تاريخ ليبيا لم يُكتب بعد! وما كُتب من قراطيس تاريخ غزاة وافدين، ومن أثار الغزاة ثقافات وأقاليم صنعها المستعمرون، فإقليم برقة لم يصنعه إلا الإغريق ثم البطالمة، وأخيرا الإنجليز في القرن العشرين، وفزان صناعة فرنسية حديثة، ولم يُترك لأهلها يوما تقرير مكانتهم الجغرافية، فلقد ألحقهم الفرنسيون يوما ما بتشاد وأخرى بتونس. أما طرابلس فتارة مركز حكومة، وتارة أخرى تابعة لروما أو للقيران، ولقد نسج على هذا المنوال أذناب أولئك الوافدين لصناعة كتيونات جديدة من خلال تصدر المشهد السياسي لتلك المناطق حتى بعد المحاولات الجادة لتوحيد الدولة الليبية على يد الإيطاليين ثم الأمم المتحدة. إن النظام الفيدرالي في الشرق الليبي جاء بعد تكوين إمارة برقة من الإنجليز ومحاولة إبقائها موازية لمستجد إستقلال الدولة الليبية، وبذلك أصبح الملك أميرا على برقة وملكا على ليبيا بعد إعلان الإستقلال، ولقد تم إلغاء هذا النظام سنة 1962م ولم يبقى له أثر.
الفوضي العارمة الحالية جزء كبير منها بسبب التماهي مع التيار الفدرالي في الشرق الليبي بداية من تعديل الإعلان الدستوري بعد غلق الطريق الساحلي عند الوادي الأحمر، والإذعان للمحاصصة العشرينية لأعضاء صياغة الدستور تبعا لإقاليم الغازي علي حساب المكونات الأخرى، ثم محاصصة الحكومة والوزارات، وأخيرا صناعة دستور محاصصة لأقاليم ثلاث، يتكون من غرفتين بمحاصصة مجلس الشيوخ ليكون لبرقة ثلث النواب (26) ونزع ستة ممثلين من فزان (20) وإضافتهم لإقليم طرابلس (32)، علما بان مجلس الشيوخ في ليبيا ليس له موقع من الإعراب سوى المحاصصة، لعبة لا تنطلي على أحد. بهذا الاسلوب السمج ضاعت المواطنة وأصبح وزن الشخص وقيمة صوته تبعا لموقعه الجغرافي، أي أن الدستور الحالي لا يعبر عن أدنى صيغ العدالة وحقوق المواطنة.
وأخير موافقة البرلمان على قانون الإنتخابات المعيب، من حيث تقسيم ليبيا إلى ثلاثة دوائر إنتخابية ويشترط لإنتخاب الرئيس أن يتحصل على أكثر من النصف في كل دائرة وعلى ثلاثة أرباع المقترعين على مجموع ليبيا، وهو ما لن يكون ممكنا من الناحية العملية، ومن الواضح أن الهدف ليس الإنتخابات بل إطالة عمر الدخل المادي لأعضاء مجلس النواب إلى أقصى مدى.
في هذا الخضم يتسأل المرء مالذي يجعل برقة إقليماً سياسيا له مزايا فوق القانون؟ ونحن نعلم أن قبيلة العواقير أو الزوية أو العبيدات مثلا في الشرق الليبي والمحاميد أو أولاد عون أو المقارحة في الغرب الليبي لا تستطيع التمييز بينهم، فهم عشائر وبيوت، ولغتهم أقرب إلى العربية الفصحى، وهم مالكية المذهب، ولهم شهامة العرب وخيامهم تشهد بإكرام الضيف، ومعظمهم يكره التجارة والمهن اليدوية، وسابقا كانوا أهل صوف ووبر، وحاليا معظمهم موظفون في الدولة، وصغيرهم يتربى على إقراض الشعر وكبيرهم يأنس للحديث الطويل مع تنناول ثلاث كؤوس من الشاي الثقيل، ومن الرجولة أن يكون مستخدما للفائف التدخين، وإن أمر يطاع ولا يرد له أمر، وإن أعطى أجزل العطاء. هذه السيمات تبين أن قضية الأقاليم مفتعلة وهناك أيدي داخلية وخارجية تغذي التيار الفيدرالي من أجل إدامة الفوضي.
هذا الخلط يفتح باب أقاليم أخرى مغيبة ومنسية بل مهجورة كثيرة، مثل إقليم الأمازيغ وإقليم للتبو في الجنوب الشرقي، ولما لا إقليم للقرعان في أقصى الجنوب، وأخر لبرقة البيضاء الرافضة لإقليم برقة الحمراء، وإقليم للأهالي في الجنوب الوسط،(ولقطع الطريق أبرئ نفسي وقطاع عريض من الشعب الليبي من مسلك الأقاليم والتقسيم والمحاصصة المتخلف). فإقليم الأمازيغ وإقليم التبوعندما يثار جدلا، تشطح الذاكرة إلى الإستعمار الفرنسي الذي يريد تقسيم ليبيا من خلال عملائه، أما في حالة برقة فهي مطالب تاريخية مشروعة، واسلوب حضاري للحكم، نعم لم يطالب الأمازيغ والتبو بأقاليم لهم رغم وجود الكثير من المقومات الجغرافية والحقوقية والتاريخية للمطالبة بهكذا إقليم ردا على مطالب تعجيزية من الحراك الفيدرالي بالشرق الليبي، فالأمازيغ لهم رقعة جغرافية ممتدة من زوارة على البحر شمالا إلى غدامس وغات جنوبا ثم أوباري في الجنوب الوسط، هذه المنطقة الجغرافية الواسعة تشمل البحر والسهل والجبل والصحراء، لها شعب يتحدث لغة واحدة (تمازيغت)، ويدين معظمهم بالمذهب الإباضي، تاريخيا مرتبط بتيهرت في الجزائر أيام الدولة الرستمية ولهم حروب كثيرة مع القره مانليين والإيطاليين ومن ولاهم، وللإقليم ثقافة مدنية متشابهة، مثل إضمحلال القبلية وتحجيم شيوخها، وبروز قوة المرأة وإستقلاليتها وقدرتها على إدارة دفة الحياة، وتقدير العمل في الزراعة والتجارة وتثمين المهن والحرف، والتأفف عن التسول وطلب الحاجة من البشر، ولهم سواعد لا تكل ولا تمل من العمل ولذا فهم متواجدون في الصف الثاني من معظم مؤسسات الدولة الليبية، ولهم تاريخهم المريع من الإقصاء والتهميش والتعليق على أعمدة المشانق في عهد القذافي. ولهم قناعاتهم من الحكومات الحالية والدستور المقترح من طمس الهوية الوطنية الليبية وتثمين المذاهب الإسلامية الوافدة، والتكفير الجماعي لأتباع المذهب الإباضي من مكتب الأوقاف بالحكومة المؤقتة ومن ورائهم من المتشددين على راس السلطة في شرق ليبيا وغربها.
رغم ذلك ساد الحلم (بكسر الحاء) والأمل عند معظم المكونات الليبية، الحلم في عدم القيام بأي فعل يزيد من تشظي الوطن، والأمل في إنتشار الوعي لتكوين دولة المواطنة، دولة كل الليبيين بلا مزايا لمكون على آخر ولا لفئة دون غيرها، وضمن تنوع ثقافي وعدالة إجتماعية يكفلها القانون، ويشد من عضدها المواثيق والأعراف الدولية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً