انحرفت شاحنة فارغة عن الطريق بالقرب من بلدة عون التونسية التي لا تفصلها عن ليبيا سوى بضع مئات من الأمتار ثم قفز ثلاثة رجال من الشاحنة وبدأوا في تحميلها بعبوات مليئة بالبنزين المهرب.
وينقل الوقود المهرب إلى بلدة تطاوين التونسية ليباع بثمن مرتفع إما على قارعة الطريق أو لتجار يمكنهم توزيعه في أماكن أخرى بتونس.
وقال تونسي يدعى محمد عبد الحق (57 عاما) وهو يفتح باب منزله ويرحب بزائرين في غرفة معيشة ليس بها سوى مقعدين من البلاستيك “نشتري في كل مرة 100 عبوة سعة كل منها 20 لترا -يطلقون عليها اسم جالون- ليس لدينا مصدر آخر للدخل. لا يوجد عمل هنا”.
كانت حوائط منزل عبد الحق غير مطلية كما تغطي أبسطة ممزقة الأرضية.
وقال عبد الحق “نتصل بمعارفنا الليبيين في نالوت ونقول إننا نريد مئة عبوة ونتفق على مكان لنلتقي فيه على الحدود ونتسلمها”.
تقف خمس شاحنات فارغة يعلوها الصدأ ولا تحمل لوحات رقمية في الخارج في انتظار عملية نقل أخرى للبنزين المهرب عبر الصحراء. وعلى الأرض الرملية القاحلة كانت هناك عبوات بلاستيكية في انتظار من يتسلمها.
وفي غياب الإجراءات الكافية لضبط الحدود بين تونس وليبيا بعد إطاحة انتفاضتين بزعيمي البلدين أصبح المهربون الذين يجوبون الطرق الصحراوية أكثر جرأة كما أصبحت الخلافات بينهم أشد عنفا.
ففي ابريل/نيسان قامت ميليشيا ليبية ببلدة الزاوية في غرب ليبيا باحتجاز ما لا يقل عن 80 عاملا تونسيا مهاجرا رهائن احتجاجا على اعتقال حرس الحدود التونسيين ثلاثة من أفرادها كانوا يهربون المخدرات.
وقالت وسائل إعلام تونسية إنه تم الإفراج عن الليبيين والتونسيين بعد محادثات.
كما احتجز مسلحون في بلدة زوارة الليبية الغربية خمسة مهربين تونسيين رهائن في ابريل/نيسان أيضا بسبب نزاع حول تهريب الوقود لكن تم إطلاق سراحهم فيما بعد.
وقتلت قوات تونسية في فبراير/شباط مسلحين اثنين وألقت القبض على ثالث بعد الاشتباك مع مجموعة من الإسلاميين المتشددين الذين اعتقلوا وبحوزتهم أسلحة مهربة من ليبيا.
وتلقي هذه الحوادث الضوء على أحد التحديات الكثيرة التي يواجهها المجلس الوطني الانتقالي الليبي من أجل فرض سلطته على عدد كبير من المجموعات المسلحة في ليبيا.
كما تكشف الحوادث أن حرس الحدود التونسي الذي يعاني من قلة أفراده ونقص في المعدات يقف عاجزا أمام تجارة سوداء كثيرا ما تقوم بها عصابات مدججة بالسلاح.
ويقول سكان محليون إن من يتورطون في تجارة السلاح الاكثر سرية هم عادة ما يكونون جزءا من عصابات منظمة متصلة ببعضها البعض جيدا ويتحركون في جنح الليل.
وقال أحد أفراد حرس الحدود التونسي عند معبر ذهيبة الذي كان نقطة ساخنة أيام الصراع في ليبيا العام الماضي “ليس لدينا الأسلحة لمحاربة المهربين. أحيانا نلاحق أشخاصا لكن سياراتنا ليست جيدة بما يكفي والليبيون مسلحون. يملكون أحيانا قاذفات صواريخ وأسلحة أخرى وعلينا ان نفكر في أرواحنا.
“يتم التهريب عبر الحدود وليس من خلال المعبر ويتم بشكل يومي ليلا ونهارا”.
وقال جندي الحدود التونسي إن سكانا محليين حاولوا قطع الطريق المؤدي إلى المعبر الحدودي عند ذهيبة يوم 17 ابريل/نيسان لمنع الليبيين من العبور.
وأضاف “ولأن شرطة الحدود اعتقلت هؤلاء الليبيين بسبب المخدرات بدأت عائلاتهم في صد التونسيين ورفضت بيع البنزين لهم .. كان التونسيون يحتجون على الليبيين”.
ويمثل التهريب شريان حياة لهذه الأراضي الحدودية التونسية التي تمتد فيها النباتات الصحراوية حتى منطقة الجبل الغربي الليبية القاحلة.
ويجري تهريب كل شيء من تونس إلى ليبيا بدءا من الماشية إلى الغذاء إلى الجعة والويسكي.
وتضررت الصادرات الرسمية للفوسفات الذي يتم استخراجه في تونس بسبب الاضرابات والاحتجاجات لكنه يجد طريقه للوصول إلى ليبيا.
وتبقى السلعة التي تهرب بشكل كبير بين ليبيا وتونس هي البنزين حيث يتم تهريبه من ليبيا المصدرة للنفط إلى تونس التي تستورد الوقود وتكافح أسعار النفط العالمية الاخذة في الارتفاع.
وكان التهريب رائجا قبل انتفاضات الربيع العربي لكنه كان محفوفا بالمخاطر ولا تقوم به سوى قلة.
وفي ظل الفراغ الأمني الذي ساد منذ الانتفاضات العربية يقول سكان محليون إن التهريب أصبح الوسيلة الرئيسية لكسب العيش في المناطق الحدودية التونسية النائية التي لا توجد بها مصانع ولا خدمات ولا توجد بها أرض خصبة تمكنها من الزراعة.
ويقول عبد الحق إن أولاده يقومون بما يصل إلى 20 عملية نقل في اليوم فيجلبون ما يصل إلى ألفي لتر من البنزين ووقود الديزل. وتتفاوت الأسعار وفقا للكمية ويبيع عبد الحق لتجار يبيعون بدورهم البنزين مباشرة لسائقين في مناطق أكثر ازدحاما بالسكان.
وكلما ابتعدت عن الحدود كلما ارتفع السعر لكن السائقين التونسيين الذين يحصلون على الوقود مقابل ما يصل إلى 16 دينارا (عشرة دولارات) يدفعون بالفعل نصف المبلغ الذي يدفعونه في محطات البنزين المحلية.
وحتى الشاحنات التي لا تحمل أرقاما وتجوب الصحراء بين تونس وليبيا فهي تباع في ليبيا مقابل ألف دينار للسيارة أي أرخص بكثير من سعرها في تونس.
وقال عبد الحق “قبل الثورة كانت الشرطة أحيانا تصادر سيارتك وتأخذ كل شيء… أما الان فإنهم لا يقومون بتوقيفنا لأنهم يعلمون وضعنا. إذا كان أمامنا شيء آخر لامتنعنا عن التوجه إلى ليبيا”.
وتفاقم الوضع لدرجة دفعت رئيس هيئة أركان الجيش الليبي يوسف المنقوش لزيارة وزارة الدفاع التونسية يوم 24 ابريل/نيسان لتنسيق أمن الحدود.
وأفاد موقع وزارة الدفاع التونسية على شبكة الانترنت بأن وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي أبرز بعد اللقاء “ضرورة تكثيف المراقبة لمنع كل الأنشطة غير المشروعة وإحكام التنسيق بين البلدين في المجال والبحث عن الحلول والآليات الكفيلة للتصدي للجريمة العابرة للحدود بكل أنواعها ولظاهرة انتشار الأسلحة وتهريبها عبر الحدود بما يضمن أمن البلدين الشقيقين واستقرارهما والمنطقة عموما”.
وتطرق حمادي الجبالي رئيس الوزراء التونسي إلى المشكلة في كلمة ألقاها أمام البرلمان وقال إن التهريب بين تونس وليبيا تفاقم إلى حد يجعله يؤثر في الاقتصاد التونسي.
ويرى محللون إن تهريب الأسلحة وانتشار الجماعات المتشددة يمثل خطرا أكبر في دولتين مثل مالي والجزائر لكن تونس قد تصبح نقطة انتقال للأسلحة عبر حدود دول شمال افريقيا.
وبالنسبة للسكان المحليين فإن التهريب يمثل تحديا اقتصاديا.
ففي المناطق الحدودية القريبة من ذهيبة تتحرك الشاحنات التي تنقل البنزين والماشية في الطرق تحت أعين الشرطة. وتنتشر الأكشاك التي تبيع البنزين المهرب من ليبيا على طول الطرق الرئيسية.
لكن محليين يقولون إن تجارة البنزين المهرب أصبحت أصعب بشكل متزايد بسبب العدد الكبير من نقاط التفتيش التي تديرها ميليشيات ليبية متناحرة على الطريق من الجبل الغربي في ليبيا إلى الحدود التونسية. وعند كل نقطة تفتيش يصادر مسلحون كميات من البنزين المهرب مما يضر بالمكاسب التي تدرها التجارة.
ويقول تونسيون ينقلون النفط المهرب إنه ليس أمامهم سوى الانصياع.
وقال محمد حاويوي الذي كان يقف عند كشك يبيع البنزين المهرب على بعد أمتار من معبر ذهيبة “المتمردون يحكمون هناك.. لا أريد أن أسمع إهانات أثناء جلبي للبنزين.
“حتى أن بعضهم أطلق النار علينا. لم نرد.. لكن لا يمكنهم فعل هذا إذا كانوا يريدون جلب كل شيء آخر من هنا إلى ليبيا”.
ويقول حاويوي إنه ليس مهربا لكنه يقوم بمقايضة على نطاق ضيق عبر المعبر الحدودي الرسمي وليس عبر الصحراء. ويضيف إنه اضطر للقيادة إلى عمق أكبر في منطقة الجبل الغربي الليبية للحصول على البنزين الأمر الذي أضر بما يحققه من مكاسب.
ولا يسمح للتونسيين بملء خزانات سياراتهم بأنفسهم في محطات الوقود الليبية حيث يصل سعر ملء خزان سعته 20 لترا ما يعادل ثلاثة دينارات. ويشتري التونسيون من الليبيين بسعر يفوق ضعف سعر الوقود في ليبيا ويضيفون إليه مبلغا اضافيا من المال نظير نقله عبر الحدود.
ويشتكي سكان تونسيون من أن تهريب الغذاء من تونس إلى ليبيا والاتجار فيه يسبب نقصا في الغذاء وأدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات الطازجة في المناطق الحدودية بين البلدين. وارتفع سعر الطماطم (البندورة) أكثر من خمسة أمثال في بعض المناطق الحدودية.
ويشعر كثيرون أنهم يلقون معاملة ظالمة. ويقول محليون إنهم يشعرون بمرارة خاصة لأن تونسيين في محافظة تطاوين الحدودية التونسية فتحوا أبوابهم للاجئين ليبيين أيام الصراع في ليبيا.
وقال حاويوي “إذا لم يعجبك الأمر لمن يمكنك أن تتحدث؟ ليس هناك من يمكنك التحدث معه. الأمر تحكمه الميليشيات ولكل منها أفكار مختلفة بل انها تغير آراءها.”
اترك تعليقاً