لا شك أن الحظ في تونس هذه الأيام كان حليف شخص اسمه محمد الباجي بن حسونة قائد السبسي؛ السياسي المخضرم، الذي يجد نفسه دوماً في مواقع متقدّمة، كلّما دفعته الأحداث بعيداً عن عالم السياسة وصخبها.
لم تمنعه سنّه المتقدّمة (89 عاماً) من خوض سباق الرئاسة والفوز، أو أن يكون أقل ديناميكية وحركة. يتمتع بقدرات عالية على حماية توازنه الصحي، والمحافظة على ذاكرته وذكائه السياسي؛ سأله الرئيس الأميركي باراك أوباما، مرّة عن سر قوته. صحيح أنّ السنوات الطويلة بدأت تفعل فعلها به، غير أنّه لا يزال يحافظ على جماله وذوقه وحضوره الذهني وطلاقة لسانه واتساع ثقافته وطول خبرته، مما أكسبه كل هذا الحضور الشعبي.
أنصاره وعموم المواطنين يدللونه فيلقبونه بـ “البجبوج”، تيّمناً باسمه “الباجي”. وُلد من سيقطن قصر قرطاج في أسرة قريبة من البايات الحسينيين الذين حكموا تونس لفترة طويلة. تخرّج من كلية الحقوق في باريس عام 1950، ليجد نفسه قريباً من الزعيم الحبيب بورقيبة الذي احتضنه سياسياً، وجعل منه أحد المسؤولين الفاعلين رغم صغر سنه، إذ تولى عددا من الحقائب الوزارية منذ عام 1963. وهي حقائب مكّنته من تعميق تجربته في الحكم، ولكنّها في المقابل جعلته شريكاً في تحمل مسؤولية بعض المراحل الصعبة التي مرّت بها تونس. ولهذا حرص منافسوه وخصومه على تذكيره باستمرار ببعض هذه المحطات، إذ سبق له أن تولى مهمة سكرتير دولة للأمن الوطني بعد اكتشاف المحاولة الانقلابية التي قام بها أنصار الخصم اللدود لبورقيبة، صالح بن يوسف. جزء من هؤلاء الأنصار يصرّون إلى حد الآن على أن الباجي شريك في مسؤولية تعذيبهم والتنكيل بهم في السجون. وهو ما يسعى السبسي في المقابل إلى نفيه، والتبرؤ من سيئات تلك المرحلة. كما تحمل فيما بعد حقيبة وزارة الداخلية، وبعدها وزارة الدفاع.
لكن في مقابل ذلك، لم يكن الرجل إمعة داخل الحزب “الدستوري”، وكان له رأي قد يكون مزعجاً أحياناً. يتمتع بشخصية قوية وينزع نحو تنفيذ قراراته والإفصاح عن قناعاته. خصال دفعته نحو اتخاذ مواقف صارمة وضعته في موقع صدامي مع قيادة الحزب، وقد كان من بين الوزراء الذين قدّموا استقالاتهم تضامناً مع الوزير الإصلاحي أحمد المستيري، وذلك على إثر انقلاب بورقيبة على قرارات مؤتمر الحزب في مدينة المنستير عام 1971، والذي شهد جدلاً واسعاً، وتمكّن فيه التيار الليبرالي من الدفع نحو ضرورة إصلاح الحزب الحاكم، قبل أن ينجح المتشددون في مواجهة ذلك.
وهكذا، وجد السبسي نفسه خارج دوائر الحكم. لكن إذا كان أصدقاؤه قد استمروا في طريق الاستقلالية السياسية والتنظيمية سواء من خلال تأسيس صحيفة “الرأي” التي غيرت وجه الصحافة التونسية، أو من خلال تأسيس حركة “الديمقراطيين الاشتراكيين” التي دعمت فكرة التعددية الحزبية، فإن الباجي قايد السبسي انتظر فرصة العودة إلى الحزب “الدستوري” وفاء منه لبورقيبة.
في مرحلة حكم زين العابدين بن علي، لم يصدر عن السبسي ما يشير إلى اعتراضه على إبعاد بورقيبة عن السلطة. ولم يواجه هذا العسكري الطموح والمتعطش للانفراد بالحكم. وقبل بأن يكون رئيساً لمجلس النواب الذي فبركته أجهزة الحاكم الجديد. غير أنّه عاد وابتعد عن أجواء السياسة، ومال إلى العزلة سنوات طويلة، ولم يظهر إلا خلال حفلات الاستقبال. وعندما توفي بورقيبة، لم يحضر جنازته رغم تعلقه بشخصه. يقول مراقبون إنّ سبب انعزال السبسي يعود إلى أنّه لم يكن يحترم بن علي في قرارة نفسه، رغم أنّه لم يواجهه.
لم يكن متوقعاً أنّ الشاب المسحوق محمد البوعزيزي الذي أشعل ثورة تونس بجسده سيفتح باب العرش من جديد أمام الباجي قايد السبسي؛ فعندما عجز محمد الغنوشي عن إكمال إدارته للسلطة بعد خلع بن علي، واضطره اعتصام شباب القصبة الأول والثاني على الاستقالة، التفت الرئيس المؤقت فؤاد المبزع إلى صديقه القديم السبسي وعرض عليه رئاسة الحكومة. ورغم أن راشد الغنوشي وصف ذلك التعيين بإخراج نسخة من الأرشيف، غير أنّ السبسي نجح في لفت أنظار العالم، ووفر فرصة لتنظيم انتخابات نزيهة وديمقراطية انتهت بقيام المجلس الوطني التأسيسي. كما سلم الحكومة لأحزاب الترويكا بطريقة سلمية وحضارية.
وعندها أيضاً قرر الانكفاء، والعودة إلى بيته. أكّد على أنه ليست لديه الرغبة في مواصلة الطموح السياسي. ويبدو أن ترتيباً كان متوقعاً بينه وبين حركة “النهضة”، لكنها قد تكون تراجعت عنه في اللحظات الأخيرة. وإذا بالرجل يصبح مطلوباً من جديد من قبل أوساط سياسية مختلفة، جعلت منه المظلة والقيادة القادرة على بناء قيام حزب يعيد التوازن السياسي للبلاد بعد صعود حركة “النهضة”. وعندما اتضح الهدف وتوفرت الرغبة، انطلق الرجل في عملية تحدٍ أفرزت حزب “نداء تونس”، الذي نجح في أن يصبح حزباً كبيراً في وقت وجيز، وأن ينجح في أن يقنص المرتبة الأولى من حركة “النهضة” بمجلس نواب الشعب.
ولما بدت المؤشرات تتجه نحو السبسي ليكون أول رئيس منتخب في تاريخ تونس، بدت عليه علامات السعادة وهو يحقق حلماً من أحلامه في أن يدخل قصر قرطاج رئيساً هذه المرّة وليس وزيراً؛ ليرث العجوز أحلام ثورة قام بها الشباب. لكنه لن يستطيع أن يلغي من حساباته أن الزمن تغير، وأن في البلاد ثورة قامت وحددت أهدافاً، وأنّ نصف الناخبين تقريباً لم يصوتوا لصالحه، إضافة إلى الملايين الذين لم يصوتوا، وأن هناك مخاوف من عودة المنظومة القديمة. قال السبسي بعد إغلاق مكاتب الاقتراع وتواتر مؤشرات فوزه إن “المستقبل يفرض عليه التعاون مع المنصف المرزوقي” في رسالة إلى الذين صوتوا لهذا الأخير. ولعل قراره السابق بأنه لا ينوي تغيير محل إقامته، مؤشراً على وعيه بعدم إعادة تجربة بورقيبة الذي أصرّ في لحظة غرور على البقاء رئيساً مدى الحياة. تبقى الأيام المقبلة هي الحكم.
اترك تعليقاً