يوجد في العلم العسكري مصطلح تخّتصره كلمتين اثنتين هما (الاستطلاع بالقوة). وهو حالة يضطر فيه قائد ما إلى مهاجمة جبهة معادية. تَمَكّن العدو فيها وببراعة فائقة من إخفاء نفسه، ومصادر نيرانه على خط دفاعه الأول.. ويكون الغرض من الهجوم -والذي يتم وفى العادة بقوة محدودة الحجم- التعرّف على مكامن ومواقع هذه النيران، بكشفها ورصّدها وتثّبتها وتوّقعها على خريطة ميدان معركته.
وبصيغة موجزة، الاستطلاع بالقوة يهدف إلى تعرية العدو، بدفعه للكشّف عن نفسه، وأنا هنا سأضطر إلى إسقاط هذا المفهوم على مجال ليس بالبعيد عن مجاله العسكري، الذي يقول ويعتبر بأن السياسة هي الوجه الناعم أو الآخر للحرب.
فقد لاحظ الجميع خلال الأيام القليلة الماضية، تلك الدولة في مندوبها، وهو في حركة محمومة داخل أروقة مجلس الأمن، عندما اقتربت الحرب من أبواب طرابلس، شاهدها الجميع فيه، وهي تكشف عن نفسها، في تحيز واضح وبدون مواربة إلى مليشيات طرابلس، للدود عنها من خلال سعّيها المتكرر، لحمل مجلس الأمن لتأمين مظلة حماية دولية، لتلك التي عصفت بأمن ليبيا والليبيين على مدار السنين الماضية، لكي تستمر قبضة وكلمة هذه المليشيات هي العليا في طرابلس مركز القرار الليبي وإدارته.
وهنا وبحكم الواقع الموضوعي، يجب ألا نفهم بأن هذا الجهد المحموم من طرف تلك الدولة داخل قاعة مجلس الأمن، كان الهدف منه الوقوف لصالح طرابلس المدينة، بل كان تحيزا منها لإطالة عمر الحالة الظرّفية، التي تمر بها طرابلس كحاضنة للمليشيات. وبقول اخر إن شئتم، هو تحيز منه إلى طرابلس كبيئة اجتماعية، لها من القدرات الاستثنائية التي تُمكّنها من التكيّف والتعايش مع العبث في جميع صوره ووجوهه مادية كانت أو معنوية.. خطف.. اغتيال.. نهب.. سلب.. امتهان… الخ.
وهو سلاح قد نجحت هذه الدولة في إشاعته كسلوك يومي داخل أسوار المدينة. فقد اتضح بعد هذا التعرّي والانكشاف لتلك الدولة، بأنها الظهير الدولي داخل أروقة مجلس الأمن لهذه المليشيات، وأنها ومليشيات طرابلس هما الخميرة المُنشّطة والمُحفزة لهذا التفاعل السلبي المُدّمر داخل تلك البيئة الاجتماعية المُسّتكينة، والتى لا يقف ضرره عند أسوار طرابلس، بل يتخطاها إلى ما بعدها، ليطال ليبيا والليبيين، ويتجاوزهم إلى فضاءهم الإقليمي وحوض المتوسط والدولي أيضا.
وهنا قد يكون من المفيد التوضيح بأن هذه القدرة الفائقة على التخفّي والكُمون، والاستطاعة عليه طوال هذه المدة، لا يجب أن تكون بالغريبة والعجيبة إن ظهرت في سلوك ونشاط هذه الدولة، فقد كانت هذه تضع يدها على رقعة واسعة من جغرافية هذا العالم البائس ولفترة زمنية مديدة، عبر تاريخها الاستعماري العريق، ومن خلال تماسها واحتكاكها المباشر مع الجغرافيات الاجتماعية والنفسية، التي تُغطي تلك الرقعة الجغرافية الواسعة والبائسة في آن، تمكنت تلك الدولة العتيدة وعبر المُعايشة اللصيقة لهذا الكم الاجتماع النفسي، من دراست واستيعاب وهضم خصائصه الاجتماعية النفسية، فصار ذلك إضافة فارقة لصالح رصيد مراكمتها المعرفية.. مما مكّنها من القيام بأعمال ونشاط قد يظهر استثنائياً وكان من أحدها هذه القدرة على الكُمون والتخفّي وراء ستار أو ستائر من المحلي والإقليمي والدولي.
ولكن بعد هذا الانكشاف الفاقع من هذا الطرف الدولي، وحركته النشطة داخل أروقة السياسة الدولية، بهدف حشد دولي يمكّنه من فرض حماية لهذه الحاضنة المليشياوية، ألا يحق لنا أن نطرح جمله من التساؤلات، ما برحت تعصف وتضج بها رؤوسنا.
ومن جملت هذه التساؤلات.. هل هذه الحركة النشطة التي أظهرها هذا الطرف الدولي، وهي تصب وبالضرورة في خدمة هذه المليشيات، هي مساندة منه لهذا العبث الذي يعصف بطرابلس وليبيا ويطال إقليم حوض المتوسط؟
وهل هو وبوجه آخر خطوة مدروسة من طرفه، لما قد يُوَلّده هذا العبث من إحباط داخل نفوس جُمُوع الليبيين، والذي سينقلب مع الوقت إلى كُره، قد يستخدم سلاحاً ووسيلة لتطويع انتفاضة الليبيين ووأدها داخل هذه الحاضنة المستكينة؟
وإذا كان الواقع الموضوعي يستسيغ ويقبل بمنطقية هذا الطرح المُتسائل، فهل اجتثاث الانتفاضة من حاضنتها الطبيعية عبر استدراجها إلى هذه الحاضنة المليشياوية، كان أولى الخطوات نحو دفن ووأد مطالبات الليبيين وسعيهم نحو التأسيس لدولة المواطنة في دولة المؤسسات والقانون؟
واستناداً على التساؤل السابق أضيف متسائلا.. هل بقاء الانتفاضة بحاضنتها الطبيعية بميدان المحكمة ببنغازي لم يكن مرغوباً فيه من هذا الطرف الدولي؟ لما يوفر لنُخب وجماهير الانتفاضة من فرص تفاعل إيجابي بناء قد ينتهى بفرز قيادة للانتفاضة، تتمكن بها تخطي مرحلة ما بين الثورة و الدولة إلى المأمول بأقل كلفة؟
واذا كان هذا التناول الاستفهامي يقبله الحس العقلي، فهل نستطيع الذهاب بالتساؤل إلى أبعد من ذلك لنقول: هل هذه الدولة هي العراب الفعلي لكل ما حدث ويحدث من دمار في ليبيا الوطن؟ ولكن وأخيراً.. ألا تتوقع تلك العتيدة بأن ذلك له أوزار وتبعات ثقيلة؟
[su_note note_color=”#1a84ba” text_color=”#ffffff” radius=”0″]هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي «عين ليبيا»[/su_note]
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
أستغرب ألا ينتبه كاتب المقال أو بالأحرى أن يتغافل ( وليس يغفل ) عن حقيقة أن الدولة التي يتحدث عنها هي التي جاءت بالديكتاتورية ( العسقبلية ) التي تسلطت علينا منذ عام 1969 ميلادية .