بعد انتهاء أي حرب، وخروج أحد الطرفين منتصرا فيها على عدوه، يرجع المنتصر إلى قواعده ويحتفل بانتصاراته.
وما إن تنتهي هذه الاحتفالات والتبريكات الشعبية، حتى تبرز أمامه أسئلة جوهرية ومهمة، منها على سبيل المثال لا الحصر، لماذا حارب عدوه؟ وماذا بعد هذه الانتصارات؟ ومن الذي يحق له المشاركة في مرحلة السلام القادمة؟ وهنا تبرز حقيقة المنتصر، وأطماعه الحقيقية، ومصالحه الأنانية من هذه الحرب.
بمعنى أن المنتصر يجد نفسه وحيدا أمام “مرآة ذاته”، لينظر إليها من أجل الانطلاق للأمام.
وهذه اللحظة التاريخية الفارقة التي يعيشها المنتصر (أي منتصر) هي ما يمكن أن نطلق عليه “عقد المنتصر”.
وهي حالة نفسية، ومرض اجتماعي يمكن اعتباره أسوأ من كل الأمراض الاجتماعية الأخرى.
وهي ظاهرة سياسية خطيرة، تقود، في أغلب الأحيان، إلى فشل جُل سياسات المنتصر، وتجعله غير قادر على معالجة الواقع الجديد، والتخلص من عقلية مرحلة الحرب التي عاشها وخاضها ضد أعدائه.
وكل ذلك يقوده إلى المزيد من الفشل في التعامل بنجاح مع التحديات والأوضاع الجديدة التي يعيشها.
وتتحول القوى المشاركة في تحقيق النصر إلى خصوم وفرقاء، ويصبحون بذلك أعداء أنفسهم.
وتنقلب كل الانتصارات التي حققوها على عدوهم المشترك، إلى عداوات وحروب داخليه، يقضي فيها القوي على الضعيف منهم، وتتحقق بذلك مقولة، فيما يُعرف في أدب الثورات، بـ”الثورة تأكل أبناءها” ولن يستطيعوا أن يفهموا أن مرحلة السلام هي ليست مرحلة الحرب، وأن الوضع الجديد يتطلب بالضرورة التنسيق والتعاون بين الجميع، وأن عملية صنع القرارات المصيرية تتطلب مشاركة كل فرقاء الوطن، وليس مجرد المقدرة على إعطاء الأوامر، والسعي للقضاء على العدو كما كانوا يفعلون في مرحلة الحرب.
بمعنى أن المنتصرين، في أغلب الأحيان، يفشلون في تحرير أنفسهم من الاستراتيجيات التي كانوا يطبقونها خلال مرحلة الحرب، ولم يكونوا قادرين على الفكاك من سياساتهم التي استمروا عليها طيلة هذه الفترة، والأكثر سوءا أن يصبحوا أكثر غطرسة وتعجرفا.
وبمعنى آخر، على المنتصرين في الحرب أن يدركوا أنهم لن يكونوا وحدهم قادرين على إدارة شؤون الدولة وحكمها، وأن يفهموا أن ما تحققه آلة الحرب لن يكون مناسبا ولا كافيا لبناء (أو إعادة بناء) الدولة الجديدة التي يحلم بها أبناء شعبهم.
وعليهم أن يفهموا أن فرسان وأبطال مرحلة الحرب، ليس بالضرورة هم خبراء مرحلة البناء والإعمار.
وعليهم أن يدركوا أيضا أن الانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم يتطلب بالدرجة الأولى قدرات وكفاءات ومعلومات دقيقة، قد لا يملكها المنتصرون في الحرب وحدهم.
وبالإضافة لهذا كله، على المنتصرين في الحروب أن يعلموا أن بناء (أو إعادة بناء) دولتهم يحتاج بالدرجة الأولى إلى تسوية وطنية شاملة، ورؤى سياسية وأخلاقية واضحة.
وعليه فإن المنتصر، أي منتصر، إذا لم يعِ هذه الحقائق، ولم يكن له “استراتيجية خروج” من هذه الحرب قبل دخوله فيها، فحتما سيواجه ظاهرة “عقدة المنتصر”، وفي أغلب الأحوال سيتحول هذا المنتصر إلى عدو نفسه، ويكون هو السبب الأول والأساسي في هزيمته وفشله في كل مشاريعه المستقبلية، وفي النهاية يكون مصيره كالنار التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكل.
ما العمل؟ مما تقدم، وباختصار شديد، على المنتصر في الوضع الليبي الراهن، أن يدرك بان هزيمة عدوه في ميدان القتال هي مجرد نصف الحل، وربما تكون أقل من النصف، ومن جهة أخرى، هو النصف الأسهل في المعادلة السياسية. أما النصف الثاني وهو الأهم، فهو محاولة إعادة بناء مؤسسات الدولة الدستورية المنشودة، وتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، وهو في اعتقادي النصف الأصعب في تحقيق المعادلة السياسية.
ولعل من أهم ثلاث خطوات ضرورية لإكمال النصر في وضعنا الليبي هو القيام، وفي أسرع وقت، بالآتي:
أولا: لقاء جامع على القوي المنتصرة ضرورة أخد زمام المبادرة من الأمم المتحدة، ومن كل القوى الخارجية، والدعوة – وفي أسرع وقت – إلى عقد «لقاء جامع» على أساس أن يكون ليبيا- ليبيا، وفي داخل الوطن، وأن يجمع ممثلين عن كل القوى التي تؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية العادلة، وبغض النظر عن انتماءاتهم، وأفكارهم، ومناطقهم، وأن يكون الهدف الأساسي لهذا اللقاء (أ) تشكيل “حكومة أزمة مُصغرة” وعلى أن يكون أساس اختيارها – الكفاءة والمقدرة والبرامج. و (ب) القيام بتشكيل “لجنة تحكيم وطنية محايدة” يكون عملها الأساسي والوحيد [وفي مدة لا تتجاوز الشهرين] الفصل في القضايا الخلافية في مشروع الدستور.
ثانيا: وثيقة إعلان النصر ضرورة اتفاق القوى المنتصرة وأنصار الدولة الديمقراطية الحديثة في اللقاء الجامع على وثيقة الحد الأدنى. بمعني ضرورة تشكيل فريق (يتكون من 3 إلى 4 أعضاء) لإعداد “مشروع وثيقة إعلان النصر” من أجل عرضها ومناقشتها واعتمادها من كل المشاركين في اللقاء الجامع، ويجب أن تتضمن هذه الوثيقة الأسباب والمبادئ والقيم التي دفعت المنتصرين للقيام بما قاموا به، تحديد الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، والتي يمكن أن يجتمع عليها الأحرار من الليبيين؟.
ثالثا: المسار الدستوري ضرورة أن يقوم أعضاء اللقاء الجامع بتشكيل “لجنة تحكيم وطنية محايدة” يتكون أعضاؤها من شخصيات وطنية نزيهة ومستقلة، ويكون عملها الأساسي والوحيد [وفي مدة لا تتجاوز الشهرين] مُنحصر في الثلاث خطوات الآتية:
الخطوة الأولي
يتم فيها الآتي:
حصر المواد التي يعترض عليها الأعضاء المعارضون لمشروع الدستور، وبشرط أن تتم هذه العملية في مدة لا تزيد عن سبعة أيام من تاريخ اختيار هذه اللجنة.
يتم الاستماع لكل الأطراف – المؤيدين والمعارضين لهذه المواد الخلافية.
ضرورة تخصيص وقت محدد لنقاش هذه الإشكاليات – على أن يخصص ساعة لنقاش كل إشكالية، بشرط أن يوزع الوقت بالتساوي بين المؤيدين والمعارضين.
يجب أن يكون النقاش علنيا، وأن يتم إعلانه في وسائل الإعلام المختلقة لنقله محطات الراديو وعلى القنوات الفضائية. بمعنى يجب أن يكون هذا النقاش بين الأطراف مفتوحا ومنقولا على الهواء، حتى يتعرف المواطنون، في كل ربوع الوطن، على نقاط الاختلاف في هذا المشروع والحلول المطروحة للتعامل مع كل منها.
بعد الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، تقوم لجنة التحكيم بالفصل في هذه المواد الخلافية، ويشترط أن تتخذ قراراتها بالإجماع.
ضرورة اعتبار حكم لجنة التحكيم نهائيا ومُلزما لجميع الأطراف.
الخطوة الثانية
بعد الانتهاء من الخطوة الأولى، يتم الرجوع لما نص عليه دستور 1951 فيما يتعلق بالإشكاليات المُتبقية. بمعنى في حالة عدم مقدرة لجنة التحكيم الوصول إلى إجماع بين أعضائها حول بعض الإشكاليات، تقوم هذه اللجنة بالرجوع إلى ما ينص عليه دستور 1951م فيما يتعلق بهذه المواد الخلافية الباقية، واعتبار ما ورد فيه هو الحل التوافقي والنهائي لهذه الإشكاليات.
الخطوة الثالثة والأخيرة
في هذه الخطوة الثالثة والأخيرة، يتم الذهاب للشعب، للحكم وقول الكلمة الأخيرة، فيما تبقى من إشكاليات. بمعني آخر، في حالة عدم مقدرة أعضاء لجنة التحكيم للوصول إلى إجماع بين أعضائها حول بعض الإشكاليات، وأيضا عدم وجود حلول توافقية فيما نص عليه دستور 1951م، يتم الذهاب إلى الشعب بشأن ما تبقى من إشكاليات للاستفتاء عليها، بمعني آخر يجب أن يُترك الأمر للشعب لاختيار الأصلح من بين الحلول (في صورة اقتراح واقتراح بديل)، وعلى أن يتم ذلك خلال عملية الاستفتاء العام على مشروع الدستور.
الخُلاصة التي يجب أن يعيها ويتذكرها كل أهالينا، هي أن سرّ نجاح الثورات، عبر التاريخ، “ان المنتصر هو الذي يصنع الدولة، وهو الذي يجب أن يضع قواعد اللعبة السياسية”.
وأخيرا، لا تنسوا يا أحباب أن هذا مجرد مقترح اعتقد أنه الأنسب لحل ظاهرة عقدة المنتصر، فمن أتى بمقترح أحسن منه قبلناه، ومن أتى بمقترح يختلف عنه احترمناه.
أدعو الله عز وجل أن أكون قد ساهمت في إعادة بناء دولتنا الدستورية الثانية.
والله المستعان.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً