بسبب حالة القلق والخوف التي خلفتها حالة الفوضى والانفلات الأمني صار الاحتماء بالقبيلة أو المدينة أو الجماعات الفئوية الدينية والسياسية ملاذاً للمواطن بدل الاحتماء بالدولة والقانون. وهو ما اضطر أغلب المناطق والقبائل والمدن حتى التي لم تتشكل لديها مليشيات ابان الحرب الى شراء السلاح وتجنيد الشباب والتمترس خلف تشكيلاتها القبلية المسلحة في ظل توازن الرعب وتعدد الولاءات وانحسار الولاء للوطن، والارتداد إلى صيغ العصبيات الضيقة والولاء القبلي والجهوي والايديولوجي.
ولأن التغيير (ضمن مايسمى بالربيع العربي) في ليبيا كان برعاية ووصاية مباشرة من بعض دول الخليج وخصوصاً قطر والتي كانت الأكثر نشاطاً فقد عمدت امارة قطر منذ البدء على “قـبلنة” الحراك السياسي الليبي منتهجة في ذلك سياسة بعض دول الاحتلال الأجنبي للدول العربية ما بعد الدولة العثمانية. وهي العمل على تقويض الوسطاء المحليين من رجال الدين وشيوخ القبائل عن طريق شراء ذمم كثير من زعماء وشيوخ القبائل من مختلف أنحاء ليبيا.
وكذلك اعتماد مبدأ المحاصصة القبلية منذ تشكيل أول كيان سياسي وهو “المجلس الانتقالي”. وهذا مما زاد من انعاش دور القبيلة والعصبيات الجهوية في مرحلة ما بعد الحرب. علاوة على اعتماد الاحزاب السياسية الرئيسية على البعد القبلي في خلق قاعدة شعبية لها مثل “حزب الاخوان المسلمين” الذي قفز مبكراً لقيادة المجالس المحلية للمدن الكبرى. اضافة على اعتماده على مدينة معينة مستفيدا من دورها الفاعل في الحرب وترسانتها المسلحة لتكون المعقل الرئيسي للحزب. وكذلك أحزاب اخرى انتهجت ذات الاسلوب حيث اعتمدت رموزها على الاتكاء على القبيلة لحشد الانصار المؤيدين لها.
ولذلك ما لبتتث أن تلاشت سريعاً تلك الشعارات والاماني الوردية التي كان يسوقها الاعلام ابان الحرب، بما يتمتع به الشعب الليبي من وحدة وتناغم “منقطع النظير” في نسيجه الاجتماعي حيث لا شيع ولا طوائف فجميعهم مسلمين على مذهب واحد .. ولكن ما أن وضعت الحرب أوزارها حتى كشرت العصبيات عن انيابها واشتعلت الحروب الجانبية واستيقظت الثارات القديمة وبدأت القرى في قصف بعضها بعضا بمدافع الجراد ودخلوا في حروب الابادة لأتفه الأسباب، وهجروا بعضهم بعضاً حتى بسبب الأضرحة والمقابر، ونصبت كل قرية وكل مدينة بواباتها وانتشرت ظاهرة الخطف وتبادل الأسرى وطلب الفدية والمقابر الجماعية الإنتقامية، لم نعد شعباً واحداً بل شعوباً وأعراقاً متناحرة…!
خصوصاً بعد تهديد الشرق الليبي بإعلان الانفصال وقيام دولة “برقة المستقلة”، وربما “عاطفياً” نستبعد هذا الأمر كما استبعدناه قبل أن ينشطر السودان … ولكن، ما لبثنا أن تقبلنا الانفصال كأمر واقع. والمشكلة لدينا أن التشكيلات المسلحة الجهوية والدينية التي تقوّض سلطة الدولة مُطمئِنَة الى ماتكدس لديها من سلاح وعتاد لردع اي تحرك انفصالي على الأرض متناسية البند السابع والغرب الذي لا يضيره تشظي الدولة ولكنه لن يسمح بأي تهديد قد يشكل خطراً على التدفق الآمن للطاقة، محور اهتمام الغرب الرئيسي. خصوصاً وبعد ما شهدناه من عمليات اجلاء واسعة لرعاياهم واغلاق لسفاراتهم وشركاتهم هذه الأيام.
والدولة هي الحاضر الغائب، وقد اصبحت مجرد حلم … وكما يقول الكاتب مأمون فندي في مقاله “عدوى تفتيت الدولة العربية” :” الدولة أصبحت مجرد غطاء لولاءات، بحيت أصبحت الدولة شيئا أشبه بصاج السيارة (قطعة الصفيح التي تصنع الغطاء الخارجي). ولكن على عكس السيارة التي تعمل بمحرك واحد، فإن الدولة تعمل بمحركات متعددة)، أضعفها محرك الدولة.” وينبه الكاتب الى خطورة تنامي ظاهرة الولاءات الصغرى أو الجانبية ويرى بأن ظهور تنظيمات عابرة للحدود ذات الولاءات الخارجية كتنظيم الاخوان المسلمين ومليشيات الجهاديين وخصوصاً في بلدان الثورات العربية وهيمنة هذه التنظيمات على أجزاء كبيرة من الدولة تسبب في عرقلة قيام الدولة الوطنية” انتهى الاقتباس.
وفي الحالة الليبية كذلك تحولت الدولة بالفعل الى مجرد سقف أو غطاء هش لقوى وجماعات مسلحة متصارعة سواء كانت قبلية أو جهوية أو مليشيات حزبية تفوقها قوة وقدرة، وأصبحت تلك المليشيات هي المحركات التي تقود الدولة الليبية كل في الاتجاه الذي يريد فرضه على البلاد. بل والأسوأ من ذلك هو كون الدولة الليبية الضعيفة أساساً، هي المُمَوِل المالي الرئيسي والخادم المطيع لما تمليه عليها تلك الجماعات والتشكيلات المُسلحة. وكما اشارت الى ذلك وكالة “أسوشيتد برس Associated Press” في تقريريها الصادر في March 13, 2013 الذي أشارت فيه إلى أن “الدولة الليبية تدفع الاموال للمليشيات التي تقوّض حكمها وتزيد من الخروج على القانون”.
مما جعل من “الدولة الناشئة” في ليبيا تفتقد أهم مقومات وجودها وهي “ممارسة السيادة” على الأرض، والتي يفترض بأنها هي صاحبة القوة العليا، وهي التي تعلو فوق أية تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة وكذلك يجب أن تكون وحدها من تمتلك قوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين.
لقد اختارت الدولة الليبية مبدأ التعايش مع المليشيات بأنواعها مستنسخة النموذج اللبناني ومثلما هو الحال مع مليشيا “حزب الله” الذي يتمتع بالحصانة المعنوية والمادية، فإن المليشيات الليبية يتمتعون أيضاً بالحصانة المعنوية كونهم “هم الثــوار الذين أسقطوا نظام القذافي”. ولعل تصريح رئيس الحكومة الليبية الأخير بقوله: “بأن ليبيا لا توجد بها مليشيات بل ثوار” كفيل بتأكيد تلك الحصانة المعنوية للمليشيات الليبية. اضافة الى القوة المادية المتمثلة بحيازتهم للسلاح الذي يفوق ما تمتلكه الحكومة.
عرقلة قيام الدولة الوطنية وسيطرة المليشيات:
عندما أعلن أمير دولة قطر في مؤتمر صحفي عقب نهاية الحرب بأن “الثوار لايسلمون أسلحتهم” كان يعني ما يقول ولم يكن بالطبع حرصاً على أولئك الثوار أو على ليبيا، وكذلك لم يكن عبثياً تدخل أعلى السلطات متمثلة بـ “المجلس الانتقالي” – في ذلك الوقت- لإلغاء قرار حل المليشيات وليستمر حتى هذه الساعة اعتماد التشكيلات المسلحة الجديدة فإنه من الواضح أن الهدف المباشر هو ما نقف عليه اليوم من نتائج من تفتيت ليبيا وتقسيمها إلى كانتونات متناحرة في ظل توازن الرعب المسلح بين مليشيات القبائل والمدن والمذاهب الدينية والاحزاب السياسية المختلفة. في مقابل تخوين الجيش ورجال الأمن الليبي وتهميش عناصرهم واحتلال المعسكرات والقواعد من قبل المليشيات المؤدلجة والقبلية.
ومن لم ينجـو من جنود وضباط مؤسستي الجيش والأمن في ليبيا الجديدة من الاغتيال أو الخطف والاعتقال التعسفي، فإنه حتماً لن يفلت من مقصلة لجان هيئة النزاهة والوطنية وهي ماتسمى “بهيئة المسائلة والعدالة” في العراق أو”العزل السياسي” وهو ما يسمى بـ “قانون الاجتتاث” في العراق. وبحسب قانون العزل السياسي الجديد في ليبيا فيما يخص العسكريين فإن غالبية الجيش السابق هم في عداد المعــزولـــين ولن يكون هناك من يتولى قيادة الجيش اللهم إلا الاستعانة بأمراء المليشيات المسلحة، وهؤلاء طبعاً لن يتفقــوا ولن يخضعوا لقيادة واحدة نظراً لاختلاف ولاءاتهم ومرجعياتهم وتوجهات كل منهم، ولكونهم مدنيين في الأساس.
اضافة لسلسلة التفجيرات المتعاقبة لمراكز الشرطة والهيئات القضائية. وهذه الجرائم بحق رجال الجيش والشرطة يتم الترويج لها بأنها “جزء من الحـالة الثورية” وتطــهير البلاد من عناصر النظام السابق. وهي في الحقيقة لاتعدو كونها عملية منظمة لإجهاض أي مشروع لبناء الدولة الوطنية في ليبيا وعرقلة أي مشروع من شأنه بسط سيطرة الدولة على البلاد، وبناء مؤسساتها المركزية وخصوصاً الجــيش والأمــن.
وازاء هذا الهيجان الثورجي والهوس الانتقامي من قبل أقلية مسلحة فرضت رغباتها بقوة السلاح. مطمئنة إلى أن الحكومة مضطرة للخنوع والخضوع لإملاءاتهم واستحالة تفكير هذه الحكومة بمواجهة العنف بعنف مضاد. فالدولة لا تملك من أمرها ولا أمر البلاد شيء سوى توقيع الصكوك وشرعنة المليشيات. التي اختارت أن تتعايش معها تجنباً لنهر جديد من الدماء الليبية. وهو ما سيكلف ليبيا كثيرا وليس أقلها الغياب عن الخارطة وتحولها الى دويلات متناثرة والعودة الى مجتمعات وقبائل ما قبل نشوء الدولة.
المصالحة والحقيقة من أجل إنقاذ ليبيا
في ليبيا اليوم لا يتصدر الواجهة سوى هيمنة خطاب الاقصاء والروح الثأرية والانتقامية، وسيطرة الخطاب الاعلامي والديني المُحرّض على العنف والعزل والاجتثات … أمام أغلبية تلوذ بالصمت والخوف والاذعان رغم رفض هذا المبدأ. لأن من يتصدرون المشهد السياسي والاعلامي لا شيء يعنيهم سوى انتزاع هذا العرش الشاغر مهما كلف الثمن … ولا أحد يجرؤ في ليبيا الجديدة على الدعوة للمصالحة ورأب الصدع، فسيكون متهماً بالخيانة والتواطؤ مع عناصر النظام السابق.
وحتى الجماعة التي نبذت العنف واستخدام السلاح ضد القذافي في مراجعاتها التاريخية المعروفة عادت وتراجعت مرة أخرى وصارت تعمد للجوء للعنف وللسلاح حتى في التعبير عن أرائها لفرضها بقوة السلاح ونذكر منهم على سبيل المثال الشيخ “سامي الساعدي” الذي يقول في كتابه المعنون بـ “دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس”: نرى حرمة الخروج واستخدام السلاح من أجل التغيير والإصلاح أو دفع الظلم والفساد لورود النهي الصريح بذلك , ولما يترتب عليه من سفك دماء المسلمين وغيرها من المفاسد .”
ولكن، نراه يضرب بهذه القيم والمباديء عرض الحائط عندما توافرت لديه القوة وقد ساهم بشكل مباشر من خلال ما يسمى بـ “تنسيقية العزل السياسي” باللجوء للعنف وحصار الوزارات ومقرات الدولة بالمدافع والاسلحة الثقيلة من أجل اقرار قانون العزل السياسي. الذي رأى فيه حلاً سحرياً لإجتثات الفساد.
ندرك بأن المسألة لا تتعدى كونها صراعاً على السلطة في ليبيا. ولكن هذا الاقتتال الشرس حول العرش بين بضع أفراد ممن يتصدرون المشهد السياسي، لن يفضي إلى شيء سوى دمار ليبيا خصوصاً وأن كل طرف ينتقم من الآخر عن طريق خلق مزيد من الفوضى ومزيد من الانفلات في الشارع وكل يجــنّد أنصاره لتدمير البلاد حتى يثبت للرأي العام فشل خصومه. وليبيا وحدها الضحية وهؤلاء الملايين من البسطاء والفقراء والمهجرين وحدهم من يدفعون ثمن صراع هذه الفئات القليلة المتناحرة.
فأغلب هؤلاء يتأبطون جوازات سفرهم الملونة واقاماتهم الدائمة في الدول الاوروبية والخليجية وشعارهم الوحيد فلتذهب “ليبيا” للجحيم المهم أن لا يحكمها الخصوم. لذلك فإن المصالحة شأن ليبي تعني الشعب وحده ولا تعني هذه النخبة المصطنعة اطلاقاً … ومن سيحصد ثمن المصالحة هم أفراد الشعب الليبي البسطاء ممن هجرت اسرهم وذويهم في اصقاع الدنيا. كما أنه لن يحصد نتائج الحرب والاقتتال الأبدي إلا الملايين من الشعب الذين سيكونون وقود هذه الحروب الشرسة. كما راح ضحيتها العراق والصومال وأفغانستان.
الحل لإنقاذ ليبيا هو المصالحة الوطنية الشاملة والتعجيل بقانون العدالة الانتقالية. فليبيا، تتجه بأن تكون عراق جديد وأهلها أحوج ما يكون لنبذ العنف والانتقام وسياسة تصفية وإقصاء الخصوم. لأن ليبيا لن تنهض من محنتها إلا بالجميع. فإن مسلسل العنف والانتقام لن يوّلد إلا العنف والدمار. انها بالفعل في حاجة لإطلاق مبادرة “المصالحة والحقيقة” ودون أي تدخل أو وصاية خارجية.
فعندما أطلق مانديلا مشروع “الحقيقة والمصالحة” لم يكن استعراضاً للقيم والمبادي الاخلاقية والانسانية التي يتحلى بها هذا الرجل بل أكاد أجزم بأنه أشد عنصرية وشوفينية من البيض الغزاة، ويشتعل في قلبه من الحقد والكراهية تجاههم ما هو كفيل بإحراق أفريقيا بأسرها. ولكن، الفرق بين مانديلا وبين قادتنا ونخبتنا و”مناضلينا” هو الولاء والانتماء للوطن. والرغبة في بناء وطنه ونهضته كانت أقوى من رغبته في الانتقام والتشفي، رغم هول ما فعله نظام التمييز العنصري في بلاده.
وحفظ الله ليبيا وأهلها.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً