نحو فض الاشتباك بين الدولة والإسلاميين

نحو فض الاشتباك بين الدولة والإسلاميين

الحياة السياسية في العالم العربي تمر بمرحلة من التشتت والالتباس الفكري والسياسي في تنظيم العلاقة بين الدولة والسلطة والجماعات العاملة في الشأن العام.

بات لزاما علينا البحث عن سبل للتعايش وفق الوثائق الدستورية المتوافق عليها، أو التي أقرت باستفتاءات شعبية، ووضع أسس للتفاهم من أجل تطويرها تدريجياً، للوصول إلى الوضع المثالي، أسوة بالدول المتقدمة في إطار لا يتعارض وديننا الحنيف.

عاصفة الحزم أثبتت أن القضايا الكبرى للأمة تجمع وأنها تتعالى بنا على الصغائر، وحتى المكلوم يتناسى جراحه فرحاً بالمواقف التي تحقق المصلحة العليا للوطن أو للأمة.

عاصفة الحزم أثبت كذلك أن الدول التي كانت مستقرة استطاعت بناء قوتها ووجدت جبهتها الداخلية متماسكة، وكانت جاهزة للعطاء، بينما الدول التي أنهكتها الصراعات والخلافات وجدت نفسها مشتتة، وجبهتها الداخلية مخترقة، ولم تكن قادرة حتى على المشاركة المتواضعة في الجهود التي تُعلي مكانة الأمة.

أنظمة الحكم والوصول للسلطة:

السبب الرئيسي وراء استقرار الأنظمة الملكية في عالمنا العربي هو أن انتقال السلطة يجري وفق ما هو مقرر في الوثائق الدستورية؛ أي أنه نظام وراثي، وبمعنى آخر فإن الوصول إلى كرسي المُلْك ليس عبر المنافسة؛ فالملك القادم محدد بنص هذه الوثائق.

بينما تنص الوثائق الدستورية في البلدان العربية الأخرى، التي تعتمد نظم حكم رئاسية أو برلمانية، على طرق محددة لانتقال السلطة، ولكنها في الواقع لا تنتقل إلا بالوفاة أو عبر الانقلابات أو بالثوارات. بمعنى آخر فإن طرق التغيير لا تتم عبر الوسائل المنصوص عليها في الوثائق الدستورية. إننا لا نحترم الدساتير.

انسجام الأنظمة الملكية مع نفسها، منحها هذا الاستقرار، بينما حالة الفوضى التي أعقبت سقوط الأنظمة الديكتاتورية، كانت نتيجة انسداد الأفق في التغيير وفق نصوص الوثائق الدستورية، أو نتيجة للظلم الذي مارسه الحاكم في قمع المطالبين بالتغيير، أو كلاهما.

إصلاح أنظمة الحكم:

في التاسع من شهر مارس 2011م وعقب اندلاع ثورات الربيع العربي ألقى الملك النبيه محمد السادس ملك المغرب، الذي يملك نظامه الملكي تقاليد قوية، خطاباً تحدث فيه إلى الشعب المغربي، وحدد ثوابت لا يجوز المساس بها؛ وهي الملكية والوطن والدين، وأكد في الخطاب؛ على احترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولياً، وجعل للقضاء السمو والاستقلالية والسلطة على الجميع، وفصل بين السلطات، ووسع صلاحيات الوزير الأول (رئيس الوزراء)، وتخلى عن كثير من اختصاصاته لهيئات الدولة المنبثقة عن انتخابات حرة ونزيهة. كان هذا الخطاب بمثابة الموجّهات لتعديلات دستورية لاحقة، استحدثت تغييرات مهمة في النظام السياسي المغربي.

هذه النقلة الذكية للملك محمد السادس مكنت حزب العدالة والتنمية المغربي من تشكيل ائتلاف حكومي في ظل الدستور الممنوح من الملك، واستطاع الحزب بفضل هذه التعديلات الدستورية التي قام بها الملك، والتي خَطَتْ باتجاهِ الملكية الدستورية، ممارسة صلاحيات واسعة وفكا (الملك والحزب) الاشتباك التقليدي بين الحاكم والجماعات الساسية ذات الخلفية الدينية، ولم يتعسف أيضاً حزب العدالة والتنمية في استيفاء تطبيق الصلاحيات والسلطات الممنوحة.

مثال ذلك؛ رد رئيس الحكومة عبدالإله بنكيران مشكلة اعترضته، في السياسة الخارجية، إلى ملك المغرب. هذه المشكلة كانت متعلقة بتغريدة لأحد المسؤولين الإماراتيين قال فيها: “خلال عام أو يزيد سيسقط إخوان المغرب سقوطاً مدوياً”، قاصداً بذلك حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي يقود الائتلاف الحكومي.

خاطب بنكيران شباب الحزب بقوله “رفعت تصريحات (ضاحي) خلفان (نائب رئيس الشرطة بدبي) للملك (محمد السادس)”.، وأضاف بنكيران، “لا أخفيكم أن الإمارات دولة صديقة، والعلاقات بين جلالة الملك وأمراء الإمارات تكاد تكون عائلية، والسياسة الخارجية للمغرب هي سياسة جلالة الملك، وهو يأخذ برأيي وأنا أقول له رأيي”.

هذا التناغم بحاجة إلى طرفين، يتفهم كل منها حاجة الآخر ويلين له جانبه ويقدم التنازلات في هذا السبيل، وبذلك تسير القافلة. كلما سئلت لماذا لم تكونوا مثل الغنوشي؟ يكون ردي؛ لم نجد فيكم قايد السبسي!.

يستلزم التفاهم إذن وجود طرفين على الأقل. ما كان للغنوشي أن ينجح في العبور بتونس إلى بر الأمان، لو لم يكن هناك في المقابل طرف سياسي متواجد داخل تونس، ويرغب في استقرارها. الرئيس قايد السبسي كان ذلك الطرف الذي شارك الغنوشي نفس الحرص ووصلا معاً بتونس إلى المكانة التي أشاد بها الغرب والشرق.

السبيل إلى فك الاشتباك:

هذه جملة من النقاط أطرحها علها تساهم في فض وإنهاء هذا الإشباك التي أتى على الأخضر واليابس، وأدخلنا في دوامة من التخلف، سيتعاني منها الأجيال القادمة ومازالنا نورّثها جيلاً بعد جيل:

أولاً: إنهاء الولاء الحزبي المفرط أو الإنتماء النخبوي المحدود والانفتاح على المجتمع، والالتزام بما هو متاح في الوثائق الدستورية، والرضا بالسقف المحدد فيها، والمطالبة بتطويرها وإصلاحها، من خلال ما تسمح به هذه الوثائق، ولا يكون تعديلها إلا من خلال الآليات المحددة فيها.

ثانياً: التمييز الواضح بين العمل الدعوي والعمل السياسي، على أن تكون المطالبة بتطبيق الشريعة من خلال تقديم المبادرات للمشاريع التنموية وصناعة السياسات العامة وصياغة مشاريع القوانين التي تضع الأحكام الشرعية موضع التنفيذ من خلال إقراراها والعمل بها، وكذلك إصلاح أجهزة الدولة ومؤسساتها وقوانييها تدريجياً.

إذاً…المطالبة بتطبيق الشريعة تكون من خلال صناعة السياسات العامة التي تتوافق مع شريعتنا الغراء، بدلاً من التغزل بها قولاً دون أن تكون واقعاً ومنهج حياة.

كما أن العمل الدعوي المؤسسي يجب أن يؤدي دوره من خلال مؤسسات المجتمع المدني والمنابر التي تعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وحثهم على اتخاذ القيم التي ينادي بها الإسلام منهج حياة، وتبتعد عن العمل السياسي بالمعنى الذي يجعل منهاجها الوصول إلى السلطة، عبر آليات ليست هي المحددة في وثائق الدولة.

ثالثاً: الجزم بأن الوصول إلى السلطة لا يكون إلا عبر الآليات المحددة في الوثائق الدستورية. وإذا كانت هذه الوثائق قاصرة فينبغي المطالبة بتطويرها بالقدر المسموح به، والعمل على هذا التطوير بالآليات القانونية.

رابعاً: عدم السماح بدخول العمل الحزبي، لمن له التزام لغيره، أو من له بيعة لتنظيم يسعى إلى السلطة بغير آلياتها. ولا بد هنا من التأكيد على ضرورة أن تنسجم أوضاع هذه الأحزاب مع مواثيقها ونظمها الأساسية مع القوانين والدساتير، من أجل فك الاشتباك بينها وبين منظومة الدولة.

من يقرأ كلامي يتساءل عن موقفي من زواج حزب العدالة والبناء الليبي وجماعة الإخوان المسلمين؟ ومن يعرفني يعرف أنني من المطالبين بنظام “البطاقة الواحدة” أي أنه من يوجد هنا لا ينبغي أن يتواجد هناك، خاصة على المستوى القيادي، لما يسببه من خلط في أذهان العامة، ومن ازدواجية في القرار.

دولة القانون والمؤسسات:

لا يعني هذا أن في النماذج التي أشرت إليها، أو في تجارب التيار الوسطي من يتمسك بالعمل السري إلى اليوم، أو من يحاول الوصول إلى السلطة خارج الأطر الدستورية، أو من يضع مؤسساته الدعوية والسياسية فوق قوانين البلدان التي يعيش فيها.

إنه ليس أكثر من تنبيه إلى ضرورة الوعي بهذا النهج، واعتباره إحدى مسلمات العمل السياسي والمدني في أدبيات التيار الإسلامي الوسطي.

وهو رسالة إلى بقية أطياف التيار الإسلامي التي ما زالت تصر على مواجهة الدولة، وتنظر إلى تصرفاتها بريبة وشك، حتى لا تجد نفسها تكرر أخطاء سبق أن أوقع فيها غيرها، أو تمر من الطريق الصعب الذي أضنى آخرين.

لا شك أن من يقرأ هذا الكلام قد يستغرب ولكنه في الوقت ذاته يعي المقصد. لا بد أنه فكر يوماً ما، وتسأل في نفسه،عن كيفية فك هذا الاشتباك الذي أدخلنا في علاقة متوترة ومشحونة بين الحاكم والمحكوم، وفي دوامة من السجون والحرمان والنفي والقتل والتشريد والتعذيب؟.

الطريق طويل وشاق ولكنه ضامن لأن نصل إلى تنمية مجتماعاتنا وجعلها أكثر استقراراً وأمناً. هناك طرق دستورية عديدة نستطيع من خلالها أن نعمل لجعل الشريعة في نهاية المطاف مصدراً للتشريع، ومنهجاً للحياة ولكن كل ذلك من خلال الدستور وعبر مؤسسات الدولة.

“فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ”

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

التعليقات: 1

التعليقات مغلقة.

التعليقات لا تعبر عن رأي موقع عين ليبيا، إنما تعبر عن رأي أصحابها.

اترك تعليقاً