باتت العودة الى مبادئ دستور 1951 بصفة انتقالية ضرورة ملحة لانتشال ليبيا من الارتباك السياسي الذي أعماها عن المطالب الحقيقية للثورة.
بغضّ النظر عن النتائج التي أوصلتنا اليه ممارسات وسياسات قرابة الثلاث سنوات ما بعد الثورة الليبية، فإن واقع ليبيا اليوم المربك، يتطلب من الجميع ممن هم على الساحة السياسية والاجتماعية، وخاصة ممن يتمتعون بحسن النوايا ويحاولون اقناعنا بها، ضرورة القيام بتنازلات “وطنية” إن صح التعبير.
قد يختلف الكثيرون فيما بينهم عن رؤيتهم لما تكون عليه ليبيا المستقبل، الا انهم وفي الظاهر يتفقون على ضرورة ارساء الدولة الديموقراطية المدنية التي تسع الجميع (وهنا استبعد تماماً المطالبات المتطرّفة دينياً وسياسياً).
ما يحدث في ليبيا اليوم، تجاوز الاختلاف الديموقراطى السلمي في الرأي، وبدأت مظاهر الاستقطاب الحاد تلوح في الافق، بل بدأنا ندخل في مرحلة التخلّص والصراع الجسدي والاعلامي، وان دخلت ليبيا في هذا النفق فلن يكون هناك رابح او خاسر، بل سيكون الجميع خاسرين.
من يعتقد ان الثورة انتهت، وأن الصراع السياسي بدأ هو في رأيي لا يحمل الا رؤية ناقصة لم تكتمل عن اهداف الثورة، وهي رؤية يشوبها الكثير من الضبابية، نتيجة لسوء الفهم احياناً وعدم ادراك احياناً لماهية الثورة نفسها، مستمدة من ثقافتنا “الثورية” المغلوطة!
فلا يزال البعض يعتقدون ان انقلاب سبتمبر كان “ثورة”، وان انقلاب 1953 في مصر كان “ثورة”، بل إن البعض ينطقها قصداً او سهواً بدون ان يتعلثم، ولا الومهم في ذلك، حيث ظل الإعلام وكثير من “النخب” وحتى أهل الفن والغناء والادب والشعر الشعبي والتأريخ والتعليم والمناسبات عندنا وعندهم، يملأون رؤوس أجيال كاملة بقناعة مفادها انها “ثورات!”، ولهذا رأينا الكثير منّا لا زال يجادل لدرجة الانقسام الفكري، بين “نخبة” المجتمع عندنا او في مصر على ما حدث في مصر في 30 يونيو: هل هو انقلاب ام ثورة؟، متناسين ان الثورة لا تكتمل الا بتحقيق الهدف السامي لها وهو حقوق المواطنة والديموقراطية، بغض النظر عن اي فئة تأتي بها.
وليس هذا موضوعي الآن، موضوعي الآن هو ليبيا وازمتها السياسية الحاضرة وكيف نخرج منها.
لا شك ان هناك ازمة قد اسمّيها ازمة “تأسيس”، وهذا ما دأبت على الحديث عنه ما بعد التحرير، ولكن الامور انفلتت وخرجت من التأسيس الى التمكين والصراع على السلطة والنفوذ تجاوزتها الى الفساد المالي والغنائم لاسباب متعددة ليس هذا مجال الحديث عنها.
هكذا وبكل صراحة، وأول ما اتمناه من كافة النخب الوطنية في بلادي بغضّ النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية أن يتجاوزوا الحديث بنعومة الى الحديث بصراحة وكلمات مكشوفة واضحة، بشرط ان تكون النية سليمة وواضحة وصريحة ما دام الهدف تأسيس ليبيا الوطن الديموقراطي العصري الحديث، الوطن الذي يسع جميع مواطنيه بغض لنظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية.
وكم احب في هذا الصدد ان اعود الى تاريخ تأسيس ليبيا في 24 ديسمبر عام 1951 بناء على دستور خلق وطناً من كثبان الرمال، دستور يقول في المادة 11: “اللّيبيّون أمام القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة وفي تكافؤ الفرص وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامّة لا تميز بينهم في ذلك بسبب الدّين أو المذهب أو العنصر أو اللغة أو الثروة أو النسب أو الآراء السّياسيّة والاجتماعيّة”.
أحد الأصدقاء المصريين، عندما رأى هذه المادة لاول مرة، قال لي: “لو ان هذه المادة موجودة في دستور مصر 2012 بعد الثورة لما وصلت مصر الى ما وصلت اليه اليوم من انقسام”.
ما افزعني وافجعني وأهمنّي ان كثيراً من “النخب” ـ ان صحّت التسمية ـ من الرجال والنساء الليبين، وكثيراً ممن درسوا في الخارج وقاد البعض منهم مؤتمرات وندوات وحتى اساتذة جامعات، لم يعرفوا هذا المادة الا منّي وللأسف، أليست هذه المادة حلاً لكثير من المطالبات الحقوقية التي بدأت تلوح في الافق من النساء واطياف الليبيين المختلفة في أرجاء الوطن؟
هذا ليس مطلباً منّي بالعودة الى ذلك الدستور نسخاً ولصقاً، فكثير من الامور بالتأكيد تغيّرت، الا انني مؤمن حتى الآن بضرورة العودة الى المبادئ الحقوقية لذلك الدستور التاريخي، كما ان هذا لا يمنعني من القول إنني من المؤيدين للعودة الى دستور ما قبل الانقلاب في عام 1969، كدستور انتقالي يرعى المرحلة الانتقالية الحالية لحين اتفاق الليبيين على دستور جديد ـ اتفاق لا مغالبة ـ قد تعطى فيه الاختصاصات الملكية الدستورية التي نصّ عليها ذلك الدستور اما “لحكومة ازمة” او للامير محمد الحسن الرضا ـ بإجراء استفتاء مثلا ـ او قرار من المؤتمر الوطني، قد يكون جزءا من التنازلات الوطنية التي نوهّت عنها في بداية مقالي هذا، الا اذا كان هناك افضل من رأيي هذا بركة ونصحاً وتاريخاً وهدفاً سامياً لتأسيس وطن اثقلت كاهله الجراح والفقد والتضحية، وحتى الهرج السياسي والفكري والايديولوجي، الذي يكاد يعمينا عن اهداف الثورة الاصلية يوم بدأت، حفظ الله الوطن.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً