لقد كانت محاربة العقيدة الإسلامية، وإنهاء تأثيرها على حياة الفرد والمجتمع الجزائري، هدفاً أساساً عمل الاستعمار الفرنسي على تحقيقه؛ لأنه يدرك أن بقاءه في الجزائر واستمرار سيطرته عليها مرهون بمدى تمكنه من فك الارتباط بين الإنسان الجزائري وعقيدته الإسلامية، لذلك استعمل الاستعمار الفرنسي شتى الطرق ومختلف الأساليب من أجل تخريب جمعية العلماء في الجزائر، وقام بمحاولات كثيرة ، وكان من أبرزها محاولة تفجير الجمعية من الداخل واحتوائها وتحريفها عن مسارها ومنهجها الإصلاحي الجهادي وخطها الحضاري التغييري الأصيل، إذ قام بتحريك أعوانه من الطرق الصوفية تلك الطرق التي مالت إليه منذ منتصف القرن الماضي، وأسهمت معه في القضاء على ثورة الأمير عبد القادر، لا نقصد كل الطرق الصوفية ولكن التي تورط زعماؤها في التعاون مع المحتل الفرنسي.
وذلك عند إعادة انتخاب المجلس الإداري للجمعية في سنتها الثانية في 23 آيار 1933م، هذه الطرق الصوفية التي كانت ضمن الأصناف الذين ضمتهم إليها الجمعية عند تأسيسها، ولكن ما كان من تلك الجماعات إلا أن سايرت الجمعية في الظاهر وأسرّت لها الكيد في الباطن.
وداومت على حضور جلساتها ودوراتها، لا خدمة لغايتها، ولا إعانة لإدارتها، ولكن عيناً عليها فاجرة، تبلّغ وتشي إلى إدارة الأمور الأهلية، وتحينت الفرصة المناسبة لها عند إعادة تجديد انتخاب مكتب الجمعية فكان رئيس لجنة العمل، قد سعى سعياً شديداً في تكوين عدد كثير ممن يوافقونه على القائمة التي يقدمها للانتخاب، وكانت مكاتبات لبعض الجهات في الحث على القدوم يوم الانتخاب، وساعده في ذلك شيخ زاوية مستغانم، وأصبحت الوصولات توزع على كل من يقال فيه طالب، ليأتي للجمعية العمومية وينتخب من كتبت أسماؤهم في ورقة سلمت لهم.
وتضمنت القائمة التي وزعت ثلاثين اسماً منها أعضاء أقدمون في المكتب، مع شطب على أسماء بعضهم زيادة عليهم، وقد ضُمّ رئيس لجنة العمل إلى قائمة الثلاثين شخصاً وكان ابن باديس على علم من ذلك، غير خائف على الجمعية لأنني ـ كما يقول ـ كنت أعتقد أن الاجتماع العمومي سيضم جمعاً عظيماً من أهل العلم وحسبي بعلمهم هادياً لهم إلى ما فيه خير وسداد للجمعية والأمة.
ولذلك ـ كما يقول الإمام دائماً ـ: بينما كان السيدان يعملان عملهما ويقويان حزبهما، كنا تاركين للمسألة حالها تسير بطبيعتها ولو كنا على شيء من سوء النية أو القصد إلى الاستيلاء بالأغلبية، لكنا دعونا تلامذتنا دعوة للحضور وهم كثر وكلهم من أهل العلم فملؤوا نادي الترقي والشوارع المتصلة به ولا فخر. ولكن ما كنا ـ والحمد لله ـ لنقصد إلى التكثر ولا إلى العصبية والتحزب وإحداث الفرقة بين الناس.
وحَسم ابن باديس الأمر بتذكير جميع الناس الذين حضروا بأن المنتخبين لا بدَّ أن يكونوا من أهل العلم كما تنصُّ عليه المادة السابعة من القانون الأساسي للجمعية «الفصل الثامن منه» والتي نصها: الأعضاء العاملون هم وحدهم الذين يجب أن يتألف منهم المجلس الإداري، وهم الذين ينتخبون كل سنة، وهم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائر، بدون تفريق بين الذين تعلموا ونالوا الإجازات بالمدارس الرسمية الجزائرية وبين الذين تعلموا بالمعاهد العلمية الإسلامية الأخرى.
وذكر الجميع أن مجلس الإدارة عين لجنة لتقييد أسماء من ينطبق عليهم هذا الوصف المذكور في المادة وأنه تقبل من كانت له شهادة ، أو كان باشر التعليم ، أو كان يشار إليه بالعلم في قومه وأنه بعد تقييد أسماء المنتخبين، يكون الانتخاب، ولكن المتربصين والكائدين وأذناب المندسين رفضوا ذلك، وقامت القيامة، واضطربت أركان القاعة بالضجيج وأبى القوم إلا الانتخاب في الحين، دون اعتبار للمادة القانونية، ولا اعتبار لتقييد أسماء المنتخبين، واستمر ذلك الاضطراب من الصباح إلى قرب الزوال، وتأكد جمع العلماء من أن أهل العلم قد حشر فيهم من ليس منهم وكان معهم من لم يتخلق بأخلاقهم، ولا تأدب بادابهم مما حتم الموقف وتطوراته على ابن باديس، أن يجمع أعضاء المكتب ليبين لهم دافع وهدف المكيدة التي يراد من وراءها قلب الجمعية والاستحواذ عليها قائلاً لهم: طالباً: أشيروا عليَّ بما ترون، فقال الأستاذ مبارك الميلي: أرى أن تكون لجنة من العلماء يكون أعضاؤها منا ومنهم، يجري امتحان على من لا تتوفر فيهم الشروط.
ووقع الإعلان عن الانتخابات وفق الخطة يوم الثلاثاء صباحاً وتم مساءها، ولما سمع القوم هذا سقط في أيديهم وخرجوا من النادي في غليان واضطراب يتدافعون على الأبواب، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة.
وتألف المجلس الإداري الجديد من زعماء الإصلاح وصفوة أنصاره ورأى الناس عجيب صنع الله في نصر الحق على الباطل، الذي انشق وانسحب دعاته من الجمعية محاربين ولأغراض أمور الأهلية منفذين؛ وذلك لأن الإدارة الاستعمارية هي التي حرضت بعض أتباعها على سلوك هذا المسلك والقيام بهذا العمل مخوفة إياهم من الجمعية التي ستقطع عنهم الزيارات واراداتها المالية التي تتوقف عليها رفاهيتهم ويقوم على أساسها نفوذهم.
ولكن بعد فشل محاولتهم وخروجهم يائسين مهزومين دفعتهم الإدارة الفرنسية وأعانتهم على تأسيس جمعية خاصة بهم، عرفت فيما بعد باسم ووصل بهم الأمر إلى تحريف اسم ابن باديس إلى إبليس بدلاً من باديس.
وفسحت الإدارة الفرنسية المجال واسعاً للجمعية لممارسة نشاطها في الميدان مع كل التسهيلات، لمنافسة جمعية العلماء ومحاصرة نشاطها، ففي السنة الثانية من تأسيسها كان رئيسها يقوم بجولات لنشر دعوتها ويزور العواصم لدعم نفوذها.
ولكن الرأي العام الجزائري – إدراكاً منه بخلفيات وأبعاد ظهور هذه الجمعية على الساحة -لم يتجاوب معها ولم يستجب لخطابها بل على العكس من ذلك قابلها برفض ونفور، وحدث –مثلاً – أن رمي بالبيض والطماطم رئيسها في عنابة عندما زارها وأراد إلقاء درس في جامعها الكبير، ولذلك ورغم سعيهم الحثيث في الميدان وفي المساجد الرسمية، ورغم المساعدات التي كانت الإدارة تغدق بها عليهم، كان مال هذه الجمعية الفشل الذريع في محاربة ومواجهة العلماء.
وإبتداءً من أيار 1933م حدثت القطيعة النهائية بين الإصلاحيين والطرقيين، وتوقفت جريدة الإخلاص عن الصدور في كانون الأول 1933م، ولم تعمد إدارة الاحتلال إلى دفع الطرقيين إلى محاولة تفجير الجمعية والاستيلاء عليها، فحسب، كما يؤكد ذلك الدكتور أبو القاسم سعد الله بقوله: ولا شك أن السلطات الفرنسية هي التي أوحت إلى أتباعها، باتخاذ هذا الموقف من علماء الإصلاح، بتأسيسهم لجمعية علماء السنة السالفة الذكر، وكما يؤكد ذلك أيضاً الشيخ الصالح بن عتيق، بل عمدت علاوة على ذلك إلى إنشاء جمعيات دينية مختلفة ، كالتي أنشأتها في تبسة، باسم الجمعية الدينية الإسلامية ، ووضعت على رأسها معمراً يدير شؤونها، ويوجه أهدافها، الخادمة لأغراضها. ولبثّ الدعاية الكاذبة في عقول العامة من الناس، ومن جملة ما كانت تروجه أن العلماء المصلحين ينكرون وجود الأولياء، وقد جاؤوا بدين جديد، ومنذ أن ظهرت الدعوة الإصلاحية انقطعت البركة، وأمسك الله عنا المطر.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً