يحلو للبعض أن يرى حلاً ناجعاً سريعاً للمشكلة الليبية على أيدي خارجية، بعد أن أعلنت الحكومات والسلطات التشريعية المتعاقبة (ضمنياً) عجزها وقلة حيلتها إزاء إحلال السلم الإجتماعي وبناء الدولة الليبية الحديثة. فمجلس النواب بتحركاته المكوكية بين القاهرة وأبوظبي والرياض وحتى نواكشوط يطلب العون العسكري واللوجستي والسياسي، ولم يألوا جهداً مندوب ليبيا المقال بهيئة الأمم بمناسبة أو بغير مناسبة مناشدة المجتمع الدولي لشن حرب سافرة على حكومة طرابلس، والسماح بإستيراد الأسلحة لدعم قوات خليفة حفتر وجيش القبائل. بالمقابل يأمل المؤتمر الوطني أن يستيقظ الضمير الدولي لإدانة القصف الجوي للمدن الآمنة في غرب البلاد وشرقها وترويع أهلها وقطع الطرق عنهم والعبث بممتلاكاتهم من قوات جيش القبائل المدعوم من بعض الأنظمة العربية، وسحب الإعتراف من مجلس النواب إستناداً إلى قرار المحكمة الدستورية العليا.
في الحالتين يفترض الساسة الليبيون أن العالم مهتم بهم وبقضاياهم، بل أن هناك من يعتقد أن العالم مغرم بالشأن الليبي ولا يستطيع ان يترك الدولة تسقط في براثن الفوضى والإنقسام، كما أشار طارق متري مندوب الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا، وحقيقة الأمر غير ذلك، فدول العالم يقتصر إهتمامها على مصالحها، فإيطاليا لا يهمها من ليبيا سوى إستمرار تدفق الغاز إلى مصانعها، وتأمين تدفئة رخيصة لمواطنيها، ومنع هجرة الأفارقة إليها، أما فرنسا فجل إهتمامها في منع تدفق الأسلحة إلى شمال مالي،علماً بأن ليبيا ليست من المجال الحيوي لفرنسا، بالمثل بريطانيا وأمريكا لهما مصالح إقتصادية كبيرة ولسنوات طويلة، إلا أنهما لهما مناطق حيوية ساخنة أكثر أهمية من ليبيا.
وأخيراً الأمم المتحدة التي لم يكن لها قراراً مستقلاً منذ إنشائها بل هي تابعة للدول الكبرى، ولقد أثبت المندوب الأممي تارة بعد أخرى عدم فهمه للواقع الليبي، ورؤية الوضع من زاوية واحدة وهي تبني رأي الدول العربية الداعمة لمجلس النواب، مثل إسترضاء النواب المقاطعين أو طرح فكرة حكومة من جميع الأطراف وهذا ليس لب المشكلة. ولذا لا يعول كثيراً على الحوار القادم.
هذا التشظي الأفقي والعمودي للمجتمع الليبي برز خلال سنة 2013 ووصل إلى دروة سنامه مع بداية معركة الكرامة بقيادة الضابط المتقاعد خليفة حفتر، خلال هذه الفترة تشتت أراء النخبة المثقفة وإنكمش دورها، وإنحاز بعضها لطرف دون آخر، ولزم الصمت الكثيرين منهم، وأعني بالنخبة المثقفة تلك الصفوة المؤمنة بالحداثة والواعية لواقع ومستقبل الشعب الليبي والمتابعة للتغييرات الإقليمية والدولية.
هذه النخبة كان يمكن لها أن تكون البوصلة الموجهة للحراك الشعبي وللنخب السياسية على الساحة الليبية، عن طريق تبيان مفاهيم الحداثة، وإزالة التشويه والتزوير الذي لحق بها من النظام السابق، وتوحيد الصفوف حيالها. لم يحدث ذلك منذ البداية !! وتشتت أفكار الكثيرين منهم ونحت منحى موضوعات ثانوية هامشية أو تخصصية دقيقة في كثير من الأحيان مثل حكم الرباء في قروض المصارف أو حلق اللحى وأطالة الإزار عند المالكية، بل هناك من يفكر في وسائل توطين تقنيات النانو. هذا لم يمنع وجود مقالات ودراسات رصينة تناولت الشأن الليبي ومستقبله، وأصواتُ خافتة تدق نواقيس الخطر لمألات النزاع السياسي والجهوي، ولكن هذه الجهود المتواضعة لم تتطور لتكون مساراً وطنياً منيراً للشعب وضاغطاً على النخب السياسية كما حدث في العديد من الدول التي مرت بتجربة إسقاط الحكومات، وكان مسارها الديموقرطي جيداً مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا وأخيراً تونس.
بالمقابل دخلت النخب السياسية في صراع طويل مع بعضها البعض منذ الوهلة الأولى، وقبل أن يكون لها دستوراً ينظم نشاطها، أو مؤسسات تنظيمية تحدد مجال عملها، مثل النقابات أو الأحزاب أو الجمعيات بل أن معظمهم أفراد لا برامج لهم عدى المصالح الشخصية أو الجهوية؛ أي أن وجود أكثر من مئة عضو في المؤتمر، وأكثر من 180 عضو في مجلس النواب من المستقلين يعني أن هناك كم هائل من النيابيين ممن لا برامج لهم، وذلك أن البرامج الوطنية مثل سياسات التنمية وتطوير التعليم والصحة ومعالجة البطالة تقوم به كثل الأحزاب والنقابات في جميع دول العالم وليس من مقدور المستقلين فرادى القيام بذلك. ولقد برز من هذه الفئة لفيفٌ من متنطعي الفضائيات وهم مأسورون بإرادة مستعارة تبنيه لهم محطات البث وأجهزة الإعلام العاملة لسياسات خارجية أهمها شيطنة قيم التغيير وشيطنة القائمين به، وبعد إنقضاء مدد تواجدهم في الحكومة أو المؤتمر يتهافتون على مناصب السفراء بالخارج، وأكاد أجزم أن المؤتمر لو بإمكانه تعيين أعضاء مجلس النواب (الراغبين) كسفراء بالخارج، لأصبح المجلس والكرامة وحكومة الإنقاذ في حكم العدم.
وهكذا فإن غياب وتقصير النخب الثقافية عن أداء دورها، وعدم وجود مؤسسات منظمه للعمل السياسي، وتفاقم تدجيل رجالات السياسة وإنفرادهم بالمشهد الليبي، جرَ البرلمان إلى طبرق من مجموعة لا تتجاوز أصابع اليدين، وما تلا ذلك من إصدار قرارات غير مسئولة، مثل إستدعاء الأجنبي للتدخل في الشأن الليبي، ووصف الثوار بالإرهابيين وجر البلاد إلى حرب ضروس مزقت النسيج الإجماعي بكامله، وهي خدمة جليلة للنظامين المصري والإماراتي.
وبسبب هذه الأوضاع المؤسفة توارت القلة القليلة من المثقفين عن وسائل الإعلام ونأى كل بنفسه عن التجاذبات السياسية، والتزييف واللغط المبرمج من الكثير من الفضائيات العربية الرافضة للتغيير، والمواقع الإليكترونية التابعة لها.
رغم ذلك فإن الصراع القائم بكل تعقيداته الجهوية، والقبلية والفئوية المصلحية، يحمل بين طياته صراعاً فكرياً بين إرادة التغيير وإرادة الحنين إلى الماضي القريب لأسباب كثيرة يضيق المكان عن ذكرها، وهذا لن يتم حله بتدخل أجنبي أو بتزويد طرف بأسلحة نوعية، أو بغلبة طرف عن آخر، بل بإيضاح المفاهيم وتوعية الجماهير والوقوف أمام الدجل السياسي، وتبني الحوار للمجموعات المؤدلجة، وبناء مؤسسات مجتمع مدني قوية، وهذا من صميم عمل النخبة المثقفة الواعية بطموحات الأمة؛ فمثلاً لم ينال موضوع المواطنة والمواطنة الفعالة، ومسألة الحرية والمسئولية حقهما من التوعية، ولم تعالج تشويهات وتزوير النظام السابق لمفاهيم النظام الحزبي، ولا للإنتخابات والفصل بين السلطات ودعائم الديموقراطية، ولم يتم إيضاح مساوي القبلية والجهوية بل هناك من لا يزال ينادي بمجلس أعلى للقبائل، ولم يتم تشريح الديكتاتورية جيداً، فهناك من لا يزال يطالب بالمجلس العسكري الأعلى، كما عجز المثقفون عن توضيح متالب الأشتراكية ” لا جوع ولا غنى، لا عمل ولا إنتاج مع حد أدنى من الخدمات” كما لم ترسخ قوانين الإدارة، فالتصعيد نافذاً في الكثير من الشركات ومؤسسات الدولة، حيث يقوم الموظفون بإختيار رئيسهم وفرضه على السلطات العليا.
وإصلاح المفاهيم يمكن توجيهها إلى قطاعات كبيرة من الشعب الليبي لتحدث تغييراً إجتماعياً عميقاً يضاهي التغيير القائم في نظام الدولة وهو ما يفضي إلى تحول الإتتفاضة على الحكم إلى ثورة تمس جميع مناحي الحياة، ويمكن للمثقفين مرحلياً الإهتمام وتوجيه الخطاب المجتمعي إلى فئات معينة من أجل حصد النتائج سريعاً، مثل فئة الشباب، وصغار الموظفين، وقطاع المرأة، والمهمشين، وهؤلاء يمثلون الغالبية العظمى من الشعب القابلة للتغيير. فالنخبة المثقفة كانت ولازالت منارةً يهتدي بها المجتمع على مر الأزمان وفي جميع الأوطان.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً