في زمن تغيب فيه مؤسسات الدولة، من جيش وشرطة وإستخبارات عامة، وفي غياب القيم الحضارية مثل حق المواطنة الذي يكفل العدل والمساواة بين أفراد المجتمع، تجد القبلية مرتعاً لها، ويقود الكثير من هذه القبائل سفهائها، وتتحول القبيلة من نظام إجتماعي يعمل على التعاون والتقارب ونبذ الفرقة، إلى نظام سياسي بذئ يمارس الإقصاء والتهميش لغيرة، والأثرة لنفسه، ويصبح الوطن غنيمة، كل يستقطع منه ما أستطاع، تارة بالمناداة بالتقسيم والفيدرالية، وأخرى بالتهريب لممتلكات الوطن خارجه، أو التحكم في الأضعف منهم، أو زعزعة الأمن والإسقرار بتوافه الأمور.
والجنوب الليبي مثالاً للقبلية المقيتة، التي كان لها حروب ومناوشات عديدة خلال الثلاثة سنوات الماضية، وفي معظمها تقوم لأتفه الأسباب، ولا تتوقف حتى تزهق الأرواح وتفقد العديد من الشباب أطرافها، وفي كل مرة، يقف الليبيون واجمين حائرين أمام التظليل الإعلامي، من أن العصابات التشادية والنيجيرية قد غزت البلاد، ووصلت إلى سبها أو الكفرة، وهما تبعدان مئات الكيلومترات عن الحدود، أو أن الأزلام قد نهضوا من سباتهم لإسترجاع السلطة والحكم المفقود، فما حقيقة الحرب الدائرة في الجنوب؟؟؟
لكي يتم معرفة الحرب الدائرة يجب معرفة التوزيع الجغرافي والتكوين الإجتماعي للمنطقة؛ ويمكن إختصار التكوين العرقي والقبلي للجنوب إلي ثلاثة مكونات عرقية لكل منها العديد من القبائل، فمثلاً التبو وهم سكان جنوب ليبيا الأصليين، يعيشون على خط الحدود بين ليبيا والسودان والتشاد والنيجر، وتتركز مجموعاتهم الحضرية في الكفرة و تراغن والقطرون ومرزق وسبها وأباري، وهم جميعاً ينقسمون إلى عشائر أهمها التيدا والدازا. التبو أناس مهمشون ليس لهم رجالات في العهد الملكي أو في عهد القذافي، وبسبب تواجدهم على الحدود فإن الكثيرين منهم يقومون بالتهريب وإمتهان التجارة عبر الحدود.
في الجانب الغربي الجنوبي من ليبيا يعيش التماشق، وهم بدو رحل ينتقلون خلف مرعاهم أو تجارتهم من غات حتى تمبكتو في مالي، ولقد إستطاع القذافي إستمالتهم بوعود كثيرة أهمها توطينهم في الجنوب الليبي ولم يتم ذلك، وقام بمنح الجنسية العربية للعديد ممن إنخرطوا في كتائبه الأمنية بقيادة العقيد على كنه، ورغم ظروفهم السيئة فهم منقسمون فيما بينهم في العديد من الأمور، وهم الأكثر قبولاً عند جميع مكونات الجنوب، والأقل مطالبة بحقوقهم الوطنية.
أما العنصر الفاعل في الجنوب فهو المكون العربي الذي يتكون من العديد من القبائل أهمها قبيلة أولاد سليمان، والقبيلة الأصغر القدادفة، وفي الشمال منهما قبيلة المقارحة. قبيلة أولاد سليمان لها تاريخ طويل في المنطقة بعد مجيئها من صعيد مصر ضمن قبائل بني سليم، حيث قام أحمد سيف النصر وأبنائه من بعده بمحاربة الدولة العثمانية في الجنوب، وبعد صولات وجولات استطاعوا تكوين إمارة دامت عدة سنوات، وفي العهد الإيطالي واصل آل سيف النصر قتالهم ضد الإيطاليين، حتى هزموا في معركة المحروقة، فبادرو إلى التوجه نحو تشاد مع قبيلة القدادفة، وبعد الحرب العالمية الثانية عاد أل سيف النصر مع حكم الفرنسيين لفزان، وقاموا برأسه الجنوب طوال العهد الملكي، فمنهم الوزراء والوكلاء والنواب. كان القذافي على خلاف مع هذه العائلة فقام بإقصائها بعد الإنقلاب مباشرة، ولم يقطع شعرة معاوية بتعيين بعض أبناء أولاد سليمان في مناصب الدولة، وخاصة في السلك العسكري منه. بالمقابل كان القدادفة الذي ينتمي إليهم معمر القذافي على هرم السلطة في ليبيا طيلة أربعة عقود، يعيشون في رغد العيش، الذي لم يحلم به جلهم.
والجدير بالذكر أن التناغم كان سائداً بين القبائل قبل ظهور الدولة الوطنية وإكتشاف النفط، ولا يزال بين أفراد المجتمع حتى الأن، إلا أن ضعف الدولة وتزعم الخارجين عن القانون للمشهد القبلي أوجد عصبية متخلفة لم تستطيع الدولة كبح جماحها. وللتدليل على التناغم بين القبائل، ومنها أولاد سليمان والتبو نرد هذه الواقعة: ففي كتاب ثورة عبدالجليل، يقول محمد بن عبد الجليل بن سيف النصر “لما كنت إبن ثلاثة عشر سنة أتى عمي من أرض تبو ورفعنا معه إلى أرض تبو وجعلنا مثل أبنه لأنه ليس عنده في ذلك الوقت أولاد وجعلنا في الجامع نقرأ في القرآن، فلما حفظنا القرآن جعل لنا عرس عظيم وذبح في ذلك العرس مائة شاة من غنم السودان وأتى جميع أهل التبو وحمدوا لعمنا على أجل حفظنا كتاب الله القرآن” وهذا يدل على التآلف والمحبة بين أفراد قبيلة أولاد سليمان والتبو في زمن لم يكن هناك تكالب على المال والسلطة.
بعد ثورة السابع عشر من فبراير، وجد التبو ضالتهم للخروج على النظام الفاسد والمساهمة في تحرير الجنوب، وحماية الحقول النفطية، أما أولاد سليمان فقد إستطاعوا بقيادة أل سيف النصر الدخول إلى المؤتمر الإنتقالي ثم المؤتمر الوطني، وهو ما أشعل الضغينة بينهم وبين القذادفة. إلا أن المناوشات والحروب بين الأطراف المختلفة لم تتوقف إلا لتبدأ من جديد.
من هذا الطرح نجد أن هناك عدة حقائق يجب التعامل معها بحكمة، ومنها:
• أن منطقة الجنوب كغيرها من مدن ليبيا يوجد بها الكثير من الخيرات مثل النفط والماء، إلا أن ضعف التعليم والفقر مقارنة بالمناطق الأخرى حال دون القدرة التنافسية لشبابها في مجالات العمل، وأدى إلى جنوح معظمهم إلى التهريب عبر الحدود، علما بأنه لسنوات عديدة يتم تهريب ما يقارب من 80% من السجائر عن طريق الحدود الجنوبية إلى الداخل، بالإضافة إلى بضائع أخرى مثل الإبل والقماش والعطور وغيرها. بالمقابل يتم تهريب الوقود بأنواعة والمواد الغذائية المدعومة من الدولة إلى الخارج، بل أن بعض المصانع مثل مصنع المكرونة بسبها يتم تهريب جل إنتاجه خارج الحدود في زمن الجماهيرية.
• تعيش عشائر التبو على الحدود ولها إمتدادات خارج الدولة، وتعاني هذه الشريحة من التهميش والإقصاء، وهذا لا يساعد على مد أواصر الأخوة بينهم وبين مكونات الشعب الليبي الأخرى، خاصة وأن الدولة لم تستطيع سابقاً ولا حاليا ضبط الحدود، وهذه الحالة ليست فريدة، فهي مشابهة لمقاطعة الألزاس بين فرنسا وألمانيا، وسكان المدن الإيطالية في الشمال الذين يتكلمون الألمانية أو الفرنسية، إلا أن الفارق بين الحالتين هو الوعي وضبط لحدود وعدم التهميش في هذه الدول، بل يتم إشعار السكان دائماً بأنهم جزء من الدولة ولا علاقة لهم بالإمتداد العرقي.
• هناك خارجون عن القانون من الزوية وأولاد سليمان لا زالت تمتلكهم سمة العلو والتكبر، ويظهر ذلك بربط التبو عادة بالتشاديين العبيد، وترويج الإشاعات حولهم، من أجل إحتكار النشاط الإقتصادي عبر الحدود المرخص له والمحظور على حد سواء.
• لقد فر العديد من قيادات ومنتسبوا الكتائب الأمنية التابعة للنظام السابق إلى الدول المجاورة ومنها النيجر ومصر وتونس، إلا أنه لا زال هناك من لم يتحمل خسارة الرهان، ويحاول أن يقوم بزعزعة الأمن في الجنوب، كما حدث عند الإعتداء على قاعدة تمنهنت الجوية وذلك بالتوافق بين الخلايا النائمة في الداخل ودعم بعض الأزلام الخارجي.
• من مراجعة مسببات الحروب بين التبو وأولاد سليمان خلال الثلاثة سنوات الماضية يمكن القول بأنها أسباب تافه، مثل تقسيم مهايا الثوار في زمن المجلس الإنتقالي أو الإشتباه في مجرم دخل حي الحجارة، ولكن هذه التوافه تخفي وراءها عداء كثيراً ما يجند له سفهاء من الجانبين ويدافع عنهم وجهاء القبائل (تبعا للمقولة أنصر أخاك ظالما أو مظلوماً) وليس كما فسرها النبي الكريم.
إن الوضع في الجنوب الليبي لن يتم إحتواءة بالطريقة الليبية التقليدية من التصالح على مأدبة الطعام، بل يجب القيام بالعديد من الجهود الرامية للتخلص من جذور المشكلة، وتتمثل الإصلاحات فيما يأتي:
1) ضبط الحدود ومنع الخارجين عن القانون من التلاعب بمقدرات الدولة، وتحسيس التبو بأنهم جزء من الشعب الليبي ولا علاقة لهم بالشعوب المجاورة.
2) تعيين حاكم عسكري محايد لمنطقة الجنوب، وإختيار مديرو أمن مهنيون لا ينحازون إلى قبائل معينة.
3) مساهمة الدولة في تطوير الأحياء الفقيرة مثل حي الحجارة، وحي الطيوري، وحي الناصرية، وغيرها من المناطق المهمشة.
4) نبذ القبلية وتعرية المنادين بها، والمروجين لها، أملاً في بناء مجتمع المواطنة.
5) الإهتمام بالتعليم والتدريب من أجل إيجاد فرص عمل مناسبة للشباب بعيداً عن العنف والتهريب.
6) توعية المواطنين بأهمية التعاون والتعاضد، وترسيخ مبادئ العدل والمساواة، وتقبل الآخر، والتنوع الثقافي، فليبيا للجميع وبالجميع.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً