أحداث 25 يونيو 2021م قد تكون مفصلية في تاريخ تونس، دعنا نتجاوز المسميات، أي كانت؛ حركة تصحيح أو عودة الدولة أو عملية جراحية للتخلص من الانسداد السياسي كما يحلو للرئيس وأنصاره تسميته أم انقلاب على النظام الدستوري البرلماني، وانقلاب على السلطة وتعطيل المؤسسات الديموقراطية كما يراها معارضوه.
من الواضح أن تونس لن تعود إلى المؤسسات الدستورية والنظام الديموقراطي في المدى القريب، وذلك بسبب وجود مشاكل هيكلية في النظام السياسي استغلها الرئيس لإيجاد قطيعة مع تلك المؤسسات، وليس هناك طريقة لتطويرها في الوقت الراهن.
المشكلة السياسية في تونس هي مشكلة النظام السياسي البرلماني الذي تم اختياره لتك الثورات بعد 2011 والتي كانت بين خيارين؛ إما نظام برلماني يكون للرئيس سلطات محدودة، أو رئاسي/ مختلط يكون الرئيس ذو صلاحيات واسعة تسمح له بالانقلاب على السلطة والرجوع إلى الاستبداد، فكان الخيار الأول. هذا النظام البرلماني لا يكون ناجحا عند الدول التي تحتوي على أحزاب كثيرة لأسباب جهوية أو عرقية أو في فترة تغيير اجتماعي مثل العراق وليبيا وتونس والجزائر والسودان، وله عيوبه حتى في دول لها تجربة ديموقراطية مثل إيطاليا.
الانسداد السياسي في تونس ربما ثم التخطيط له منذ الانتخابات البرلمانية الماضية بتفريخ العديد من الأحزاب الصغيرة المتنافرة وانشطار الأحزاب الكبرى من أجل مجابهة الإسلام السياسي العدو اللدود لدول الاستبداد، عما بأنه لا يوجد وزير واحد تابع النهضة في حكومة المشيشي رغم أن النهضة هي المساند الأساس للوزير الأول في مجابهته لقيس سعيد. هذا الانسداد الذي عطل الحكومة وعطل القوانين أعطى للرئيس مبرر لتجميد البرلمان وحل الحكومة، وكانت البداية بإصدار قرارات رئاسية فوقية للتنفيذ وليس للحوار؛ مثل تعيين وزير للدفاع وآخر للداخلية وإقالة الوزراء ومدراء الهيئات. بالمثل مطاردة النواب المعارضين له وخاصة من النهضة، ووضع تهم لهم بعد إلغاء الحصانة عليهم، وكذلك إتهام رجال الأعمال والمقاولين بالفساد دون اللجوء إلى المحاكم أو إجراء تحقيق قضائي بالخصوص.
الآن وقد أعتلى قيس سعيد الشجرة وأصر على المضي قدوما رغم دعوة الأطراف المعارضة للحوار ومناداة الاتحاد العام للشغل بوجود خارطة طريق للفترة القادمة إلا أن الخارطة لم تظهر ولن تكون لأسباب عدة، بل أن الغموض هو جزء من المخطط، فظهور وزيرة الصحة للإعلان عن انهيار المنظومة الصحية في تونس بسبب الوباء قبل 25 يونيو بقليل ولتونس أرقي المنظومات الصحية في شمال أفريقيا، وما أعقبه من خروج مظاهرات غير عفوية وتبني قناة العربية والعربية الحدث بتغطية واسعة لها، يؤكد أن هناك مخطط يدار بدقة وفعالية.
بالإضافة إلى الحراك الداخلي التونسي وما أصابه من علل بسبب الضخ الإعلامي من قنوات الاستبداد وقنوات الدفع المسبق، هناك فاعلين دوليين وإقليميين على درجة كبيرة من الأهمية لتحديد مسار تونس، على المستوى الدولي كانت ردود الأفعال باهته، فأمريكا تنادي بعدم استعمال العنف والعودة إلى المسار الديموقراطي عندما تسنح الظروف ووجود خارطة طريق للمرحلة القادمة، أما الفرنسيين فهم في قمة النشوة بلا تغطية جيدة للأحداث فهي تفضل التعامل مع الدكتاتوريات التي تؤمن مصالحها، وبالمثل معظم الدول الأوروبية عدا ألمانيا التي كانت لهجتها أكثر قوة والتي تدعوا الرئيس إلى نبد العنف والعودة إلى المسار الديموقراطي في أقرب الآجال، هذه المواقف متوقعة حيث أن الغرب لا يهتم كثيرا بالديموقراطية قدر اهتمامه بالاستقرار والمحافظة على مصالحه، وحكومات الاستبداد تضمن تلك المطلب بجدارة.
في جميع حالات ثورات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان الإعلام والمال الخليجي هو الفاعل وللإمارات اليد الطولى في تخريب تلك الانتفاضات، فلقد نصبت حكومة في مصر وساندت حفتر لتخريب الانتقال الديموقراطي في ليبيا، وأشعلت الحرب في اليمن وسوريا وأججت الصراع في العراق، وأشركت العسكر في حكم السودان لتعطيل التغيير، واليوم جاء الدور على تونس. زيارات متوالية لوزير الخارجية السعودي ثم أنور قرقاش مستشار محمد بن زايد إلى تونس للتنسيق مع إشراك الحكومة المصرية لم يتوقف.
المال الخليجي من الإمارات والسعودية سيتدفق لحل المشاكل النية مثل توفير اللقاحات مع التطبيل بان الوباء قد انحسر بفعل سياسات قيس سعيد ومساندة الإشفاء، وأن مصنع الفوسفات بداء في الإنتاج بعد 10 سنوات من التوقف، وأن رجال الأعمال الفاسدين ثم تعيين المبالغ التي يجب عليهم تسديدها كمشاريع أو الذهاب للمحاكم، وأن النواب الفاسدين نزعت منهم الحصانة النيابية للبدء في رفع دعاوي ضدهم.
هذه الإجراءات السريعة وغير الدستورية تأمل أن تحرك الشعب التونسي لتعطي تفويض شعبي وليس دستوري (وهو مصطلح شعبوي) كما في مصر للرجوع إلى حكم الفرد، وإنها المظاهر والمؤسسات الديموقراطية ومنها البرلمان، وإطلاق يد الرئيس لإدارة دفة الدولة إلى أجل غير مسمى.
قيس سعيد ليس في عجلة من أمره فلقد استطاع إقالة أكثر من ثلاثين مسئول في الدولة، وتعيين عدد كبير من الوزراء ورؤساء الهيئات، وسيستمر في هذا النسق إلى تعيين كل الوزراء ثم يضع عليهم الوزير الأول وبذلك تكون له وزارة الرئيس وليس وزارة الدولة، ينتج عن ذلك تخوين الكثير من القوى الوطنية، عندها يصبح البرلمان في حكم المعطل، هذه الحكومة ستستمر ربما لمدة طويلة بسبب الدخول في نقاش للتحول إلى النظام الرئاسي وعدم وجود برلمان يقوم بهذا العمل وعدم وجود ألية لتغيير الدستور. وبعد ربما سنتين سيكون هناك قانون انتخابي جديد للبرلمان وللرئيس يحد من عمل البرلمان ويجعل للرئيس سلطات واسعة، وهو استنساخ للتجربة المصرية.
المؤسسة التي قد تحدث فارقا هي الاتحاد العام للشغل، هذه المؤسسة العمالية العتيدة التي نادت بوجود خارطة طريق في بيانها من أول وهلة هي الضامن لمكتسبات ثورة الياسمين إن لم يتم اختراقها أو تدجينها.
هذه المؤسسة لن يفرحها كثيرا الإجراءات العقابية ضد رجال الأعمال البالغ عددهم أكثر من 450 صاحب شركة مقاولات ومتعاقدين وأصحاب مصانع تم تسجيل تهم ضدهم، هؤلاء إن استمرت الإجراءات سنرى هروب أموالهم للخارج للاستثمار خارج تونس مثل المغرب وبعض الدول الأفريقية، وقد ينتج عن ذلك ازدياد البطالة. بالمقابل تدهور السياحة بسبب كرونا وغلق الحدود مع ليبيا والجزائر وانخفاض عدد الرحلات مع أوروبا يؤثر كثيرا على الميزان التجاري للدولة وصعوبة تسديد الدين العام.
المساعدات الخليجية قد تساعد على حل المختنقات الأنية مثل توفير اللقاحات أو المعونات لبعض المؤسسات ولكنها لا تحرك الاقتصاد، فهروب الأموال للخارج (كما حدث من ضبط قاضي يحمل 3 مليون يورو للخروج بها خارج تونس) هناك الآلاف من الذين يخططون لذلك فرأس المال يحتاج إلى استقرار وليس قرارات فوقية، مع هروب الأموال وتقليص الاستثمارات سينخفض سعر الدينار التونسي وسيزداد التضخم، ويستأنف الشباب التونسي رحلته عبر المتوسط مستعملا قوارب الموت.
انهيار العملية الديموقراطية في تونس هو أخر مسمار يدق في نعش حركة التغيير وإعلان فوز دول الاستبداد في مساعيهم لوأد الحراك الشعبي والانعتاق من براثن حكم العسكر أو حكم الفرد، فيكون انتكاسه على ليبيا سيئا بتنشيط المنظومة القديمة، وفي مصر فقدان الأمل في أي تغيير وفي الجزائر تثبيط أخر يسجع على سيادة الجنرالات، أما سوريا واليمن فهم في أسواء حال وعودتهم إلى الاستبداد مؤكدا.
ما يعول عليه لإنقاد تونس هو الحراك المدني، تونس بالتأكيد ليست مصر ولا العراق، تونس تجذرت فيها المؤسسات العمومية، من روابط ونقابات وأحزاب وعلى رأسهم الاتحاد العام للشغل. في إطار عدم الوضوح وعدم وجود خارطة طريق فإن هذه المؤسسات يمكن لها تحريك الشارع ومقاومة المخططات الخارجية وأذنابهم بالداخل من أجل أنفاذ تونس بالعودة إلى المسار الدستوري ثم التغيير والتعديل وفق الأليات المتعارف عنها في التمثيل النيابي من أجل منع تكرار الانسداد السياسي السابق.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً