتحدة بالموقف الحالي ونطلب منه إبلاغ الليبيين، سنذكره في الوقت نفسه بأن الدعم المادي والمالي المقدم للجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت دعم بشكل كبير قدراته شبه العسكرية في وقت كان يشن فيه عمليات إرهابية ضد المصالح البريطانية”.
ويعلق الدكتور توماس ليهي، المحاضر في السياسة البريطانية والأيرلندية والتاريخ المعاصر في جامعة كارديف، على علاقة وقف الدعم الليبي عن الجيش الجمهوري بتوقيع اتفاق بلفاست، قائلا: “تشير الأدلة إلى أن القذافي قدم للجيش الجمهوري الأيرلندي كمية كبيرة من الأسلحة والمتفجرات في أواخر الثمانينيات (1987 – 1988)”، ويضيف: “لا يهم حقًا ما إذا كان الإمداد الليبي بالأسلحة قد توقف بعد لوكربي. فقد حصل الجيش الجمهوري الأيرلندي بالفعل على ما يحتاجه من سلاح ومتفجرات، وتؤكد الأدلة كما قلت في كتابي (حرب المخابرات ضد الجيش الجمهوري الأيرلندي)، أن الجمود المسلح جنبا إلى جنب مع العوامل السياسية في جزيرة أيرلندا أدّيا إلى السلام، بعد تغيير نهج الجيش الجمهوري الأيرلندي بحلول أواخر الثمانينيات”.
ويختلف سام حمد المحلل المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، والموجود في إدنبرة باسكتلندا، مع ليهي مشيراً إلى أن: “فقدان الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، الدعم الرئيسي من السلاح بعد الصفقة بين البريطانيين والقذافي بوساطة مصرية، شكل عاملاً في قراره بأن مستقبل الكفاح من أجل الوحدة الأيرلندية يكمن فقط في السياسة، وهو ما أدى إلى توقيع اتفاقية بلفاست”.
لكن عضو سابق في الجيش الجمهوري الأيرلندي (طلب عدم التعريف عن اسمه) يؤكد من واقع دراسته للمنظمات والحركات السياسية والاجتماعية وشبه العسكرية الأخرى المرتبطة بالجيش الجمهوري، أن توقف ليبيا عن إمداد المنظمة بالسلاح لم يكن له أي تأثير على الإطلاق في عملية السلام أو اتفاقية بلفاست. لافتاً إلى أن إجراء نقاشات داخلية حول عملية السلام وفوائدها السياسية في ذلك الوقت. كما يشدّد على أنّ الجيش الجمهوري كان يمتلك كميات كبيرة من الأسلحة عند موافقته على السلام، حتى أنّه كان يواجه مشكلة في تخزينها والكثير منها لم يُستخدم بتاتاً وبقي في الصناديق”، بينما يعتقد كريس دويل، مدير مجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني، أن العقوبات على ليبيا بعثت برسالة قوية في مواجهة الإرهاب الذي ترعاه الدول، قائلا: “ما يمكننا قوله إن الاعمال الإرهابية شهدت انخفاضًا برعاية ليبية للجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك الجيش الجمهوري”.
هذا وترصد الوثيقة رقم Z0102512 مواقف الدول العربية من قرار فرض عقوبات على ليبيا في مجلس الأمن في أبريل 1992، إذ يؤكد ممثل الأردن والمتحدث باسم المجموعة العربية، مساعي الجامعة العربية للتوصل لحل سلمي للأزمة، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت. متابعا: “لا يوجد شك في معارضة الدول العربية للإرهاب الدولي”.
وتساءل الدكتور سمير خيري النعمة ممثل العراق، حول أسباب الانتقال إلى العمل بموجب الفصل السابع (يواجه تهديد السلم والإخلال به) بينما لم يستنفد المجلس جميع الوسائل المتاحة بموجب الفصل 6. وتابع: “لم يتخذ المجلس أي إجراء بموجب الفصل 7 عندما فشلت إيران في قبول قرار مجلس الأمن رقم 598 لمدة عام. وسأل عما إذا كان المجلس قد أخذ في الاعتبار المشكلات الاقتصادية لدول الجوار جراء العقوبات على ليبيا، بينما قال ممثل المغرب الدبلوماسي أحمد سنوسي، بأن بلاده تدين الإرهاب الدولي. وحث على الصبر وقرر الامتناع عن التصويت”.
وفي ديسمبر عام 2020، أعلن النائب العام الأميركي ويليام بار، في مؤتمر صحافي عقد في واشنطن، عن اتهام ضابط أمن ليبي يدعى أبو عجيلة محمد مسعود بصنع القنبلة التي فجرت طائرة البوينغ 747، وعقب تصريح وزيرة الخارجية الليبية بإمكانية التعاون مع أميركا لتسليمه، أعلن المجلس الرئاسي الليبي في 6 نوفمبر الماضي، عن إيقاف نجلاء المنقوش عن العمل “احتياطيا” للتحقيق في ما نسب إليها من “مخالفات إدارية، تتمثل في انفرادها بملف السياسة الخارجية دون التنسيق مع المجلس الرئاسي، وفقا لمخرجات ملتقى الحوار السياسي”.
ويعلق تيم إيتون، وهو زميل باحث أول في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)، على إمكانية عودة الدور المصري للتأثير على ليبيا لتسليم المتهم الثالث، قائلا: “مصر لها نفوذ كبير في ليبيا، وتحديدا في شرق البلاد، الذي يسيطر عليه إلى حد كبير خليفة حفتر.
ويُضيف إيتون: “لكن أشك في أن تسعى إلى استخدام نفوذها اليوم لصالح تسليم المتهم الثالث، في مثل هذه اللحظة المحورية في العملية السياسية، لأن القاهرة لديها مصالح أكثر أهمية، وتلقت وزيرة الخارجية الليبية انتقادات لتصريحاتها بشأن تسليم المشتبه به الثالث في قضية لوكربي، والتي لطالما كانت قضية حساسة، والسلطات منقسمة إلى حد كبير في ليبيا وليس للمنقوش تأثير يذكر على مثل هذه القضية، في مقابل أن العلاقات المباشرة مع الجهات الأمنية هي التي تحدد ما إذا كان التسليم ممكنًا، ولا تزال قضية شقيق سلمان عبيدي (المحتجز في ليبيا) ومحاولات السلطات البريطانية لتسليمه طويلة وممتدة، ويمكن توقع حالة مماثلة هنا”.
ويتفق حمد مع إيتون، قائلا: “مصر الآن لا تتمتع بالجاذبية الإقليمية لإقناع الليبيين بالقيام بذلك”.
اترك تعليقاً