ليس ثمة ما يمنع أي شخصية ترى في نفسها الأهلية للتقدم إلى الشعب الليبي، وتعرض عليه خدماتها، من باب السنة اليوسفية: “اجعلني على خزائن الأرض” أو من باب قول الشاعر:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
ومن الطبيعي أن يعمل، عارض نفسه، ليلا نهارا على إقناع الشارع الليبي بجدوائية البرنامج الذي يقدمه، وبأهليته لتنفيذه في حال منح الثقة، ووضعت الأمانة في رقبته، وما أثقلها من أمانة!.
ولكن أن ترهن شخصيات بعينها الوطن، وتتجاوز المسارات الديمقراطية وتتلاعب بها، وتستميت من أجل خلق مسالك ومسارات أخرى تفصل على مقاسها، وتضرب بكل المبادئ، التي مكثت وقتا طويلا تتغنى بها في الخطابات، عرض الحائط، بما فيها تلك التي قالوا لنا، إنها خطوط حمراء.
يضع فريق من هذا الطرف رؤيته، ويضع الفريق المقابل رؤيته، ويلتقي الفريقان فيتنازل كلاهما للآخر طالما أنها تقدم رموز الطرفين، فإذا وضعت مبادرة ما .. أخرتهما، صرخا وانسحبا، لسبب واحد هو أن المبادرة الأقرب إلى مصالح الوطن، والأكثر قبولا محليا وإقليميا ودوليا، لا تمنح رموز هذين الفريقين مقاعد مؤقتة في مجالس عمرها شهور على أبعد تقدير.
إنها عبادة الذات التي يجب وفق قانونها أن تحرق ليبيا، ولا يصيب كرسي الزعيم مجرد قبس من دخانها، فحضرته لا يتحمل الأجواء الملوثة، بمجرد حديث التنازل عن الكرسي.
مبادرة فيرمونت
لن أطيل في آلية اختيار المجلس الرئاسي المقترحة في مبادرة فيرمونت، فباختصار؛ يقوم المجلس الأعلى للدولة باختيار عضو واحد، يكون عضواً بالمجلس الرئاسي، ويحال إليه مرشحان أو أكثر من مجلس النواب، ليختار المجلس الأعلى للدولة اثنين منهم، ليكونوا أعضاء بالمجلس الرئاسي. وهذه الآلية مفصلة في نهاية المطاف على مقاس الرئيسين ولربما يستفيد منها مخرج المبادرة والذي من المحتمل أن يكون رئيساً للحكومة.
الغريب في مبادرة فيرمونت، أن من مثّل المجلس الأعلى للدولة في هذه المبادرة قد محى، بجرة قلم، كل المكاسب الجوهرية في الاتفاق السياسي بل وأهمها. حيث ورد في مبادرة فيرمونت هذه الفقرة: “ثامناً: الاحكام الاضافية بالاتفاق السياسي: مع الالتزام بوجود المواد الخلافية كجزء من الاتفاق السياسي والالتزام بالاستمرار في الحوار السياسي لمعالجتها. يجرى تعديل دستوري بتضمين أبواب الاتفاق السياسي والأحكام الختامية وملاحقه، بعد التعديل لكل المسودة النهائية وفق ملحق تعديلات الاتفاق السياسي ويؤجل باب الأحكام الإضافية إلى حين انتهاء لجنتي الحوار من الوصول الي صيغ توافقية بخصوصه.”
بهذا النص لا يوجد ضمان لعدم عودة الاستبداد، خاصة وأن النص يقيم احتفالية توديعية وصلاة جنائزية للمادة 12 والمادة الثامنة والمادة الرابعة عشر، حيث أخرجت الأحكام الإضافية من الإعلان الدستوري ومن الاتفاق السياسي، وذلك إلى حين التوافق بشأنها في وقت لاحق، ولن يأتي الوقت اللاحق ما دامت السماوات والأرض.
لا شك أن الوطن بحاجة لأن تتنازل الأطراف من أجله، بشرط ألا يمهد هذا التنازل الطريق أمام عودة الاستبداد من بوابة العسكر الذي حكم البلاد لأربعة عقود، دمر فيها الإنسان الليبي ومقدرات وطنه فالاستبداد هو السبب الرئيسي لما نحن فيه من فوضى خلقها الإنسان، الذي تعلم وتربى وتثقف، على يد حكم العقود الأربعة، زرع وكان حصاده مرّاً.
ليس غريباً أن يؤيد مناصرو حكم العسكر من أعضاء مجلس النواب مبادرة فيرمونت ويرفضوا مبادرة سلامة، وذلك لأن الأولى تلغي المادة الثامنة، بينما يسلط مقترح سلامة الضوء على تعديل السلطة التنفيذية فحسب وتبقى باقي المواد كما هي.
مقترح سلامة
من الواضح أن مقترح سلامة اقتصر على تعديل السلطة التنفيذية فقط وأنه بذلك يكون قد حقق اختراقا كبيراً؛ وهو نزع اعتماد مُضْمر بالاتفاق السياسي من مجلس النواب الذي سارع بالموافقة على المقترح.
كما أن سلامة، في ذات الوقت، أوضح أن مسار تعديل الاتفاق السياسي لن يكون عثرة أمام مسارات أخرى، أي بمعنى إما أن تتفقوا على تعديل الإعلان الدستوري، طبقاً للمادة 12، أو هناك مسار آخر قد يبني على شرعية جديدة.
الغريب أن مجلس النواب سارع بالموافقة على مقترح سلامة، وتجاهل المادة الثامنة من أجل مسار يسمح لهم باختيار المجلس الرئاسي، والأغرب أن يعترض المجلس الأعلى للدولة بدلاً من البناء عليها، وإجراء تعديلات منطقية تحقق التوازن، فمقترح سلامة أسقط أغلب بنود الخلاف وركز على السلطة التنفيذية. وهكذا يترهن الوطن في دائرة مقفلة وكلاهما يعلم أنهما لن يستطيعا فعل أي شيء دون موافقة الأخر.
بذلك يكون سلامة قد وضع الجسمين الرئيسين أمام خيار تاريخي، إما أن تنهوا وجودكما من خلال خارطة طريق سريعة ترسمانها، وإما أن تحسم من خلال شرعية جديدة، بعيدة عن الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي، وكذلك أقام غسان سلامة الحجة عليهما، وحسم مسار الأمم المتحدة، لأنه في الغالب لن يتوصل المجلسين إلى اتفاق، ومن الضروري البحث عن طريق تحقق الهدف، الذي تحدث عنه سلامة بكل وضوح، ألا وهو إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية.
بولوج مسار الشرعية الجديدة سيكون الطرفان الرئيسيان؛ (مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة) قد فشلا في نهاية المطاف في التوصل إلى توافق بشأن تعديله، وحل محله خيار الشرعية الجديدة، لتحرير الوطن من قبضة المجلسان، وهو بالتأكيد سيكون مطلباً شعبياً.
لا أنطلق، فيما كتبت أعلاه، من أي أجندة شخصية، لا مع هذا ولا ضد ذاك، ولا مع حزب أو ضد أخر، ولكن انطلاقا من أجندة وطنية بحتة، ومن أجل البلد الذي يغرق وهؤلاء المعرقلون يتصدرون المشهد.
لا شرعية أمام شرعية الوطن
كنت ضمن القلائل الذين كتبوا عن أهمية بناء المخارج السياسية على أسس شرعية وقانونية، ومن هذا المنطلق أيدت الاتفاق السياسي، الذي أوجد المجلسين، وقد تبين للأسف أنهما أسيرا الفشل، مع كامل الاحترام لكل وطني شريف حريص على الوطن فيهما.
لم يكن العيب في الاتفاق السياسي ولا في الإعلان الدستوري ولكن في الأجندات الشخصية التي تقوم على منطق إما أن أحكمكم أو الطوفان من بعدي.
بعد ما سمعت حديث سلامة عن شرعية هذه الأجسام، وعن فلسفته في البحث عن حل، ولو كان ذلك من خلال إيجاد شرعية جديدة حسب فهمي وتحليلي، تنهي مسار ثورة 17 فبراير وإعلانها الدستوري، والاتفاق السياسي، بسبب هؤلاء المعرقلين الذين أسروا الوطن، ويصبح الخيار؛ إما هؤلاء المعرقلين وما يتسترون به من شرعيات وإما الوطن، فلا شك هنا أن الخيار سيكون الوطن.
أكرر دائما إن ثورة السابع عشر من فبراير حققت هدفها بإسقاط الاستبداد ممثلا في نظام معمر القذافي، وسلمت السلطة لمن كان ينبغي أن يكون بناء الوطن هدفهم، ولكنهم للأسف أصروا على استمرار الفشل، ولم يستطيعوا التحرر من أجنداتهم الشخصية، ورهنوا البلد لها.
ما زلت أقول إن الذين ضحوا بأرواحهم من أجل إزالة الاستبداد ما زالوا يملكون نفس القلوب ونفس الإيمان، وإن تخلى عنه بعضهم فسيأتي من بعدهم من يتحلى بنفس الشجاعة. إذا أصر عباد الذات على إعادة الاستبداد فإن موجة أخرى من الثورة ستزيلهم، قبل مشروعهم الاستبدادي.. ولله الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً