ونحن على أبواب بناء جيش عصري جديد، على أنقاد جيش تهاوت أركانه وتشتت ألويته وكتائبه، هذا الجيش الذي زُج به في حرب ضروس مع مصر وتشاد وشارك في حرب لبنان وأوغندا كما تدخل في شئون العديد من الدول مثل تونس والمغرب والعديد من الدول الأفريقية. هذا الجيش الذي كان قوامه 70 ألف مجند ومئات الآلاف من الإحتياط، والذي كان يدار بميزانية سنوية تصل إلى 700 مليون دينار، ورواتب شهرية لا تتجاوز 22 مليون دينار شهريا.
ذلك الجيش لم يكن نبتة شيطانية وافدة، بل أفراده ليبيون عاشوا على هذه الأرض وأصابهم العوز والفاقة كغيرهم من الليبيين، بل أن معظم أفراد الجيش يتقاضون رواتب هزيلة، ويشتغلون في ظروف صعبة، ويستثنى من ذلك القلة المقربة للقيادة والفرق المعروفة إصطلاحاً بكتائب القذافي.
ونحن على أعتاب بناء جيش جديد قد يتسأل المرء، كيف إستطاع القذافي ومن وراءه في سدة الحكم أن يحرك جموع القوات المسلحة إلى أتون الحروب الفاشلة في تشاد ومصر؟ والإنكى والأدهى من ذلك كيف أن ألوية كثيرة وكتائب متعددة وآلاف من جنود الإحتياط كانوا على رغبة وقناعة وتصميم تام على دحر الشباب الثائر ومن انضم إليهم من العسكريين على مختلف الجبهات، والتخلص من (الجرذان) كما يسمونهم عند إندلاع ثورة السابع عشر من فبراير المجيدة، فمن أين جاءت القناعة والتصميم؟
وعلى الرغم من أن العديد من الندوات والمؤتمرات قد عقدت في طرابلس ومصراته والزاوية من أجل بحث وسائل تفعيل الجيش، إلا أن السؤال السابق لم يلقي الكثير من الإهتمام، وكان جل الورقات يتعلق بالجانب الفني مثل التسليح وأمن الحدود وتقنيات المراقبة، والقليل منها يتناول الجانب التعبوي والتدريب المعنوي. ويعزى الإبتعاد عن مناقشة هكذا أسئلة إلى عدة أسباب أهمها إلتباس المفاهيم في ذهن الكثير من القيادات العسكرية.
إن قوة الجيش الليبي السابق يعتمد على ركيزتين أساسيتين أولاهما القيادة والسيطرة، ويتعلمها الضابط خلال دراسته بالكلية بحيث يقود ويتحكم ويأمر الأقدم والأكبر رتبة الأدنى منه، ويطيع الأدنى بلا تبرم، وتوجد هناك الكثير من التدريبات العملية والمواد النظرية التي ترسخ مبادئ القيادة والسيطرة، والأساس الثاني المهم التوجيه التعبوي والمعنوي، ولقد قامت منظومة التوجيه المعنوي السابق بدور كبير في تظليل القوات المسلحة، أهمها خلط ومزج السلطة في الدولة، أو بتعبير لويس السابع عشر “أنا الدولة”، أي إستطاعت المنظومة السابقة أن توهم الكثير من الليبيين أن سقوط النظام الجماهيري يعني سقوط الدولة الليبية، ووقوعها تحث براثن الإستعمار الخارجي.
هذا الطرح الذي يوضح أساسيات العقيدة العسكرية للجيش الليبي السابق، كان وراءه برامج تعليمية ومحاضرات ثقافية ومناهج دراسية، أهمها الأوامر الثابتة التي لا يخلوا من ملصقاتها معسكر، والتي تتحدث بصراحة أن أي محاولة للإعتداء على (القيادة التاريخية) هو إعتداء على الدولة وسيتم سحقها بلا هوادة. هذا غير مادة التوجيه الثوري التي يزيد عدد ساعاتها عن 135 ساعة خلال فترة الدراسة بالكليات العسكرية والتي ينصب جل إهتمامها حول تكريس مفاهيم النظام البائد. وبذلك تم غسل دماغ الجنود وجنود الإحتياط والكثير من الضباط النفعيين وجعلهم منضبطين في تصرفاتهم يستميتون من أجل إطالة حكم الطاغية، وما ترتب عنه من حرب ضارية بينهم وبين القلة المؤمنة بالتغيير.
من الواضح أن البعثات التدريبية والتعليمية لأفراد الجيش الليبي تٌحتمها ظروف تشجيع المسلحين للإنخراط إلى صفوف الجيش، ومن خلالها تزداد اللياقة البدنية، ويتعلم المتدرب أساليب إستخدام الأسلحة، وبعض أساسيات المهنة مثل الإنضباطية في العمل، وهذا لن يساهم فعلياً في بناء الجيش، ففي الخمسينات والستينات من القرن الماضي رجع المبعوثون العسكريون إلى الدول العربية، بأيديولوجيات تلك الدول مثل البعثية العراقية أو الناصرية المصرية، وهو ما ساهم في نجاح إنقلاب 1996 م بلا معارضة. ولذلك أستبدلت جميع البعثات في عهد القذافي إلى الدول الشيوعية التي لا يرتجى منها تعارض مع النهج الإشتراكي الليبي في ذلك الوقت، وأستبدلت المكاسب الشخصية بديلاً للتوجهات الأيديولوجية.
من الواضح أن تكوين الجيش الجديد يحتاج إلى خطة مشابهة للبرامج السابقة ( وهو أسلوب علمي لمعظم الدول)، أي الإهتمام بالقيادة والسيطرة، والتوجيه المعنوي، ولكن بعقيدة عسكرية جديدة، تعتمد على خدمة الدولة والحفاظ عليها والدفاع عنها وتأمين حدودها دون الدخول في الشئون الداخلية والصراعات الحزبية والمناكفات الأيديولوجية، وبذلك يمكن فك الإرتباط بين الجيش والسلطة.
هذه العقيدة لا تبنى في الخارج، ولا يمكن تعلمها في دول أخرى، كما أن المدنيين ليس لهم القدرة على تبني قيمها، وليست من قبيل تعلمها في دورات تدريبية كما في التدريب على منظومات دفاعية مثلا، بل إنها تعتمد على برنامج طويل المدى يتعلمه العسكريون منذ إنخراطهم في الجيش إلى زمن تسريحهم منه، وهو ما جعل الكتائب الأمنية السابقة مستميتة للدفاع عن النظام السابق. وهناك أمثلة مناقضة كثيرة منها مشروع الضابط المعلم الذي أخرج هجين لا تنطبق عليه القوانين العسكرية ولا المدنية ولم يتم الإستفاذة منه في المجالين، ويحدث حالياً بسبب تولي بعض المدنيين لقيادة كتائب الثوار الخارجة عن سلطة الدولة.
وبذلك فإن زج المدنيين في الجيش بطريقة تغيير ملابسهم لن يزيد إلا الأمر سؤاً، وهو ما نراه ماثلاً في خروج حرس المنشأة النفطية في المنطقة الوسطى عن الشرعية دون خوف أو احترام لهيبة الدولة، وهي التي تم تكليفها بحرس هذه المنشاة من أجهزة الدولة، وكذلك قيام بعض المجموعات المنخرطة جماعياً بالكثير من الخروقات الأمنية في بنغازي ودرنة والكفرة.
وبذلك فإن الحل القصير المدى يتمثل في إستقطاب الأفراد المسلحين لدخول وحدات الجيش فرادى، وتفكيك المجموعات المسلحة الخارجة عن القانون تبعاً للقوانين الصادرة من المؤتمر الوطني في أقرب الآجال، مما سيعزز من قوة الجيش ومن هيبة الدولة. كما أن القيام بهذه الأعمال الحيوية سيعمل على كبح جماح الجريمة والخروقات الأمنية في زمن تواجه فيه الشرطة معضلات أكبر وأشد مما يواجه الجيش، خاصة وأن الرأي العام ما لبت أن طالب ويطالب بدور جرئ للجيش.
وعلى المدى الطويل تحتاج الدولة إلى تغيير مناهج الكليات العسكرية بما يتناسب والعقيدة العسكرية الجديدة، والقيام بدورات مكثفة للضباط وضباط الصف والجنود لتوضيح المفاهيم الجديدة، حول دور الجيش في السلم والحرب، وعلاقة وحدات الجيش بالسلطة والدولة، وبذلك فإن الكليات العسكرية سيكون لها دور فاعل في تخريج ضباط لهم دور بارز في تكوين جيش قوي، قليل العدد ولكنه مجهز جيداً بتقنيات العصر.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً