لقد ذَكرتُ في مقالي السابق الذي تحدثت فيه عن خطورة استعمال لفظة “القرامطة” في الصراع الدائر بين الليبيين، بأنني سأتناول في مقالٍ آخر لفظة “الخوارج” وخطورة الافتراء على شريحة كبيرة من الشعب الليبي، باتهامهم بأنهم يَحلمون سمات الخوارج ووصفهم بصفات التكفير والتطرف والغلو وإلى ما هنالك.
وعلى الرغم مما أثاره المقال السابق عن “لفظة القرامطة” من جدال واسع بين الليبيين، أردت أن أؤكد احترامي وتقديري لكل الآراء والأفكار والاقتراحات سواء كانت معي أو ضدي، وأما أسلوب النقد وطريقته، فإن كل إناء بما فيه ينضح، والرأي عندي أن هذا القتال بين مسلمين، وبموجب هذا الرأي سيكون لي مقال قريب عن كيفية الخروج من هذا الصراع بإذن الله. وأما من افترى وكذب واختلق الأكاذيب والاتهامات الباطلة ووقع في الإفك المبين، غفر الله لي وله وهدانا جميعاً إلى سُبل السلام والمصالحة وحقن الدماء وبناء البلاد.
إن إطلاق لفظ الخوارج على مسلمي ليبيا من قِبل معسكر الثورات المضادة وأتباعه في بلادنا أصبح أمراً منتشراً، وقد تصديت لهذا الوصف تصدياً نوعياً بإخراج كتابين في بيان حقيقية الخوارج. وحين قامت هيئة الأوقاف التابعة للحكومة المؤقتة (المدعومة من الثورات المضادة)، والتي أفتت بعدم الصلاة خلف الإباضية، وفقني الله تعالى في الرد عليهم في كتابي الأخير الذي تجاوز تسعمائة صفحة وأربعمائة مرجع علمي تحت عنوان: “الإباضية… مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج”، تحدثت بعلم وإنصاف والفضل لله عز وجل على ما أنعم وأكرم ووفق.
إنني أتمنى أن نرتقي بأخلاقنا عند اختلافنا في الشأن العام والله يعلم ما أكتب الآن إلا والقبر أمامي مستحضراً خروج روحي في أيَّة لحظة للعوالم القادمة من برزخ وحساب وقبر وبعث ونشور ووضع موازين “يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ”، فهذا مستقبلنا جميعاً، فما هذه الحياة إلا حلقة متصلة في مراحل قادمة يتم فيها اللقاء بين المتخاصمين والظالم والمظلوم والمصلح والمفسد عند العزيز العليم الجبار الكريم المذل المعز الرافع الخافض الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.
إنني أرفض هذه المصطلحات والتنابز بها بين أبناء شعبي “كالجرذان والطحالب والخوارج والقرامطة والأزلام والحوافر” مسترشداً بقول الله تعالى: “وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الحجرات: 11).
ويقول الله تعالى: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا” (سورة الإسراء:53).
كما أنني أحتفظ بحقي في التعبير عن آرائي وأفكاري، وهذا الحق وهبه الله لي عن حرية تفكير وتعبير واعتقاد. وهو الذي سيحاسبني على أقوالي وأفعالي وسكناتي سبحانه وتعالى الكبير المتعال “يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (سورة الشعراء:88-89).
إن إطلاق لفظة الخوارج على مسلمي ليبيا المنحازين لقيم الدولة المدنية وحق الشعوب في اختيار حكامها وتحديد مصيرها وبناء دولة الدستور والقانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والحريات، فقط لمجرد الخلاف السياسي، من قِبل معسكر الاستبداد والديكتاتورية في بلادنا -التابع للثورة المضادة – لهو إثم عظيم؛ فهم استحلوا به دماء الأبرياء وأعراضهم وأموالهم وممتلكاتهم وبيوتهم وتم تهجيرهم وعملوا من الكبائر والذنوب العظام والتي سيُسألون عنها عند الله وسيحاسبون عليها. قال تعالى: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ” (الأنبياء 47).
بل إن الله عز وجل سيقتص وينتقم من زعماء الإجرام وقادة الظلم المحليين والإقليميين والدوليين ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله: “فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” (فاطر من الآية:43).
إنني أحذر أبناء شعبي ممن وقعوا في هذه الذنوب والمعاصي من غضب الله وسخطه يوم يقع المحظور، ويوم يقع المحظور لن ينفعكم شيخ قبلي ظالم ولا مفتي جاهل لدينه ولا قائد إجرامي عميل للثورات المضادة ولا إعلامي أفَّاك ولا ناطق للزور والبهتان في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
يا قوم اتقوا الله في أنفسكم
ووطنكم
وأبناء شعبكم
وقد رأيت أن أكتب في هذا المقال الثاني عن نشأن الخوارج وتاريخهم وعقائدهم محذراً ومنبهاً من خطورة التمادي في الباطل واستحلال دماء الخصوم السياسيين بالإثم والعدوان رغبة في المال أو الجاه أو المنصب أو طاعة عمياء لزعماء الاستبداد أو الديكتاتورية الذين سيغيب حضورهم الدامي عن قريب بإذن الله تعالى.
فالمستقبل للشعوب وليس للطغاة
والمستقبل للسلام والمصالحة الوطنية التي لا تستثني أحداً
كتبت هذه الصفحات لعلها تسهم في التذكير والتنبيه من الغفلة والتعليم لإزالة الجهل والتحذير من الأهوال القادمة بعد الموت، قال تعالى: “وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” (الكهف: 46).
أولاً: الخوارج: نشأتهم وتاريخهم
عرَّف أهل العلم الخوارج بتعريفات مختلفة؛ حيث عرف الشهرستاني الخوارج بقوله: فقد عرف الخوارج بتعريف عام اعتبر فيه الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمان كان، حيث قال في تعريفه للخوارج بأنه كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواءً كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان. وقال ابن حجر معرفاً الخوارج: بأنهم هم من أنكروا على علي التحكيم وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة. وأما الدكتور ناصر العقل، قال: هم الذين يكفرون بالمعاصي، ويخرجون على أئمة الجور.
فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم في موقعة صفين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب: الحرورية، والشراة، والمارقة، والمحكمة، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها، إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وهناك من أهل العلم من يرجع بداية نشأة الخوارج إلى زمن الرسول (ص)، ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول (ص) في قسمة ذهب، كان قد بعث به علي رضي الله عنه من اليمن في جلد مقروظ ؛ فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله (ص) من اليمن بذهبة في أديم مقرظ، لم تحصَّل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر، بين عُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن كلاثة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي (ص)، فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء»، قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة، كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال: «ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله»، قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي»، قال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله (ص): «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس. ولا أشق بطونهم»، قال: ثم نظر إليه وهو مقفٍ، فقال: «إنه يخرج من ضئضأى هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، قال: أظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».
قال ابن الجوزي عند هذا الحديث: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ: أنه قال له: اعدل، فقال: «ويلك ومن لم يعدل إذا لم أعدل» ؟!، فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وافته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله (ص)، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والرأي الراجح في بداية نشأة الخوارج، وبالرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة والغوغاء الذين خرجوا على عثمان، وبين الخوارج الذين خرجوا على علي بسبب التحكيم؛ فإن مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لا ينطبق إلا على المعارضين للتحكيم، بحكم كونهم جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، أحدثت أثراً فكرياً وعقائدياً واضحاً، بعكس ما سبقها من حالات.
ثانياً: الأحاديث الواردة في ذكر الخوارج
وردت أحاديث كثيرة عن النبي (ص) في ذم الخوارج المارقة، وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل. فمن الأحاديث التي وردت الإشارة فيها إلى ذمهم: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية؛ هل سمعت النبي (ص) يقول: «يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم ـ أو حناجرهم ـ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافة فيتمارى في الفوقة؛ هل علقت بها من الدم شيء”.
وروى البخاري من حديث يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي (ص) يقول في الخوارج شيئاً؟ قال: سمعته يقول: وأهوى بيده قبل العراق: «يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية».
ففي هذه الأحاديث ذم واضح لفرقة الخوارج، فقد وصفهم (ص) بأنهم طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد، بل يمرقون منه بحيث يدخلون فيه ثم يخرجون منه سريعاً لم يتمسكوا منه بشيء.
ومن صفاتهم الذميمة التي ذمهم بها الرسول (ص): أنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عندما يقرؤون القرآن يظنون لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم؛ وهو عليهم. فقد روى البخاري رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) حديثاً؛ فو الله لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: «سيخرج قوم في اخر الزمان؛ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
ومن الصفات القبيحة التي ذمهم بها عليه الصلاة والسلام: أنهم يمرقون من الدين ولا يوفقون للعودة إليه، وأنهم شر الخلق والخليقة، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): «إن بعدي من أمتي ـ أو سيكون بعدي من أمتي ـ قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة».
وقد شرف الله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب بمقاتلتهم؛ وقتلهم؛ إذ إن ظهورهم كان في زمنه رضي الله عنه وأرضاه، على وفق ما وصفهم به رسول الله (ص) من العلامات الموجودة فيهم، فقد خرج رضي الله عنه إلى الخوارج بالجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينجُ منهم إلا دون العشرة. ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم، ولمِا أظهروه من الشر من أعمالهم وأقوالهم.
ثالثاً: عقائد الخوارج وصفاتهم:
حمل الخوارج صفات خاصة تميزهم عن باقي الفرق والجماعات الدينية في تاريخ المسلمين، وإنّ الباحث في تاريخ فرقة الخوارج يلاحظ عدة صفات اتصف بها أتباع هذه الفرقة، منها:
- الغلو في دين الإسلام:
مما لا شك فيه أنّ الخوارج أهل طاعة وعبادة، فقد كانوا حريصين كلّ الحرص على التمسك بالدين وتطبيق أحكامه، والابتعاد عن جميع ما نهى عنه الإسلام، وكذلك التحرُّز التامّ عن الوقوع في أي معصية أو خطيئة تخالف الإسلام، حتى أصبح ذلك سمة بارزة في هذه الطائفة لا يدانيهم في ذلك أحد، ولا أدلَّ على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقرؤون الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلى قراءتهم بشيء، وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ).
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-يصفهم حينما دخل عليهم لمناظرتهم: “دخلت على قوم لم أرَ قط أشد منهم اجتهاداً، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثَفِنُ الإبل، وعليهم قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ، مشمِّرين، مسهمة وجوههم من السهر”، وعن جندب الأزدي قال: “لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن”.
فقد كانوا أهل صيام وصلاة وتلاوة للقرآن، لكنهم تجاوزوا حدّ الاعتدال إلى درجة الغلوّ والتشدّد، حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة، وسيأتي مناقشة عقائدهم وأفكارهم بإذن الله تعالى.
ومنهم مَن بالغ في ذلك حتى قال بأن كلّ مَن ارتكب ذنباً من الذنوب ولو كان صغيراً، فإنه كافر مشرك مخلد في النار!! وكان من نتيجة هذا التشدّد -الذي خرج بهم عن حدود الدين وأهدافه السامية-أن كفّروا كل مَن لم ير رأيهم من المسلمين، ورموهم بالكفر أو النفاق، حتى أنّهم استباحوا دماء مخالفيهم، ومنهم مَن استباح قتل النساء والأطفال من مخالفيهم كالأزارقة مثلاً.
ولا شك أنّ الخوارج بما اتصفوا به من الجهل والتشدّد والجفاء قد شوهوا محاسن الدين الإسلامي تشويهاً غريباً، فإنّ هذا الإغراق في التأويل والاجتهاد أخرجهم عن روح الإسلام وجماله واعتداله، وهم في تعمُّقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا دعا إليه القرآن الكريم، وأما التقوى التي كانوا يظهرون بها فهي من قبيل التقوى العمياء، والصلاح الذي كانوا يتزينون به في الظاهر كان ظاهر التأويل بادي الزخرفة، وقد طمعوا في الجنة وأرادوا السعي لها عن طريق التعمق والتشدد والغلو في الدين غلوّاً أخرجهم عن الحد الصحيح.
ولذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من التعمّق والتشدّد في الدين، لأنّه مخالفة للاعتدال وسماحة الإسلام، وأخبر أنّ المتنطّع مستحقّ للهلاك والخسران، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم-أنّه قال: (هَلَكَ المتنطعين) قالها ثلاثاً.
فبهذا يتبيّن لنا شذوذ الخوارج، وكذلك مَن سار على منهجهم المبني على التعسّف والتشدّد المخالف لسماحة الإسلام ويسره، فإنّ الإسلام دين اليسر والسماحة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا).
- الجهل بدين الإسلام:
إنّ من كبرى آفات الخوارج صفة الجهل بالكتاب والسُّنة، وسوء فهمهم وقلّة تدبّرهم وتعقّلهم، وعدم إنزال النصوص منازلها الصحيحة، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما-يراهم شرار خلق الله، وقال: “إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين”، وكان “ابن عمر” إذا سُئل عن الحرورية؟ قال: “يكفّرون المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، وينكحون النساء في عِدَدِهِنّ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحداً أحقَّ بالقتال منهم”.
ومن جهلهم بشرع الله: رأوا أنّ التحكيم معصية تستوجب الكفر، فيلزم مَن وقع فيه أن يعترف على نفسه بالكفر، ثم يستقبل التوبة، وهذا ما طالبوا به عليّاً رضي الله عنه، إذ طلبوا منه أن يُقرّ على نفسه بالكفر ثم يستقبل التوبة، فتخطئة الخوارج له ولمن معه من المهاجرين والأنصار واعتقادهم أنّهم أعلم منهم وأولى منهم بالرأي هو والله عين الجهل والضلال.
ومن جهالتهم الشنيعة: أنّهم وجدوا عبد الله بن خباب -رضي الله عنه-ومعه أم ولد حُبلى، فناقشوه في أمور، ثم سألوه رأيه في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فأثنى عليهما خيراً، فنقموا عليه، وتوعّدوه بأن يقتلوه شرّ قتلة، فقتلوه وبقروا بطن المرأة، ومرّ بهم خنزير لأهل الذمة فقتله أحدهم، فتحرجوا من ذلك وبحثوا عن صاحب الخنزير وأرضوه في خنزيره! فيا للعجب! أتكون الخنازير أشدّ حرمة من المسلمين عند أحد يدعي الإسلام؟ لكنّها عبادة الجهال، التي أملاها عليهم الهوى والشيطان.
قال “ابن حجر”: إنّ الخوارج لما حكموا بكفر مَن خالفهم، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نَفِي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق منه، وكفى أنّ رأسهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى الجَوْر، نسأل الله السلامة.
وقال عنهم “ابن تيمية” رحمه الله: فهم جُهّال، فارقوا السُّنة والجماعة عن جهل، وبهذا يتبيّن أنّ الجهل كان من الصفات البارزة في تلك الطائفة التي هي إحدى الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فالجهل مرض عضال يهلك صاحبه من حيث لا يشعر، بل قد يريد الخير فيقع في ضده.
- شَقّ عصا الطاعة في الدولة والأمة:
قال ابن تيمية: فهؤلاء من ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنّهم خارجون عن العدل، وأنّهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السُّنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدّون ما يرون أنّه ظلم عندهم كفراً، ثم يرتّبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها، هذا وقد شقّوا عصا الطاعة، وسعوا في تفريق كلمة المسلمين، ويوضّح ذلك موقفهم مع أمير المؤمنين عَلِيّ، حيث تخلوا عنه وخالفوه في أحرج المواقف وعصوا أمره، وظلّت تلك الصفة من صفاتهم على مدار التاريخ، أنّ كل مَن خالفهم في أمر عادُوه ونبذوه، حتى أنّهم تفرقوا هم أنفسهم إلى عدّة فِرَق يكفّر بعضهم بعضاً، ولذلك كَثُرَ فيهم الغارات والشقاق والثورات.
- التكفير بالذنوب واستحلال دماء المسلمين وأموالهم:
قال ابن تيمية: والفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع أنّهم يكفّرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنّ دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان، وكذلك يقول جمهور الرافضة… فهذا أصل البدع التي ثبتت بنص سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-وإجماع السلف أنّها بدعة، وهو جعل العفو سيئة، وجعل السيئة كفراً.
وقد تميّز الخوارج بآراء خاصة فارقوا بها جماعة المسلمين، ورأوها من الدين الذي لا يقبل الله غيره، ومن خالفهم فيها فقد خرج من الدين في زعمهم، فأوجبوا البراءة منه، بل إنّ منهم مَن غلا في ذلك، فأوجبوا قتال من خالفهم واستحلّوا دماءهم، فمن ذلك أنّهم قتلوا عبد الله بن خباب بغير سبب غير أنّه لم يوافقهم في رأيهم، وقال ابن كثير: فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقُرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم.
وقال ابن تيمية: وكانت البدعة الأولى مثل بدعة الخوارج، إنّما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنّوا أنّه يُوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البرّ التقيّ، قالوا: فمن لم يكن برّاً تقيّاً فهو كافر وهو مخلد في النار، ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن وَالَاهُمَا ليسوا بمؤمنين، لأنّهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:
- الأولى: أنّ مَن خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر.
- الثانية: أنّ عثمانَ وعليّاً ومن وَالَاهُما كانوا كذلك.
ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المؤمنين بالذنوب والخطايا، فإنّه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفّرَ أهلُها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أحاديث صحيحة في ذمّهم والأمر بقتالهم.
- الطعن والتضليل:
من أبرز صفات الخوارج الطعن في أئمة الهدى وتضليلهم والحكم عليهم بالخروج عن العدل والصواب، وقد تجلَّت هذه الصفة في موقف “ذي الخويصرة” مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث قال “ذو الخويصرة”: يا رسول الله اعدل!! فقد عَدَّ “ذو الخويصرة” نفسه أَوْرَعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بالجَوْر والخروج عن العدل في القسمة!
وهذه الصفة قد لازمتهم عَبْر التاريخ، وقد كان لها أسوأ الأثر لما ترتب عليها من أحكام وأعمال.
- سوء الظنّ في عقيدة الخوارج
هذه صفة أخرى للخوارج تجلّت في حكم “ذي الخويصرة” الجَهُول على رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- بعدم الإخلاص، حيث قال: والله إنّ هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فذو الخويصرة الجَهُول لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطى السادة الأغنياء، ولم يعطِ الفقراء، لم يحمل هذا التصرف على المحمل الحسن، وهذا شيء عجيب خصوصاً وأنّ دواعيه كثيرة، فلو لم يكن إلا أنّ صاحب هذا التصرف هو رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- لكفى به داعياً إلى حسن الظن، ولكنّ “ذا الخويصرة” أبى ذلك، وأساء الظن لمرضه النفسي، وحاول أن يستر هذه العلّة بستار العدل، وبذلك ضحك منه إبليس، واحتال عليه، فأوقعه في مصايده.
- الشدة على المسلمين:
عُرف الخوارج بالغلظة والجفوة، وقد كانوا شديدي القسوة والعنف على المسلمين، وقد بلغت شدّتهم حدّاً فظيعاً، فاستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، فروَّعوهم وقتلوهم، أمّا أعداء الإسلام من أهل الأوثان وغيرهم فقد تركوهم ووَادَعُوهم فلم يُؤذُوهم.
لقد سجّل التاريخ صحائف سوداء للخوارج في هذا السبيل، وما قصة “عبد الله بن خبّاب” ومقتله عنا ببعيد، فمعاملة الخوارج للمسلمين مصحوبة بالقسوة والشدّة والعنف، وأما للكافرين فلين وموادعة ولطف، فقد وصف الشارع الشريعة بأنّها سهلة سمحة، وإنّما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، قال تعالى: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ” (الفتح: 29)، فالخوارج عكسوا الآيات، فأرهبوا المسلمين وروَّعوهم.
هذه بعض الصفات التي اشتهر بها الخوارج، وقد تميّزوا بنزعات خاصّة بين طوائف من أبناء المسلمين، وبأشكال ومظاهر مختلفة، من جماعات وأفراد ودعوات وحركات واتجاهات وشعارات ومناهج وأساليب ومواقف وتصرفات، ونزعات فردية وجماعية، ونحو ذلك من أمور تنذر بخطر، فكانت بدايات ظهور البذور العقدية والسلوكية التشويهية الخاطئة في تاريخ الأمة، كالتشدّد في الدين على النفس، والتعسير على الآخرين، والغرور، وضعف الحكمة، والاستبداد بالرأي، وتجهيل الآخرين، والطعن في العلماء، وسوء الظن فيهم، والحدّية في التعامل مع الآخرين، وصعوبة مَدّ جسور التفاهم معهم، وقابلية الانشطار والتفرّق، وسهولة الجَوْر على الآخرين والتكفير، وغير ذلك من مظاهر التطرّف التي أنهكت الأمّة في عصرها الأول وحتى يوم الناس هذا.
مراجع المقال:
- ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، 4/89.
- أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين،1/204.
- أبي الفتح الشهرستاني، الملل والنحل.
- حسن الدغيم، الغلو السياسي، دار الروضة، 2018.
- علي محمد الصلابي: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، ص. ص 16، 54.
- علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم.
- محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
دكتور على شكرا على إثارة هذا الموضوع والذي يحتاج إلى فصول وليس مقال عابر، في رأيي الخاص أن تناول الخوارج من الناحية التاريخية لا يفيد وقد كتب فيها الكثير بسبب أن الخوارج ليسوا فئة واحدة على تشدد واحد، فهم قرابة إثنى عشرة ألف من الدعاة والقراء والتابعين والعامة، ومنهم قاتل علي بن ابي طالب، عبدالرحمن بن ملجم من القراء والعافين للفقه، وهو من شهد فتح مصر وزكاه عمر بن الخطاب، وحضر معركة صفين مع على. ومن المقال وغيره نستطيع أن نقول أن صفاة الخوارج (بالتعميم كما ورد) أنهم اقرب إلى السلفية الجهادية الحالية؛ ففيها التشدد في الفروع وفيها القيام بالعبادات وترك المعاملات، وفيهاتكفير الأخر وعدم قبول المخالف. لفظ الخوارج أصبح نعت سياسي يقصد به الحط من شأن الخصم، وربما الطرح العلمي يكون بإستعمال مصطلح الضلال، فهو إنحراف في أي زمان أو مكان عن النبع القرآني والسنن الواضحة القاطعة الدلالة بلا تأويل ولا تراث ديني يعكر صفوها.
الارذال في ملكيتـــــــــــه خدام للكافر خذوا شهريته
حتى يموتوا لا يرحم لهم ميته عدو الدين فيه اخـــــــــوايا
دارع لهم في أرقابهم خريتــــه رابط ربط بو قطايــــــــــه
انتم ليس خوارج فقط…انتم ظلامين ومنافقين وتجار دين وعملاء في نفس الوقت…لعنة الله عليكم الى يوم الدين
رداً على دعوى د.علي الصلابي بأن إطلاق مسمى (الخوارج) عليه: إثم عظيم.. أقول: (بل أنتم الخوارج؛ وتلك هي الأدلة)
بقلم: د. عماد الحسيني الرابطة العالمية لخريجي الأزهر
الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فلأن الفكر لا يُرد إلا بالفكر، فقد كتبتُ هذا المقال بشأن عدم تبرئة د.الصلابي نفسه مما يجري في ليبيا الآن، ونوهتُ فيه لبعض الخطوط العريضة التي لم تخرج عن نصوص الشرع، والتي يمكن بشيء من التجرد أن يعيد د.الصلابي ومعه مفتي ليبيا النظر فيما يدينان الله به ويثوبا إلى رشدهما، إن كان يبغيان حقاً حقن الدماء، ويريدان صدقاً معرفة الحق وينتويان العمل به والرجوع إليه.. وليعلم القارئ أننا بصدد فكرٍ لطالما ألفيناه يُفني ولا يُحيي، ويُقصي ولا يُدني، ويبعِّد ولا يقرب، ويخرب ويدمر ولا يعمر، ومن ثم وجب على كل المنضوين تحته أن يعلموا أصوله وخطاياه وخباياه، وبخاصة لو كانوا محسوبين على أئمة الإسلام ويتكلمون باسمه.. ونقول: إنه يكفي أن يكون د.الصلابي وكل من كان على مثاله من الأئمة والدعاة: منتمياً لجماعة الإخوان، حتى نحكم عليه بأن يده ملطخة بدماء الموحدين، وأنه آثم وخارجي يحمل بذور فكر الحرورية وتكفير المجتمعات الإسلامية والخروج على حكام المسلمين ومنهم –بالطبع– الأئمة المتغلبون.. فليس بخافٍ على أحد تكفير أئمة الإخوان: (وجدي غنيم) و(محمد عبد المقصور) و(سلامة عبد القوي) مستشار وزير أوقاف مرسي، وغيرهم كثير بمصر وغيرها؛ لمن أراده الله أزلا أن يكون من غيرهم حاكماً للمسلمين، يكفرونه بالعين ويجهرون بذلك ليل نهار دون ما ضوابط شرعية، ولا تحققٍ لشروط ولا انتفاءٍ لموانع، بل ويكفرون أحياناً من لم يكفروه من جموع المصريين والسعوديين وغيرهم، وهذا وحده كاف لأن يتبرأ من هذا الفكر الخارجي التكفيري: كل من يريد لنفسه السلامة، وكل من يريد أن يقف على خطر هذه الجماعة الإرهابية المارقة، وكل من يريد أن يتبع نهج أهل السنة وسلف الأمة، على الأقل خوفاً على نفسه من أن ترتد عليه هذه الكلمة.. وهاكم المقال.. وهو بعنوان:
“درءً للفتنة وإبراءً للذمة وإقامةً للحجة.. (هذا بلاغ للناس ولينذروا به)”
السيد صاحب الفضيلة د.علي الصلابي ومفتي ليبيا.. السيد فايز السراج الرئيس غير التوافقي للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة عقب مؤتمر الصخيرات المشبوه ووزير الدفاع.. السادة أصحاب الفضيلة بسواعد الإخاء.. أصحاب الفضيلة بالسلطة القضائية السودانية.. أصحاب الفضيلة مفتي السودان وليبيا والجزائر واليمن.. هيئة كبار العلماء بمصر والسعودية.. شيوخ الصحوة والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.. شيوخ وعلماء ومفتي ودعاة العالَمَين الإسلامي والعربي.. تحية من عند الله مباركة طيبة.. وبعد:
فدعونا نقرُّ ونعترف بأن فتنة عصفت بالمسلمين في الآونة الأخيرة طالت الأخضر واليابس، وكادت أن تهلك ببلاد الإسلام الحرث والنسل، وأن القتل قد استحر بشبابٍ وجندٍ مسلمين وعلى يد مسلمين مثلهم، وأن هذه الحروب فيما بينهم قد طال أمدها ولا زالت، وأن أكثر الدعاة –قصدوا أو لم يقصدوا، دروا أو لم يدروا– كانوا سبباً في تأجيجها، وأنه قد تحقق فينا ما نهى عنه الرسول في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قُتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب للَعَصبة ويقاتل للعَصبة فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها، فليس مني)، وقوله: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.. يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، وأنه لا بد من وضع حدٍّ لهذه المأساة.. وأبدأ بمجموعة من الثوابت علّها تضيء لجميعنا طريق الهداية والرشاد.
أولاً: تحقيقاً لموعود رسول الله صلوات الله عليه الذي جاء في قوله: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يَرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.. الحديث)، قرر علماء وسلف الأمة أن المرحلة الأخيرة التي تلي الحكم الجبري لم يتركها النبي للاجتهاد، بل قال –في إشارة إلى آخر من تؤول إليه الخلافة التي ستكون على منهاج النبوة في آخر الزمان بعد الحكم الجبري –: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً.. ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً)، وقال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني – أو قال: من أهل بيتي – يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاًً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وما ألمح إليه –صلى الله عليه وسلم– هنا من أن: الخلاقة سابقاً ولاحقاً لا تخرج عن (قريش)، جاء التصريح به في قوله: (الأئمة من قريش)، وعليه علق الماوردي في الأحكام السلطانية ص 3 وما بعدها بقوله: “وبه احتج أبو بكر يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة، لما بايعوا سعد بن عبادة، فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا: (منا أمير ومنكم أمير)، تسليماً لروايته –بأبي هو وأمي– وتصديقاً لخبره.. وفي الحديث الصحيح: (قدِّموا قريشاً ولا تَقََدَّموها)، وليس مع النص المُسَلّم به شبهةٌ لمنازع فيه، ولا قولٌ مخالفٌ له”إ.هـ.. وبشأنه يقول الإمام أحمد في كتاب (السنة): “والخلافة في قريش ما بقي اثنان، ليس لأحد أن ينازعهم فيها، ولا يَخرج عليهم، ولا نُقِرُّ لغيرهم بها إلى قيام الساعة”، وهذا يصدقه ما رواه البخاري من حديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)، وحديث: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد، إلا كبّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين)، وحديث: (الناس تبع لقريش في الخير والشر)، يعني: في الإسلام والجاهلية، كما في رواية: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم)، وقد علق النووي في شرح مسلم بعد ذكره جملة من الأحاديث في ذلك، فقال – وبنحوه ابن حجر في باب (الأمراء في قريش) 13/ 126 وما بعدها –:
“هذه الأحاديث وأشباهها، دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك مَن بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرَّض بخلافٍ من غيرهم، فهو محجوج عليه بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم وبالأحاديث الصحيحة، قال القاضي عياض: (اشتراط كونه قرشياً: هو مذهب العلماء كافة)، قال: (وقد عدّها العلماء في مسائل الإجماع، ولم يُنقل عن أحد من السلف فيها قولٌ يخالف ما ذكرنا، وكذلك مَن بعدَهم في جميع الأعصار)، قال: (ولا اعتداد بقول النَّظّام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش)”، لاحظ معي كل كلمة مما ذكرنا، وعض على هذه النصوص بالنواجذ، فإن إثم مخالفتها تلحق (أردوغان) ومن يسانده، وتقضي بالخروج على إجماع وجماعة أهل السنة.
على أن الإمام النووي لم يكتف بما سبق أن ذكره، حتى جعل يوضح ويصرح بأن هذا الحكم باق ببقاء الزمان قائلاً: “وبيّن النبي أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا، ما بقي في الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله .. فمن زمنه إلى الآن: الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم فيها، وتبقى كذلك ما بقي اثنان كما قاله”.. وعبارة الطبري بعد أن ساق الأدلة: “وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخوارج من غير قريش”.. وهذا –بالطبع– حكمٌ شرعي ثابت، يقضي بأن من طلبها وسعى إليها من غيرهم، حكمه حكمهم إلى آخر الدنيا، وكل لبيب بالإشارة يفهم.
هذا، وقد خلص د. الدميجي في كتابه (الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة) ص 265 إلى القول بأن “القرشية شرط من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة، وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع كالخوارج وبعض المعتزلة والأشاعرة”، ثم نقل أقوال الأئمة في اشتراطها، ولم يكتف بذلك حتى فنّد كل ما خالف إجماعهم.
ومن غير مَن ذكرنا، فقد نص على كونها في قريش وساق الإجماع لذلك: الشافعي، وذلك في وصيته التي رواها عنه الحسين بن هشام البلدي ومعتقده الذي رواه عنه أبو ثور، وكذا الإمام الطبري في (التبصير في معالم الدين)، والبربهاري ت 329 في كتابه (شرح السنة) ص39، وغيرهم كثير.. وعليه فمَن تجرأ وخرج عن إجماع أهل السنة أو تابع مَن فعل ذلك، فقد التحق وارتضى لنفسه أن يكون في مصاف المعتزلة وكلاب أهل النار.
بل وصل الأمر –في تثبيت الخلافة في قريش وقصرها عليهم– إلى حدِّ أن ذكر النبي عددهم حسماً لمادة الخلاف، وذلك قوله عليه السلام في صحيح مسلم: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً.. كلهم من قريش).. وفي تأخر المهدي وعدم اشتراط تواليهم؛ يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية 55 من سورة النور: و”لا يشترط –في الاثني عشر– أن يكونوا متتابعين.. وقد وُجد منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ.. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله وكنيتُه كنيتَه، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً”إ.هـ بتصرف، وينظر فتح الباري لابن حجر 13/ 224 وما بعدها.
وعمن ولي الخلفاء الراشدين أفاد ابن حجر في الفتح 13/ 277 بعد تحقيق مستفيض، أن الخلافة الوارد ذكرها في الأحاديث وأنها لا تكون إلا في قريش، والتي اجتمع عليها من يقوم بها كما ورد في حديث جابر، انحصرت بعدهم في: (يزيد بن معاوية)، ثم (عبد الملك بن مروان)، ثم أولاده الأربع: (الوليد وسليمان ويزيد وهشام)، وتخلل بين سليمان ويزيد: (عمر بن عبد العزيز).. وبعدهم “انتشرت الفتن وتغيرت الأحوال ولم يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك”.. وبذا يصير (مهدي أهل السنة المنتظر) هو الخليفة الثاني عشر بلا منازع.
ما يعني: أن خلافة المسلمين الحقة لدى أهل السنة بيِّنة المعالم بحيث لا تشتبه على منصف أو باحث عنها، وعليه فجماعة أهل السنة الموعودة بالنصر والتمكين، خليفتها: في الإمامة العظمى قد حُدِّد وعُلم بالضرورة من خلال النصوص الصريحة والواضحة[ينظر كتابنا (إماطة اللثام فيما تمس الحاجة لمعرفته من عقائد وأحكام) ط. دار ابن عباس بالقاهرة: المقدمات، وصفحات: 74، 290، 329، 417، 535 وما بعدها].
ثانياً: وأما الإمامة الصغرى ببلدان عالمينا العربي والإسلامي، فلا تنطق شروطها بحال على جماعة الإخوان لعدة أسباب شرعية.
منها: حرصهم عليها وتنصيبهم مراقب عام لها في كل دولة، يستوجبون له حق السمع والطاعة دون من سواه من الأئمة الممكنين أصحاب الشوكة، وقد نُهينا شرعاً نحن معاشر أهل السنة أن نولي هذا الأمر رجلاً حرص عليها، للحديث المتفق عليه –وقد ذكره النووي في (رياض الصالحين) ضمن ستة أبواب عقدها في: (أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم)، و(الوالي العادل)، و(وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية)، و(النهي عن سؤال الإمارة)، و(حث السلطان في اتخاذ وزير صالح)، و(النهي عن تولية الإمارة لمن سألها وحرص عليه) وهي جديرة أن تقرأ ويُعمل بها لمسيس الحاجة إليها وكونها تمثل واجب الوقت–: (إنا والله لا نُوَلي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه).
ومنها: أخذهم بيعات لمن نصبوهم، ينازعون من خلالها الأمر أهله، وفي سبيل تحقيق ذلك أمر البنا بأخذ البيعات العامة على موالاته وجماعته ومعاداة من خالفهما، ونصها – كما في كتاب (قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان وشُعَبِها) ص 7 –: (أُعاهد الله العلي العظيم، على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين، والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وأقسم بالله العظيم على ذلك، وأبايع عليه، والله على ما أقول وكيل)، وهي بيعات كما ترى لم تكن ولن تقع إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فحكمها البطلان، وقد نهينا معاشر أهل السنة عن بيعات مطلقة كهذه، تكون لغيره عليه السلام في المعصية على نحو ما تكون للطاعة، كما نُهينا عن منازعة الأمر أهله وعن الخروج عن ولاة المسلمين من أصحاب الشوكة، وجميع كتب الاعتقاد على إقرار ذلك والتأكيد عليه، ونذكر على سبيل المثال قول أحمد في (أصول السنة) ص 64:
“والسمع والطاعة: للأئمة وأمير المؤمنين البَرِّ والفاجر.. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه.. بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحلُّ قتالُ السلطان ولا الخروجُ عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق”.. وقول الإمام الطحاوي: “ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة”، وقول ابن أبي العز في شرح ذلك: “وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا: فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير للسيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل)”، وقول الألباني تعليقاً عليه: “وفي هذا بيان لطريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم، ويصححوا عقيدتهم، ويربُّوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح، تحقيقاً لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. الرعد/ 11)”.. والكلام هنا منصب بالطبع على من لم يكن همه وحرصه على تولي الإمامة، أما من كان كذلك فحديث (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو حرص عليه) يلزمه.
ومنها: ما يترتب على هذه البيعات لمن نصبوهم، من: وجود بيعات لأناس غير ممكنين ولا أصحاب شوكة ولا سلطان، وهذا ما لا يجوز شرعاً، وبحقه يقول شيخ الإسلام في (منهاج السنة)1/ 115: “النبي أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يَقدرُون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً”، وفيه 1/ 527: “بل الإمامة عند أهل السنة تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها – يعني: لكونهم وكما أُثبتت الأحداث والوقائع الأدرى بما يحيق بالبلاد من أخطار والأقدر على فهم سياسات أعداء الإسلام – ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً، ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الوِلاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامةُ مُلك وسلطان”.. ومن وجود أكثر من إمام في ديار الإسلام، وهذا فيه ما فيه من تفريق للأمة ومن مخالفة لما جاء به ديننا الحنيف، ففي رواية لحديث مسلم: (من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان)، وفي أخرى: (فاقتلوه)، وفي أخرى: (إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما)، “وهذا – على حد قول ابن كثير في تفسير (إني جاعل في الأرض خليفة) – قول الجمهور، وقد حكا الإجماع عليه غير واحد، منهم إمام الحرمين” ابن الجويني، ونص كلامه كما في (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد) ص 169: “والذي عندي فيه، أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمَخَاليف غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه”، وهو الموافق لقول الأثبات من المحدَثين، ففي المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان 1/ 367: “البيعة لا تكون إلا لولي أمر المسلمين، وهذه البيعات المتعددة مبتدَعة، وهي من إفرازات الاختلاف، والواجب على المسلمين الذين هم في بلد واحد وفي مملكة واحدة، أن تكون بيعتهم واحدة لإمام واحد، ولا يجوز المبايعات المتعددة” إ.هـ.
ومنها: أن جماعة الإخوان تجعل من التمسك بتلابيب الحكم والوصول من خلاله إلى أستاذية العالم بأي سبيل ولو على أشلاء ودماء الموحدين، أصلاً من أصول الدين وجزءً من معتقداتها، وتلك هي عقيدة الخوارج وأيضاً الروافض الذين رفضوا إمامة أبي بكر وعمر ويتقربون إلى الله بلعنهما ولا يقرون بمصادرنا في التلقي، خلافاً لأهل السنة الذين يتعبدون الله بالولاء، وبالسمع والطاعة في غير معصية لصاحب الشوكة المسلم، برَّاً كان أو فاجراً، والدعاء له بالصلاح والهداية ما لم يأت كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان، والأحاديث ونصوص أصحاب الاعتقاد في ذلك أكثر من أن تحصى.
ومنها: أن الإخوان يعتبرون مجتمعات المسلمين مجتمعات جاهلية، وأن من خالفهم أو كشف سوآتهم أو ردّ شبهاتهم كافر وخارج عن جماعة المسلمين التي يمثلونها –بزعمهم– دون سواهم.. وهذا يؤكده: ادعاؤهم بأن جماعتهم –على ما بها من أخطاء شرعية تفوق الحصر– هي جماعة المسلمين، وأن أئمتهم هم أئمة المسلمين، وأن الخارج علي أي منهما خارج عن الإسلام، كذا دون ما تمكين ولا إمام فعلي.
وحتى لا يُدّعى علينا أن البنا فيما رسخه في أتباعه لم يقل بهذا ولا ارتضاه، لك أن تنظر إلى قوله في كتابه (دعوتنا) ص 16، يقول عن دعوته: “هي دعوة لا تقبل الشركة، إذ إن طبيعتها الوحدة، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف عن هذا العبء فسيُحرم ثواب المجاهدين، ويكون مع المُخَلّفين، ويقعد مع القاعدين ويستبدل الله لدعوته به قوما آخرين”، إنه التحريض بعينه لكل من لم يكن في جماعته، وجعله في عداد المنافقين، ويقول في (مذكرات الدعوة والداعية) ص 263: “دعوتكم أحق أن يأتيها الناس، ولا تأتى هي أحداً، وتستغني عن غيرها، وهى جماع كل الخير، وما عداها لا يَسْلمُ عن النقص، إذن فأقْبِلوا على شأنكم ولا تساوموا على منهاجكم، واعرضوه على الناس في عزة وقوة، فمن مد لكم يده على أساسه فأهلاً ومرحباً في وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار، أخ لكم يعمل معكم ويؤمن إيمانكم وينفذ تعاليمكم، ومن أبى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه”.. ماذا يفهم من هذا سوى ما قررناه آنفاً؟.
ثم هو لا يقف عند هذا حتى يصنع من نفسه مطابقة واضحة وحقيقية مع النبوة، فالناس حياله –وعلى نحو ما جاء في بداية مجموعة رسائله– “واحد من أربعة: إما مؤمن بدعوته، وهذا يشبه المؤمنين السابقين الأولين ممن شرح الله صدورهم لهدايته.. وإما متردد شأنه كذلك شأن المترددين من أتباع الرسل.. وإما نفعي: إن كشف الله الغشاوة عن قلبه وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده، سينضم إلى كتيبة الله، وكذلك كان شأن قوم من أشباهه حين أبوا مبايعة رسول الله.. وإما متحامل وهو الذي يأبى إلا أن يلج في غروره، وهذا حاله (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.. القصص/ 56)، و(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)”إ.هـ.. كما جاء في (مجموعة رسائله) ص 181 ما نصه: “وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب، والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة، فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا كثرة، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم”.. لقد فرض لنفسه وجماعته العصمة، وجعلهما كذا بالجزم كتيبة الله ولا ندري ضد مَن سوى مخالفيه من المسلمين؟، فهل شرع الجهاد لمثل هذا، أم ضد المشركين والمعتدين من أهل الكتاب؟
وفي سبيله لترسيخ هذا المفهوم الخاطئ، يقول منظِّر الجماعة الذي شقيت به دولته، أ.سعيد حوى في (دروس في العمل الإسلامي) ص 19: “ولا زالت دعوة الإخوان وحدها، هي الجسم الذي على أساسه يمكن أن يتم التجمع الإسلامي في العالم”، ويقول في (آفاق التعاليم) ص 13: “لئن كان البنا بمجموع ما حباه الله هو المرشح الوحيد؛ لأن يطرح نظريات العمل الإسلامي، فالدعوة التي أقامها تركيب ذو نِسب معينة، فمتى اختلفت هذه النسب حدث الفساد”، ويقول عن جماعته: إنها “الجماعة التي ظهرت بها الآن صيغة الحق الوحيدة المتعارف عليها خلال التاريخ، والمتمثلة بأهل السنة والجماعة”.
وقد أدى كل هذا بالطبع لأن تُصبِغ الجماعة هذا التصور بصبغة الدين وتتعسف في إسقاط الأدلة عليه، فيقرر حوى (في آفاق التعاليم) ص 15 ومعه كتيبة الإخوان، بأنهم المعنيون “بقوله في الحديث المتفق عليه: (أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)”، ويردف مؤكداً هذا المعنى فيقول: “إن الأصل الذي لا يجوز أن يغيب عن المسلم، هو أنه لا بد للمسلمين من جماعة وإمام، وأن الواجب الكبير على المسلم، أن يكون ملتزماً بجماعة المسلمين وإمامهم، وهذا هو المفتاح الأول لفهم قضية الإخوان”.
وكانت نتيجة ذلك بالضرورة: الوقوع في هوة تكفير الغير؛ والحكم على ديار المسلمين بأنها ديار جاهلية وكفر؛ وأن الخارج على جماعة المسلمين التي هي جماعة الإخوان، خارج عن الإسلام حلال الدم، لحديث: (من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، يقول حوى في كتابه (من أجل خطوة إلى الأمام) ص40 بعد أن ساق الحديث، ساحباً إياه على من خالف جماعته وإمامها: “وعلى كل مسلم ألا ينتسب لتنظيم أو جهة ليست من الجماعة، لأن الطاعة لا تجوز إلا لولي الأمر من المسلمين، وتحرم على غيرهم اختياراً”.
ومعلوم بالضرورة أن مثل هذه الادعاءات، أكبر دليل على بدعية من يقول بها فرداً كان أو جماعة على ما أفاده ابن القيم في آخر مختصر الصواعق، بل إن ذلك وحده كاف لمنابذتهم، والقضاء ببطلان بيعاتهم، والحكم عليهم بأنهم خوارج وأصحاب بدعة، لا يُجالسوا ولا تُقرأ كتبُهم ولا يُسمع لأئمتهم، إذ في أمثالهم قال أحمد –وقد سُئل عمن كان هذا حاله فكلح وجهه–: “إنما جاء بلاؤُهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله وأصحابه وأقبلوا على هذه الكتب” ص280 وما بعدها.
ولا يَرِدُ على ما ذكرنا: أنَّا ابتلينا بحكام لا يهتدون بهدي النبي ولا يستنون بسنته، لأن جوابه: قول شيخ الإسلام بـ (منهاج السنة) 1/ 556 –وهو يتحدث عما يقتضيه حديث حذيفة من وجوب طاعة الإمام ذي السلطان الموجود بالفعل والذي هذا حاله، لكن له القدرة على عمل مقصود الوِلاية ولم يأت كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان –: “وهو قد أخبر أنه بعد ذلك يقوم أئمة لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته، وبقيام رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فتبين أن الإمام الذي يطاع: هو من كان له سلطان، سواء كان عادلاً أو ظالماً”، وجوابه كذلك: أن ذلك ناشئ عن قصورنا نحن في التربية والدعوة إلى ذلك ففي الخبر: (كما تكونوا يُولى عليكم)
وما على المؤمن الحق – حيال كل ما ذكرنا – إلا أن يُسلِّم وبخاصة في هذه القضايا الملحة والمعاصرة، والتي تمثل فقه الواقع: بما وردت به النصوص ولا يبتدع في دين الله ما يعود على الأمة بالخراب والدمار على ما هو حاصل في زماننا تحت دعاوى عودة الخلافة وأستاذية العالم، فإن من وراء ذلك منازعة الأمر أهله، ومن دونه تدمير الأمة وإعمال القتل في أفرادها، وإنفاذ ما يخطط له لأعداء الإسلام.. هذا ما سمح به الوقت، وأظن أن فيه الكفاية في الحكم على جماعة الإخوان وكل من ينتمي إليها ويفعل فعلها، من الخوارج وممن يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية[وللمزيد من ذلك ينظر كتابنا (إماطة اللثام عما تمس الحاجة لمعرفته من عقائد ووقائع وأحكام) صفحات: 280، 444، 535 وما بعدها].. نسأل الله أن يحفظنا وديارنا وولاة أمورنا على طاعته، وان ينجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.. اللهم آمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بارك الله فيك
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد: فلأن الفكر لا يرد عليه إلا بالفكر، فقد كتبت هذا المقال وذكرت فيه الخطوط العريضة التي لم تخرج عن نصوص الشرع، والتي يمكن بقناعته بها أن يثوب إلى رشده، إن كان يبغي صدقاً معرفة الحق وينتوي العمل به والرجوع إليه.. وليعذرني القارئ إن كان ثمة حدَّة في النقاش؛ فنحن نناقش فكراً طالما ألفيناه يُفني ولا يُحيي، ويقصي ويخرب ولا يقرب، ويدمر ولا يعمر، ومن ثم وجب على كل المنضوين تحته أن يعلموا أصوله ومبادئه وخباياه، وبخاصة لو كانوا محسوبين على الإسلام ومن أئمته ويتكلمون باسمه، ولذا جاء الخطاب فيه عاماً وليس قاصراً على د. الصلابي.. ونقول: إنه يكفي أن يكون الصلابي وكل من كان على شاكلته من الأئمة والدعاة: منتمياً أو محباً لجماعة الإخوان، حتى نحكم عليه بأنه خارجي يحمل بذور فكر الخوارج وتكفير المجتمعات الإسلامية والخروج على حكام المسلمين ومنهم –بالطبع– الأئمة المتغلبون.. وليس بخاف على أحد تكفير (وجدي غنيم) و(محمد عبد المقصور) و(سلامة عبد القوي) مستشار وزير أوقاف مرسي، وغيرهم كثير؛ بالإعلان ليل نهار بتكفير من أراده الله أزلا لأن يكون ولياً لأمر المصريين بل والسعوديين وغيرهم، وهذا وحده كاف لأن يتبرأ كل من يريد أن يُثبت لنفسه أنه ليس على نفس النهج من الجماعة وكل من ينتمي إليها.. وهاكم المقال لكل من يريد من أئمة المسلمين وآحادهم أن يقف على خطر هذه الجماعة الإرهابية المارقة.. وهو بعنوان:
“(درءً للفتنة وإبراءً للذمة وإقامةً للحجة.. (هذا بلاغ للناس ولينذروا به)”
السيد صاحب الفضيلة د.علي الصلابي ومفتي ليبيا.. السيد فايز السراج الرئيس غير التوافقي للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة عقب مؤتمر الصخيرات المشبوه ووزير الدفاع.. السادة أصحاب الفضيلة بسواعد الإخاء.. أصحاب الفضيلة بالسلطة القضائية السودانية.. أصحاب الفضيلة مفتي السودان وليبيا والجزائر واليمن.. هيئة كبار العلماء بمصر والسعودية.. شيوخ الصحوة والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.. شيوخ وعلماء ومفتي ودعاة العالَمَين الإسلامي والعربي.. تحية من عند الله مباركة طيبة.. وبعد:
فدعونا نقرُّ ونعترف بأن فتنة عصفت بالمسلمين في الآونة الأخيرة طالت الأخضر واليابس، وكادت أن تهلك ببلاد الإسلام الحرث والنسل، وأن القتل قد استحر بشبابٍ وجندٍ مسلمين وعلى يد مسلمين مثلهم، وأن الحروب ظلت مشتعلة فيما بينهم مدة طويلة ولا زالت، وأن بعضنا –قصد أو لم يقصد، درى أو لم يدر– كان سبباً فيها، وأنه قد تحقق فينا ما نهى عنه الرسول في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قُتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب للَعَصبة ويقاتل للعَصبة فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها، فليس مني)، وقوله: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.. يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، وأنه لا بد إذن من وضع حدٍّ لهذه المأساة.. وأبدأ بمجموعة من الثوابت علّها تضيء لجميعنا طريق الهداية والرشاد.
أولاً: تحقيقاً لموعود رسول الله صلوات الله عليه الذي جاء في قوله: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يَرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.. الحديث)، قرر علماء وسلف الأمة أن المرحلة الأخيرة التي تلي الحكم الجبري لم يتركها النبي للاجتهاد، بل قال في إشارة إلى آخر من تؤول إليه الخلافة التي ستكون على منهاج النبوة في آخر الزمان بعد الحكم الجبري: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً.. ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً)، وقال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني – أو قال: من أهل بيتي – يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاًً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وما ألمح إليه –صلى الله عليه وسلم– هنا من أن: الخلاقة سابقاً ولاحقاً لا تخرج عن (قريش)، جاء التصريح به في قوله: (الأئمة من قريش) الذي عليه علق الماوردي في الأحكام السلطانية ص 3 وما بعدها بقوله: “وبه احتج أبو بكر يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة، لما بايعوا سعد بن عبادة، فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا: (منا أمير ومنكم أمير)، تسليماً لروايته –بأبي هو وأمي– وتصديقاً لخبره.. وفي الحديث الصحيح: (قدِّموا قريشاً ولا تَقََدَّموها)، وليس مع النص المُسَلّم به شبهةٌ لمنازع فيه، ولا قولٌ مخالفٌ له”إ.هـ.. ويقول الإمام أحمد في كتاب السنة: “والخلافة في قريش ما بقي اثنان، ليس لأحد أن ينازعهم فيها، ولا يَخرج عليهم، ولا نُقِرُّ لغيرهم بها إلى قيام الساعة”، وهذا يصدقه ما رواه البخاري من حديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)، وحديث: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد، إلا كبّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين)، وحديث: (الناس تبع لقريش في الخير والشر)، يعني: في الإسلام والجاهلية، كما في رواية: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم)، وقد علق النووي في شرح مسلم بعد ذكره جملة من الأحاديث في ذلك، فقال – وبنحوه ابن حجر في باب (الأمراء في قريش) 13/ 126 وما بعدها –:
“هذه الأحاديث وأشباهها، دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك مَن بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرَّض بخلافٍ من غيرهم، فهو محجوج عليه بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم وبالأحاديث الصحيحة، قال القاضي عياض: (اشتراط كونه قرشياً: هو مذهب العلماء كافة)، قال: (وقد عدّها العلماء في مسائل الإجماع، ولم يُنقل عن أحد من السلف فيها قول يخالف ما ذكرنا، وكذلك مَن بعدَهم في جميع الأعصار)، قال: (ولا اعتداد بقول النَّظّام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش)”، لاحظ قوله: “لا اعتداد بقول الخوارج أنه يجوز كونها في غير قريش” وعضَّ عليه بالنواجذ فإن ذلك ينسحب تماماً على أردوغان ومن يسانده.
وهنا يردف النووي قائلاً: “وبيّن النبي أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا، ما بقي في الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله .. فمن زمنه إلى الآن: الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم فيها، وتبقى كذلك ما بقي اثنان كما قاله”.. وعبارة الطبري بعد أن ساق الأدلة: “وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخوارج من غير قريش”، وهذا حكمٌ شرعي ثابت يقضي بأن من طلبها وسعى إليها من غيرهم، حكمه حكمهم إلى آخر الدنيا، وكل لبيب بالإشارة يفهم.
هذا، وقد خلص د. الدميجي في كتابه (الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة) ص 265 إلى القول بأن “القرشية شرط من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة، وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع كالخوارج وبعض المعتزلة والأشاعرة”، ثم نقل أقوال الأئمة في اشتراطها، ولم يكتف بذلك حتى فنّد كل ما خالف إجماعهم.. ومن غير من ذكرنا، فقد نص على كونها في قريش وساق الإجماع لذلك: الشافعي، وذلك في وصيته التي رواها عنه الحسين بن هشام البلدي ومعتقده الذي رواه عنه أبو ثور، وكذا الإمام الطبري في (التبصير في معالم الدين)، والبربهاري ت 329 في كتابه (شرح السنة) ص39، وغيرهم كثير.. وعليه فمَن تجرأ وخرج عن إجماع أهل السنة أو تابع مَن فعل ذلك، فقد التحق وارتضى لنفسه أن يكون في مصاف المعتزلة وكلاب أهل النار.
بل وصل الأمر –في تثبيت الخلافة في قريش وقصرها عليه– إلى حدِّ أن ذكر النبي عددهم حسماً لمادة الخلاف، وذلك قوله عليه السلام في صحيح مسلم: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً.. كلهم من قريش)، وفي تأخر المهدي وعدم اشتراط تواليهم؛ يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية 55 من سورة النور: و”لا يشترط –في الاثني عشر– أن يكونوا متتابعين.. وقد وُجد منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ.. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله وكنيتُه كنيتَه، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً”إ.هـ بتصرف، وينظر فتح الباري لابن حجر 13/ 224 وما بعدها.
وعمن ولي الخلفاء الراشدين أفاد ابن حجر في الفتح 13/ 277 بعد تحقيق مستفيض، أن الخلافة الوارد ذكرها في أحاديث الرسول والتي لا تكون إلا في قريش والتي اجتمع عليها من يقوم بها كما ورد في حديث جابر، انحصرت بعدهم في: (يزيد بن معاوية)، ثم (عبد الملك بن مروان)، ثم أولاده الأربع: (الوليد وسليمان ويزيد وهشام)، وتخلل بين سليمان ويزيد: (عمر بن عبد العزيز).. وبعدهم “انتشرت الفتن وتغيرت الأحوال ولم يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك”.. وبذا يصير (مهدي أهل السنة المنتظر) هو الخليفة الثاني عشر بلا منازع.
ما يعني: أن خلافة المسلمين الحقة لدى أهل السنة بيِّنة المعالم بحيث لا تشتبه على منصف أو باحث عنها، وعليه فجماعة أهل السنة الموعودة بالنصر والتمكين، خليفتها: في الإمامة العظمى محدد المعالم ومعلوم بالضرورة من خلال النصوص الصريحة والواضحة[ينظر كتابنا (إماطة اللثام فيما تمس الحاجة لمعرفته من عقائد وأحكام) ط. دار ابن عباس بالقاهرة: المقدمات، وصفحات: 74، 290، 329، 417، 535 وما بعدها].
ثانياً: وأما الإمامة الصغرى لأئمتها ببلدان عالمينا العربي والإسلامي، فلا تنطق شروطها على جماعة الإخوان لعدة أسباب شرعية، منها: حرصهم عليها وتنصيبهم مراقب عام في كل دولة، يستوجبون له حق السمع والطاعة دون سواه من الأئمة الممكنين أصحاب الشوكة، وقد نُهينا شرعاً نحن معاشر أهل السنة أن نولي هذا الأمر رجلاً حرص عليها، للحديث المتفق عليه –وقد ذكره النووي في (رياض الصالحين) ضمن ستة أبواب عقدها في: (أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم)، و(الوالي العادل)، و(وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية)، و(النهي عن سؤال الإمارة)، و(حث السلطان في اتخاذ وزير صالح)، و(النهي عن تولية الإمارة لمن سألها وحرص عليه) وهي جديرة أن تقرأ ويُعمل بها لمسيس الحاجة إليها وكونها تمثل واجب الوقت–: (إنا والله لا نُوَلي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه).. كما نُهينا عن منازعة الأمر أهله وعن الخروج عن ولاة المسلمين من أصحاب الشوكة، وجميع كتب الاعتقاد على إقرار ذلك والتأكيد عليه، ونذكر على سبيل المثال قولة أحمد في (أصول السنة) ص 64:
“والسمع والطاعة: للأئمة وأمير المؤمنين البَرِّ والفاجر.. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه.. بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحلُّ قتالُ السلطان ولا الخروجُ عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق”.. وقول الإمام الطحاوي: “ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة”، وقول ابن أبي العز في شرح ذلك: “وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا: فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير للسيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل)”، وقول الألباني تعليقاً عليه: “وفي هذا بيان لطريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم، ويصححوا عقيدتهم، ويربُّوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح، تحقيقاً لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. الرعد/ 11)”.
ومنها: أن جماعة الإخوان تجعل من التمسك بتلابيب الحكم والوصول من خلاله إلى أستاذية العالم بأي سبيل ولو على أشلاء ودماء الموحدين، أصلاً من أصول الدين وجزءً من معتقداتها، وتلك هي عقيدة الخوارج وأيضاً الروافض الذين رفضوا إمامة أبي بكر وعمر ويتقربون إلى الله بلعنهما ولا يقرون بمصادرنا في التلقي، خلافاً لأهل السنة الذين يتعبدون الله بالولاء، وبالسمع والطاعة في غير معصية لصاحب الشوكة المسلم، برَّاً كان أو فاجراً، والدعاء له بالصلاح والهداية ما لم يأت كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان، والأحاديث ونصوص أصحاب الاعتقاد في ذلك أكثر من أن تحصى.
ومنها: أن الإخوان يعتبرون مجتمعات المسلمين مجتمعات جاهلية، وأن من خالفهم أو تحامل عليهم أو ردّ شبهاتهم كافر وخارج عن جماعة المسلمين التي يمثلونها –بزعمهم– دون سواهم.. يؤكد هذا: أمْرُ البنا بأخذ البيعة العامة على موالاته وجماعته ومعاداة من خالفهما، ونصها – كما في كتاب (قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان وشُعَبِها) ص 7 – : (أُعاهد الله العلي العظيم، على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين، والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وأقسم بالله العظيم على ذلك، وأبايع عليه، والله على ما أقول وكيل)، وهي بيعة كما ترى لم تكن ولم تقع إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.. كما يؤكده: ادعاؤهم بأن جماعتهم –على ما بها من أخطاء شرعية تفوق الحصر– هي جماعة المسلمين، وأن أئمتهم هم أئمة المسلمين، وأن الخارج علي أي منهما خارج عن الإسلام، كذا دون ما تمكين ولا إمام فعلي.
وحتى لا يُدّعى علينا أن البنا فيما رسخه في أتباعه لم يقل بهذا ولا ارتضاه، لك أن تنظر إلى قوله في كتابه (دعوتنا) ص 16، يقول عن دعوته: “هي دعوة لا تقبل الشركة، إذ إن طبيعتها الوحدة، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف عن هذا العبء فسيُحرم ثواب المجاهدين، ويكون مع المُخَلّفين، ويقعد مع القاعدين ويستبدل الله لدعوته به قوما آخرين”، ويقول في (مذكرات الدعوة والداعية) ص 263: “دعوتكم أحق أن يأتيها الناس، ولا تأتى هي أحداً، وتستغني عن غيرها، وهى جماع كل الخير، وما عداها لا يَسْلمُ عن النقص، إذن فأقْبِلوا على شأنكم ولا تساوموا على منهاجكم، واعرضوه على الناس في عزة وقوة، فمن مد لكم يده على أساسه فأهلاً ومرحباً في وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار، أخ لكم يعمل معكم ويؤمن إيمانكم وينفذ تعاليمكم، ومن أبى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه”.
ثم هو لا يقف عند هذا حتى يصنع من نفسه مطابقة واضحة وحقيقية مع النبوة، فالناس حياله –وعلى نحو ما جاء في بداية مجموعة رسائله– “واحد من أربعة: إما مؤمن بدعوته، وهذا يشبه المؤمنين السابقين الأولين ممن شرح الله صدورهم لهدايته.. وإما متردد شأنه كذلك شأن المترددين من أتباع الرسل.. وإما نفعي: إن كشف الله الغشاوة عن قلبه وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده، سينضم إلى كتيبة الله، وكذلك كان شأن قوم من أشباهه حين أبوا مبايعة رسول الله.. وإما متحامل وهو الذي يأبى إلا أن يلج في غروره، وهذا حاله (إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.. القصص/ 56)، و(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)”إ.هـ.. كما جاء في (مجموعة رسائله) ص 181 ما نصه: “وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب، والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة، فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا كثرة، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم”.
وفي سبيله لترسيخ هذا المفهوم الخاطئ، يقول منظِّر الجماعة الذي شقيت به دولته، أ.سعيد حوى في (دروس في العمل الإسلامي) ص 19: “ولا زالت دعوة الإخوان وحدها، هي الجسم الذي على أساسه يمكن أن يتم التجمع الإسلامي في العالم”، ويقول في (آفاق التعاليم) ص 13: “لئن كان البنا بمجموع ما حباه الله هو المرشح الوحيد؛ لأن يطرح نظريات العمل الإسلامي، فالدعوة التي أقامها تركيب ذو نِسب معينة، فمتى اختلفت هذه النسب حدث الفساد”، ويقول عن جماعته: إنها “الجماعة التي ظهرت بها الآن صيغة الحق الوحيدة المتعارف عليها خلال التاريخ، والمتمثلة بأهل السنة والجماعة”.
وقد أدى كل هذا بالطبع لأن تُصبِغ الجماعة هذا التصور بصبغة الدين وتتعسف في إسقاط الأدلة عليه، فيقرر حوى (في آفاق التعاليم) ص 15 ومعه كتيبة الإخوان، بأنهم المعنيون “بقوله في الحديث المتفق عليه: (أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)”، ويردف مؤكداً هذا المعنى فيقول: “إن الأصل الذي لا يجوز أن يغيب عن المسلم، هو أنه لا بد للمسلمين من جماعة وإمام، وأن الواجب الكبير على المسلم، أن يكون ملتزماً بجماعة المسلمين وإمامهم، وهذا هو المفتاح الأول لفهم قضية الإخوان”.
وكانت نتيجة ذلك بالضرورة: الوقوع في هوة تكفير الغير؛ والحكم على ديار المسلمين بأنها ديار جاهلية وكفر؛ وأن الخارج على جماعة المسلمين التي هي جماعة الإخوان، خارج عن الإسلام حلال الدم، لحديث: (من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، يقول حوى في كتابه (من أجل خطوة إلى الأمام) ص40 بعد أن ساق الحديث، ساحباً إياه على من خالف جماعته وإمامها: “وعلى كل مسلم ألا ينتسب لتنظيم أو جهة ليست من الجماعة، لأن الطاعة لا تجوز إلا لولي الأمر من المسلمين، وتحرم على غيرهم اختياراً”.
ومعلوم بالضرورة أن مثل هذه الادعاءات، أكبر دليل على بدعية من يقول بها فرداً كان أو جماعة على ما أفاده ابن القيم في آخر مختصر الصواعق، بل إن ذلك وحده كاف لمنابذتهم، والقضاء ببطلان بيعاتهم، والحكم عليهم بأنهم خوارج وأصحاب بدعة، لا يُجالسوا ولا تُقرأ كتبُهم ولا يُسمع لأئمتهم، إذ في أمثالهم قال أحمد –وقد سُئل عمن كان هذا حاله فكلح وجهه–: “إنما جاء بلاؤُهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله وأصحابه وأقبلوا على هذه الكتب” ص280 وما بعدها.
وما على المؤمن إلا أن يُسلِّم وبخاصة في هذه القضايا الملحة والمعاصرة، والتي تمثل فقه الواقع، بما وردت به النصوص ولا يبتدع في دين الله ما يعود على الأمة بالخراب والدمار على ما هو حاصل في زماننا تحت دعاوى عودة الخلافة وأستاذية العالم، فإن من وراء ذلك منازعة الأمر أهله، ومن دونه تدمير الأمة وإعمال القتل في أفرادها، وإنفاذ ما يخطط له لأعداء الإسلام.. هذا ما سمح به الوقت، وأظن أن فيه الكفاية في الحكم على جماعة الإخوان وكل من ينتمي إليها ويفعل فعلها، من الخوارج وممن يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية[وللمزيد من ذلك ينظر كتابنا (إماطة اللثام عما تمس الحاجة لمعرفته من عقائد ووقائع وأحكام) صفحات: 280، 444، 535 وما بعدها].. نسأل الله أن يحفظنا وولاة أمورنا وديار الإسلام من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.. اللهم آمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.