المُرتعشون والمُرجفون والإنتهازيون لا يصنعون التاريخ أبداً ولا يمكنهم إتخاذ القرارات الصائبة والمصيرية والحاسمة فى حياة الشعوب وقيادة المجتمعات وخصوصاً إذا إنتصروا فى معركة ما ، فكم من حروب أهلية وصدامات إجتماعية حدثت فى الكثير من دول العالم عربية وغربية وعلى رأسها الحرب الأهلية التى دارت رحاها بين الشمال والجنوب فى أمريكا وأسبانيا وغيرها من دول العالم التى تعتبر اليوم من الدول المتقدمة إقتصادياً وحضارياً وسياسياً … وكم من أرواح زُهقت ومدن وقرى حُرقت وبنى تحتية دُمّرت وعشائر وقبائل هجّرت بفعل تلك الحروب الأهلية الطاحنة وكم من قبائل كانت تعيش فى الوطن آمنة مُستقرة فى وئام وحب مع أبناء عمومتها وما هى إلا شرارة الفتنة التى جعلتهم يتقاتلون فيما بينهم لسنوات حيث تم طردها بفعل ظلم وإستبداد الحُكّام وبمساعدة ودعم من تآمر معهم من أجل الهيمنة على الأرض ولنا فى طرد قبائل أولاد على عبرة لمن يعتبرالذين لا زالوا إلى يومنا هذا مشتتون فى الصحراء الشرقية المصرية لا تعليم ولا صحة ولا إقتصاد ولا مصادر عيش مُستقرة منذ أن ُطردوا من الوطن فى 1670م ، وقبيلة الفوائد بعدهم مباشرة الذين يقيمون اليوم على جانبى وادى الدلتا فى مصر ولا ننسى قبائل المحاميد الليبية وقبائل أخرى كانت تقطن فى غرب الوطن وجنوبه تم التآمر عليها وطردها فى العهد القرمانلى الظالم وهى متواجدة اليوم فى الجزائر وتونس والنيجر وتشاد وغيرها كل هذه القبائل والعائلات لم تخرج وتترك الوطن من أجل السياحة أو البحث عن العيش فالوطن خيراته كثيرة منذ القدم ولكن هُجّروا بفعل ُظلم الطغاة والحُكّام المُستبدين الغاصبين ..، حقاً إنه تاريخ يحمل بين ثناياه المآسى والذكريات الأليمة ، فعندنا ننفض الغبار من عليه لا لشئ إلا أنه وجب علينا التذكير به للعبرة فقط.
ولكن فى النهاية لا بد من شخصيات إعتبارية قوية عسكرية وإجتماعية ودينية أن تتدخل من أجل وضع قطار الشعب والأمة على السكة وأن يتم وضع الفئات المُتخاصمة والمُتحاربة فى عربات القطار دون تمييز بإشراف لجان الحق والعدل الى تفرض تطبيق العدالة والمصالحة ولو بالقوة على الجميع وفى إطار إحقاق الحق ورد المظالم ولا تترك الأمر لأهواء البعض وأمزجة هذا وذاك ، لأن من طبيعة البشر الإختلاف الذى يمكن تداركه ولكن إذا تُرك الأمر للزمن فقل على الوطن السلام فمن المستحيل أن تندمل الجراح وتتصافح الأيدى وتتصافى القلوب وقد يتحول الإختلاف مرة أخرى إلى خلاف دائم وحقد متبادل وكراهية وثارات يصعب السيطرة عليها وقد تشتعل الحرب فى أى وقت وتتحول إلى ما يُسمى الحرب الأهلية لأن النار خامدة وتحتاج من يوقد شراراتها وأبناء الحرام على أتم الإستعداد لأنهن يتحينون الفرصة لذلك.
أقول .. لقد كنا فى مهمة عاجلة يوم 17 /3/2011م بتكليف من جمعية عمر المختار بدرنه لتفقد أوضاع الجرحى الذين أستقبلوا للعلاج فى مصر حيث كان يتواجد الدكتور /عبدالحميد الزواوى على رأس طاقم طبى للمتابعة فى تلك الفترة وهى المهمة الرابعة منذ 17 فبراير 2011م وقد رجعنا فى اليوم الثانى مباشرة أى ليلة 18/3/2011م وكنا نشاهد فى الطريق سيارات ليبية بطريقة مُلفتة للنظر الأمر الذى جعلنا نستوقف إحدى السيارات ونسألهم .. فقالوا لقد سيطرت كتائب القذافى على أجدابيا وخرج منها أهلها حيث عاثوا فيها خراباً ودماراً ونهباً وغير ذلك ، المهم ونحن فى طريقنا وبأعلى هضبة السلوم لفت نظرنا القوات المسلحة المصرية وهى تنصب الخيام بأعداد كبيرة مع تواجد سيارات المياه وتجهيز إنارة وحركة غير طبيعية وقد تم وضع حاجز من الدبابات والمدرعات على طول الحدود الدولية ، فطلبت من السائق التوقف وسألت أحد الضباط فقال لى لدينا معلومات بأن هناك حركة نزوح من ليبيا ربما ستصل السلوم خلال الساعات القادمة .. وهنا أدركت أن نظام القذافى قد أعد العُدة لتهجير أهالى المنطقة الشرقية نحو الحدود الليبية المصرية ولكن الله تعالى كان حافظاً وداعماً لأهلنا فى برقه وخيّب ظن الدكتاتور الذى راهن على كتائبه الجبانة وزبانيته ، وما أود قوله أن القذافى لو نجح فى ذلك لكانت حركة نزوح وطرد وتهجير لم يسبق لها مثيل وسيعيد التاريخ نفسه مرة أخرى.
لا شك أن الثورات المُسلحة لها تداعيات إقتصادية وسياسية وإجتماعية وخصوصاً إذا قامت من أجل إسقاط الأنظمة الفاسدة المستبدة فقطع رأس الإستبداد لا يعنى النهاية فالذيول لها مآرب ومصالح حتى ولو نهبت تلك الذيول أموال شعوبها فإنها لن تهدأ وتهنأ لأنها تعلم جيداً أن هذه الأموال لا بد أن ترجع لأهلها عاجلاً أم آجلاً لأن الديّن لا يُنسى وورائه مطالب فما بالك بالأموال المنهوبة قصداً من الشعوب صاحبة الحق !! . ناهيك عن أن هذه الأنظمة قد طالت أعمارها إلى عقود من الزمن كما حدث فى ثورة فبراير التى أطاحت بنظام دام لأربعة عقود .. فلو عُدنا بالزمن إلى الوراء لوجدنا أن أكثر من ثلاثة عقود والنظام يُحاول إنتهاج سياسة الفُرقة بين فئات المجتمع الليبى وإثارة النزعات العرقية والقبلية والمناطقية بين فئات الشعب الليبى (فرّق تسد) نظرية طالما إستخدّمها حكّام الإستبداد المشكوك فى أصولهم وهوياتهم العرقية كما كان يُثار فى الإعلام والصحافة عن أصل الدكتاتور القذافى الذى يؤكد الكثيرون بأنه ليس ليبياً من أصول ليبية نقية، وربما يكون السبب الرئيسى فى تسلّطه وهيمنته على الشعب الليبى وهى عُقدة النقص لديه التى جعلته حاقداً على العائلات والقبائل الليبية العريقة الأصول والتاريخ . وهو ما إستخدمه مع بعض المدن الليبية التى حرضها على من حولها بحجة اللون والعرق وهو أمر لم نسمع عنه يوماً فى ليبيا فالكل كانوا يعيشون إخوة وجيران فى ود ووئام وعلاقات إنسانية طيبة.
لاشك أن الشعب الليبى بشرائحه المختلفة مرت عليه كوارث ونكبات لا تُحصى ولا تُعد منذ أن وطأت أقدام العثمانيين الذين حلوا بهذا الوطن تحت شعار الدين وحماية الإسلام ، فكم من عشائر وقبائل تم تهجيرُها قصراً بتدبير من أولئك الأتراك المستعمرين وكم من مشانق نصبّت لأبناء هذا الشعب على مر العصور وكم من حروب أهلية دُبّرت من قبل الحكام الظلمة الطغاة الذين لا ينتمون إلى عشائر وقبائل وعائلات شعبنا المغلوب على أمره . هنا لابد أن نرفع أصواتنا بالقول أن الشعب الليبى لم ولن ينسى ما تعرض له فى الماضى البعيد والقريب فمن عهود الأتراك المظلمة إلى الطليان المستعمرين ، وما هى إلا سنوات تنفسنا فيها الصعداء وبدأنا نجهّز لدولة الإستقلال حتى إنقض بعض من أولاد الحرام على الدولة الديمقراطية البرلمانية الدستورية حيث دمّرواً كل شئ إبتداءاً من القيم والأخلاق نهاية بتبذير وسرقة خيرات الوطن وتشويه سمعة المواطن الليبى أينما وجد وأستولوا على الحكم والثروة والسلطة وسخّروها لأهوائهم وأمزجتهم بقيادة الدكتاتور الأوحد القذافى فى ظل إستبدادية تسلطية أكلت الأخضر واليابس ، فهل بعد ثورة فبراير التى خلصتنا من ذلك النظام ؟؟ نرضى لأنفسنا العودة إلى الفُرقة والتسلّط مرة أخرى ، لذلك كان لزاماً على شعبنا أن يأخذ عبرة مما تعرض له، واليوم نحن أحوج إلى أن نتذكّر الماضى لكى نتدارك أمن مستقبلنا لأن حرباً أهلية أصبحت بين قاب قوسين أو أدنى.
المصالحة ليست بالأمر الصعب إذا قمنا يتصفية نفوسنا وأحسنا النوايا وإتجهنا إلى الله تعالى ونحن نردد (فمن عفا وأصلح فأجره على ألله) ، ولو أننا عُدنا إلى الماضى القريب حيث أقام الإستعمار الإيطالى معتقلات الإبادة سيئة السُمعة التى زج فيها الإستعمار قبائل برقه ومنها قبيلة العبيدات وقبائل المرابطين بالذات التى فقدت عشرات الآلاف من أبنائها وتعرّض أبناء هذه القبائل للقتل والشنق والتشريد كما تعرضت البعض من نسائها الحرائر إلى الإغتصاب وللأسف كان من يضع حبل المشانق فى أعناق الليبيين هم (ليبيون) ومن يشى بالمجاهدين هم (ليبيون) ومن يعتدى على الأعرض هم (ليبيون) ومن ينتهك الأعراض هم (ليبيون) فماذا تريدون أكثر من هذه البشاعة ؟؟ ، ولكن بمجرد أن خرجوا من تلك المعتقلات أو من كتب له الله النجاة فى ظل ظروف قاسية لا يتحملها البشر العادى ، كانت القلوب مليئة بفكرة الإنتقام والأخذ بالثأر ولكن أيها السادة لقد كان فى الوطن رجال إستطاعوا برجاحة عقولهم أن يلموا الشمل وأن يُضمّدوا الجراح بعبارة قيلت فى إجتماع قبلى كبير على مستوى الجبل الأخضر فى مدينة درنه (حتحات علىّ ما فات) بما يعنى فليطوى الماضى بمآسيه وآلامه وجروحه ونعد العدة للمستقبل والزمن كفيل بأن ننسى الآلام .. والحق إللى ما ياخذا الله باطل كما يُقال!!.
لماذا لا يوجد فى هذا الزمن مثل أولئك العقلاء وأهل الكلمة الطيبة ليتدخلوا ويُصالحوا بين الإخوة الذين تربطهم روابط الإنسانية والدم والجوار ، وأولاً وأخيراً رابطة الدين الإسلامى الذى يدعونا إلى المحبة وإقامة العدل وإحقاق الحق ورد المظالم ولكن دعانا كذلك إلى العفو والإصلاح ، وليعلم الجميع أن الدولة الليبية القادمة لن تُقام لها قائمة ولن يكون لها وجود بدون مُصالحة شاملة فى جميع أرجاء الوطن إلا بإطلاق العنان للمصالحة الشاملة وإلا ستُسيطّر علينا الأحقاد والكراهية فى ظل المؤامرات التى تُحاك ضدنا من الداخل والخارج وسنجد أنفسنا وقد رجعنا إلى المربع الأول، فإما دكتاتورية عسكرية مدعومة من الخارج ويكون فيها الساسة الجدد تُبعاً ودُماً فى أيدى دول خارجية أو حُروب أهلية على مستوى المدن الليبية التى ستكون عواقبها وخيمة على الكل وهناك سيندم الجميع على دولة ضيعوها بأيديهم وسيتباكون كما تباكى العرب عندما ضيعوا الأندلس ويقولون بأعلى أصواتهم يا ليتنا إستمعّنا للناصحين. فهل من مجيب؟
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
استاذنا الفاضل فتح اللة احترامى وتقديرى على الشجاعة الادبية فى وصف الواقع المرير