قبل حوالي قرن وربع خشي غوستاف لوبون من عدم قدرة النخبة على قيادة الجماهير لقوتها الجارفة وثقتها بتلك القوة، بحيث تجعل أي شخص يحاول الوقوف في مواجهة الجمهور كمن يتصدى لموجة تسونامي!!! فيضطرون لمسايرتها وتأييد مطالبها اللاعقلانية.
ولكن للأسف نحن نعاني الآن من ثقافة شعبوية وصلت للنخبة فامتزجت بالجمهور، وركبت موجة يُغلف مصطلح الجمهور بمصطلح خادع هو (الشعب).
فمن الناحية الواقعية ليس الشعب هو الذي يريد وإنما بضعة أفراد أو قادة حزب أو مذهب أو إيدلوجية تقود أو تُقاد من لا عقلانية وغرائزية العقل الجماهيري.
لوبون كان قد تنبأ بعصر سطوة الجماهير وجبروتها. ولكن لماذا خشية لوبون من ذلك؟! جيب عن ذلك بقوله: “الجماهير غير ميالة كثيرا للتأمل وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جدا للانخراط في الممارسة والعمل، والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة. وهي سوف تكتسب نفس قوة العقائد القديمة أي القوة الطغيانية المتسلطة التي لا تقبل أي مناقشة أو اعتراض”.
ونحن نؤيد لوبون في أن الدول والحضارات والأمم بنيت ووجهت من قبل قلة مثقفة أو واعية أو إصلاحية. ولم تُبن أبداً من قبل الجماهير، فهذه الأخيرة لا تستخدم قوتها الا في الهدم والتدمير، كما أن هيمنتها تمثل محلة من مراحل الفوضى.
فالحضارة تتطلب قواعد ثابتة، ونظاماُ محدداً، والمرور من مرحلة الفطرة إلى مرحلة العقل، وأخلاقية عالية وقدرة على استشراف المستقبل ومستوى من الثقافة وكل هذه العوامل غير متوفرة لدى الجماهير المتروكة لذاتها.
فإذا كانت لا عقلانية وعاطفية وغرائزية النخبة السياسية والدينية والثقافية تجاوز مثيلاتها لدى العقل الجماهيري فهنا نحن نعيش زمناً يكون فيه طغيان الفرد أرحم بألف مرة من زمن يقوده طغيان جماعي أكثر عنفاً وشراسة ودموية ولا عقلانية وغرائزية.
حذرنا ونحذر من تقديس مصطلح (سيادة الجماهير) لكي لا يحدث ما حدث عندما قٌدست مصطلحات (السلطان، الملك، الرئيس، الزعيم، البابا، العالم) فنستحيل من طغيان الفرد و(الشلة) إلى طغيان الجموع، وان كان هناك تباينات بين ممارسات ونتائج وكوارث طغيان الفرد و طغيان المجموع.
إن سيادة الشعب، وفي الواقع هي سيادة الجمهور الأقوى، سواء استندت هذه القوة إلى الأكثرية العددية أو القوة المادية (السلاح) أو الدينية (الموقع الديني) أضحت كعقيدة مقدسة، بحيث أصبحت معياراً للحق والعدل!!!
وللأسف فإنها كأي شيء أُلبس هالة القداسة يتم تأويله وإساءة تفسيره من اجل مصالح شخصية أو حزبية أو مذهبية أو فئؤية. فمصطلح الشعب في الأغلب الأعم لا يقصد به الا الجزء من الشعب الذي يؤيد رأي أو مطلب ذلك الشخص أو الحزب أو المذهب ويكون له من القوة ما يكفل تحقيق تلك الآراء أو المطالب أو المصالح.
يقول توكفيل: “في زمن المساواة لا يعود البشر يثقون ببعضهم البعض بسبب تشابههم، ولكن هذا التشابه يعطيهم ثقة لا حدود لها في حكم الجمهور العام ورأيه، وذلك لا نهم يجدون من غير الممكن الا تكون الحقيقة في جهة العدد الأكبر بما ان الجميع يمتلكون نفس العقل”!!!!
للأسف ابتلينا بنخبة لا تعرف للمبادئ قيمة ولا للأخلاق وزناً ولا لعبر التاريخ فائدة ..نخبة شعبوية لا واعية تتصرف كتصرفات الجمهور الغاضب النزق .. يحتجون عليك بمصطلحات سيادة الشعب والشعب يريد لكي يبرروا رأي الفئة الأقوى (عددياً أو ماديا) بحجة أن ذلك هو معنى سيادة الشعب، وهو الذي يحقق الاستقرار السياسي والحرية والكرامة والرفاهية والقوة.
أحياناً نتساءل، ماذا ستفعل مثل هكذا شخصيات لو امتلكت سلطة مطلقة كتلك التي يمتلكها البرلمان البريطاني طبقاً لمبدأ Parliamentary Supremacy؟
مبدأ سيادة الشعب أو الأمة لا يجلب الرفاه ولا السعادة ولا الحرية ولا الديمقراطية ولا يضمن حقوق الإنسان ولا يمنع نشوء الاستبداد أو احتياز السلطة المطلقة.
كل ما سبق لا يُضمن الا بمبادئ وأنظمة كمبدأ الفصل بين السلطات،حقوق الإنسان، حقوق المواطنة المتساوية، الحريات الحقوق الفردية تجاه الدولة، مبدأ استقلال القضاء، حق التقاضي للفرد، رقابة دستورية القوانين، الوعي بأهمية احترام الدستور والقوانين طالما نتجت بطريق شرعي ولو اعتقدنا بعوار في جزئيات منها.
إن مبدأ سيادة الشعب أو الأمة قد يكون أكبر خطر على الحرية، إذا ما تم تقديسه وجعله مطية للاستبداد والانتهاكات الخطيرة للمبادئ والأنظمة الآنف ذكرها، ومن ثم التحول من الطغيان الفردي للطغيان الجمعي. كما حدث في أوج بزوغ مبدأ سيادة الأمة في بداية الثورة الفرنسية حيث قال أحد أعلام وفقهاء ذلك العصر (بايلي) مقولته الشهيرة: “حينما يتكلم القانون يجب أن يسكت الضمير”.
وفي ذلك يقول الفقيه الفرنسي بارتلمي: “ان هذا المبدأ (سيادة الأمة أو الشعب) ينزع بأصحابه إلى اعتبار إرادة الأمة إرادة مشروعة بذاتها، أي اعتبار أنها تمثل دائماً الحق والعدل.
واستناداً إلى ذلك فكل تصرف يصدر استناداً لسيادة الشعب أو إرادته يعد متماثلاً ومتماهياً، بل تجسيداً، للعدل والحق باعتبار مصدره.
وذلك يؤدي لاحتياز سلطة مطلقة، ومن ثم الطغيان. ذلك أنه طالما كان معيار العدل والحق إرادة الشعب فإنه يحق للكثرة قانونياً أن تصدر ما تشاء، وهو يعد مشروعاً بالاستناد إلى إرادة الشعب كما يفعل الكيان الصهيوني في تشريعاته تجاه الأقلية العربية، وكما فعل مؤتمرنا الوطني في تعديله الدستوري الكارثي (المخزي)، وكما فعل لاعقي أحذية العسكر في مصر.
نعم لا يغرنكم شهادات علمية و لا فصاحة ولا لغات أجنبية. هذه النخبة سواء في مصر أو ليبيا لا تعي حقيقة ركائز وأسس الدولة الحديثة، ولا معنى الدستور، ولا معنى حقوق الإنسان وحرياته، ولا الديمقراطية وآلياتها، ولا مبدأ سيادة القانون ، ولا كل المبادئ والأنظمة السابق ذكرها كالفصل بين السلطات والمواطنة المتساوية.
كل ذلك يحدث لأننا أمام نخبة وانعكاسات لها، أو العكس في أشكال جموع فقدوا جزءا كبيراً من إنسانيتهم، وهم في حالة لا عقلانية وخطاب عاطفي غرائزي، نحن أمام ما يشبه جمهور نادي عربي في مباراة دربي، وهو مصاب بحالة انفعال غرائزي.
يقول لوبون: “عندما تفقد القوى الأخلاقية التي تشكل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها، فان الانحلال النهائي يتم عادة على يد الكثيرة اللاواعية والعنيفة التي تدعى عن حق البرابرة”.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً