لا شك ان ما حدث منذ 17 فبراير ألفان وإحدى عشر وتواصل حتى الآن زلزال أوجد خلخلة في الدولة الليبية من جميع أركانها الإجتماعية والإقتصادية وقبل ذلك السياسية، والذي لم تتبين بوادر الخروج منه حتى الآن، وهو منعطف في تاريخ الأمة الليبية وإن قلل من شأنه البعض ونحب آخرون على اطلال الماضي الذي تجاوزه الزمن.
لن نتحدث عن نهاية الزعيم الفرد ولا عن التوريث ولا عن القبضة الحديدية ولا عن هدر الأموال والفساد في العهد السابق وفي زمن فبراير ولا عن قوات الناتو ولا عن التدخل الفرنسي فكل ذلك من الحديث المُعاد الذي يعرفه الجميع، ولكن ما يؤكد عُمق التغيير الإجتماعي المدني أن يتابع العالم الوقفة الإحتجاجية يوم 25 سبتمبر في ميدان الشهداء لفريقين متعارضين إحداهما مثل في رئيس مجلس رئاسي والآخر ناشط معارض في طريقة تناول القضية الليبية، وتعلوا هتافات وشعارات مغايرة، يحدث ذلك دون تعدي أو إصطدام لأي منهما بالأخر، هذا ما لم يحلم به الليبيون طوال أربعة عشرة قرنا من الزمان في جميع ربوع ليبيا بل وفي الكثير من الدول العربية، في حين أن من يتفوه بكلمة رافضة للكرامة بين جنبات ملابسه في ساحة الكيش سيجد نفسه في مكب القمامة جثة هامدة إن لم يمثل بها على روؤس الأشهاد.
مشكلة 17 فبراير أن الجميع مبتهج بقدومها (حتى العديد من رجالات العهد السابق الذين قاموا بمراجعات شفافة للعهد السابق؛ وللإطلاع يمكن تصفح موقع التجمع الوطني وموقع الموسيقار وعدة مواقع أخري لرجالات العهد السابق)، وحتى رجال الكرامة الذين أوصلتهم إلى القيادة العسكرية للدولة، ولكن المؤلم والمسئ للوضع الحالي أن الجميع يريد أن يكون التغيير تبعا لرغباته وأشواقه المكبوته، وتطلعاته التي كثيراً ما تتعارض مع توجه بناء الدولة.
وتتجلى هذه المشكلة في حوار تونس الحالي وليس كما يقال صياغة بنود المختلف عليها، فقد جند عقيلة صالح رئيس مجلس النواب (بعد تشتيته للمجلس) جند لجنة للمطالبة بأن يكون له شخصيا منصبا سياديا في الدولة وإن لم يتم ذلك فلا تضمين للإتفاق في الدستور ولن يتم تمرير الحكومة، وهكذا أصبحت ليبيا جميعها تحت إمرة رجل لم يتحصل في الإنتخابات سوى بضعة مئات من الأصوات، ولكنه إستطاع صناعة دمى ما يسمى بالثلث المعطل في البرلمان والمتمثل في كثلة السيادة الوطنية.
العائلات الكبيرة المشاركة زمن الإحتلال الإيطالي (منذ مئة عام) مثل العبار والسويحلي وسيف النصر إغتنمت الفرصة وعادت إلى المشهد بعد أن وضع القذافي عليها اللثام لأربعة عقود، وهي تريد أن تستثمر بعدها التاريخي دون مراعات كفاءة تبرر إنخراطها، وفي زمن حجب الأحزاب التي تُفرز قيادات وبرامج يتلمس المواطن صلاحها فيختارها، يكون هؤلاء الورثه الخيار الوحيد والمتوفر على الساحة.
بالمثل الفيدراليون نفضوا الغبار عن مشاريع الأقاليم والتقسيم خلال الربعينيات من القرن الماضي وأصبح ديدنهم قيام إقليم برقة الذي سيجلب لها هذا النظام أنهار اللبن والعسل، ورغم أن قيادة الجيش قد شتت معاقلهم في الشرق الليبي إلا أنهم وضعوا بصماتهم في الدستور ويجاهدون في سبيل تقسيم الحقائب الرئاسية والوزارية على أساس محاصصة الأقاليم والقبلية المقيته بمساعدة رئيس مجلس النواب ولجنته.
أما الأمازيغ فكانت رغباتهم المكبوته في التحرير من الإضطهاد الثقافي والديني وإنعدام مفهوم المواطنة، فهم من غرر بهم في دستور 1951 رغم وجود عضو لهم في لجنة الستين في ذلك الوقت وهو الأستاذ يحي المقدمي، إلا أنهم طردوا من المشهد الليبي لستة عقود، وحتى لا يلدغوا من جحر مرتين قاطعوا لجنة الستين الحالية.
الأكثر حدة ومرارة والأنكى شرا مستطيرا هم طبقة السياسيين من أعضاء البرلمان ومجلس الدولة، هؤلاء بنيت مصالحهم وإستمرارهم في المشهد الليبي على حساب الشعب الليبي، ففي الوقت الذي تشتد ميادين القتال ضراوة ويتضور المواطن جوعا من سوء الحال يتلدد هؤلاء برفاهية العيش لهم ولأسرهم وضمان مستقبلهم، بل أنهم يخلقون الأزمات لأجل مد فترة تواجدهم في المشهد الليبي، فمنذ أشهر كان الإقتراح أن تعقد الإنتخابات مع شهر فبراير 2018م ثم مددت إلى منتصف السنة وأخيرا في خطة المبعوث الأممي تم تمديد فترتهم لسنة كاملة، بالمثل يحدث في حوار تونس؛ فعوضا عن الدخول في صياغة تعديل أربعة نقاط محددة في الإتفاق، فُتح الإتفاق من جديد وغرق الجميع في التفاصيل مما ينذر بفشله او تعذر تطبقه.
وبذلك فإن إستمرار المزايا والمهايا والعطايا لهولاء الساسة يكون السبب المعطل لأي حل سياسي للأزمة الليبية، هؤلاء تجار النعوش ونادبات الرزايا تدغدغ عواطفهم إستمرار الإنقسام والتشطئ والقتل والتشردم بين أبناء الوطن الواحد من أجل بناء العمارات الشاهقة وتحويل الأرصدة إلى الخارج وقضاء أوقات ممتعة في أغادير و شرم الشيخ لهم ولعائلاتهم في حين ان المواطن يعجز عن شراء الدواء أو يقف في طوابير من أجل بضائع تافهة مثل البنزين أو أنابيب الغاز أو غرامات من السكر.
أما مجموعات العوام ممن غاضهم فساد السياسيين المقنن، أخذو زمام أمرهم للمشاركة في فساد غير مقنن من منطلق شيوع مفهوم الغنيمة فكان منهم مهربوا الوقود والأغنام والذهب والبضائع والتسهيلات المزورة وبيع الأثار وكتيبات العائلة والمشاريع الصورية وهي أعمال إجرامية فلتت من المحاسبة والعقاب بسبب ضعف أجهزة الدولة.
وخلاصة القول أنه لن تفلح السياسة والحوار في حل مشاكل الليبيين بشخوصها الحالية، وأن المطالبة بالإنتخابات في أقرب وقت هو الحل الناجع للتخلص من هذا الكرب العظيم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
يا دكتور ما حدث يوم 25 سبتمبر في ميدان الشهداء من جانب القطيط وحاشيته في هذا التوقيت بالذات لم يكن وقفة إحتجاجية بل كان عملية تحدي واضح لحكومة الوفاق ومحاولة لأفشال جهودها الحتيثة في تحقيق المصالحة الوطنية أساس قيام الدولة، لم تكن وفقة احتجاجية بقدر ما كانت ترويج لمشروع فرض رئيس للدولة من خارج ليبيا وحكومة بديلة موالية لتيار الأسلام السياسي كضربة إستباقية لتقويض مشروع الأنتخابات المقررة في 2018 والتي من المؤكد أنها ستخرج الأسلام السياسي خارج اللعبة. الغريب أن الدكتور وصف المحتجين على محاولة قطيط القفز على سلم السلطة أنهم يمثلوا رئيس المجلس الرئاسي بل على العكس تماما كانوا الأغلبية من أهل طرابلس الملونين نسمة الذين شككوا في الغموض الذي يحيط بشخصية القطيط وانتماءاته والتفاف تيار الأسلام السياسي حوله نفس التيار الذي اتى بحكومة الأنقاض منذ خريف 2014 واوصلتهم الى ما هم فيه من عازة ومعاناة، صحيح لم يحدث تعدي أو إصطدام الفضل لثوار طرابلس الأشاوس الذين خلصوا العاصمة من عبث الميليشيات الجهوية والمؤدلجة بعد أن فرضوا سيطرتهم على أمور طرابلس مثلهم مثل غيرهم في بقية المدن الليبية.