قبل سنة من الآن كتبت مقالا منشورا بموقع عين ليبيا بتاريخ 15 يناير 2016م، عن إمكانية الاختلاف مع مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني، وكنت صريحا في أن الشيخ ممن يمكن أن نختلف معه لا عليه، وما زلت أعتقد أن هذا الكلام في محله، ولا أمل من الثناء على ما للشيخ من كريم الأخلاق، وغزير العلم، والشجاعة فيما يراه حقا، والصدع به في وجه من أحب ومن كره.
وألمح دائما إلى رغبتي في ابتعاد الشيخ عن التجاذب السياسي بالمفهوم الحزبي اليومي، وأطمح إلى اليوم الذي يتعالى فوق الصراع، ويرد إليه كل الليبيين مستفتين مستنصحين.
وقد اطلعت أخيرا على ما نشر في الصفحة الرسمية للشيخ بشأن الاتفاق السياسي، في مقال بعنوان “اتفاقٌ سياسيّ فريقُه يسعى لِتَرْقيعه وحفترُ لا يَعْبأ به!”، وقد أفتى الشيخ فيه فتوى لمحت فيها شيئا من الخطورة؛ إذ يمكن للشباب المستعجلين أن يتخذوها ذريعة إلى إراقة دماء بعض المشاركين في اتفاق الصخيرات، مستندين إلى ما يفهم من كلام الشيخ عن الفساد في الأرض، ولا أظن هذا من مقصود الشيخ، ومن باب النصيحة التي أمرنا بها المصطفى صلى الله عليه وسلم “الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم” فإني أنصح أن يتم تدارك هذا الأمر حتى لا تزداد وتيرة القتل، ويستباح المزيد من دماء الأبرياء.
الفتوى رأي غير ملزم
ولعلي أباشر هنا بإثارة بعض المسائل التي يتداولها طلبة العلم، ويقر بعضها علماء قدامى ومعاصرون؛ فالمعروف عند علماء الشريعة الإسلامية بمختلف فروعها أن الفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام، وهي نتاج إعمال المفتي عقله في الواقع، وتنزيل النص الشرعي على هذا الواقع، ومن ثم الإخبار بما انتهى إليه نظر المفتي في النصوص الشرعية، بعد استيفاء جوانب التفكير في الحادثة المعروضة.
ومع كل هذا تكون فتواه رأيا من بين آراء أخرى في هذه النازلة، وإن كنت أرى أن مصاب ليبيا كبير في غياب هذه الآراء الأخرى بالنظر إلى ندرة العلماء أو عدم الجرأة على مناقشة قمة من أمثال الشيخ، حيث إن الحاجة إلى تعدد الأراء في النازلة غاية في الأهمية من باب تعدد النُّظّار وتعدد زوايا النظر.
ترك الشارع حرية العمل بالفتوى للمستفتي والعدول عنها إلى غيرها من فتاوى العلماء الآخرين، مراعاة لضمير الفرد الذي هو مناط التكليف، وهو الذي يتعلق به التقوى وهو المشار إليه في الحديث “…يا وابصة، استفت قلبك، والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك”. وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك”.
ومن التعريف السابق للفتوى، يتبين أنه لكي تتحقق بالحد الأدنى من الشروط يجب أن تتضمن عناصر أساسية:
- إدراك جوانب الواقعة موضوع الفتوى، وحيثياتها الدقيقة، اليقينية، وليس المتوهمة أو الظنية.
- تعلق النص الشرعي بهذه الحيثيات، وهو المعروف عند العلماء بتحقيق المناط.
- النظر في السياق العام للفتوى ولحال المستفتي.
وهناك الشرط الأهم، وهو هل الحادث المعروض مما تعلق به الفتوى، ويلزم بيان الحكم الشرعي فيه، أم هو من أمور الدنيا التي وكل الشارع أمرها إلى النظر المصلحي المحض، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم أدرى بشؤون دنياكم” كما في الحديث الصحيح.
بين الرئاسة والنبوة
يجرنا هذا إلى الحديث عن أنواع تصرفات الشارع صلى الله عليه وسلم، وأنا هنا لا آتي بشيء من عندي، وإنما أنقل كلام العلماء الذين ألفوا في الفروق بين تصرفاته صلى الله عليه وسلم، تبعا للحالة التي يتصرف، وقد تحدث طائفة من أهل العلم في ذلك، من أبرزهم من أعلام المالكية القرافي، والشاطبي، ومن غيرهم ابن تيمية والإمام أبو حنيفة وغيرهم.[1]
وحتى لا أطيل القول، أشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان في المدينة قائدا سياسيا، ومفتيا مشرعا، وقاضيا يحكم بين الناس، ونبيا مبلغا عن الله، ورجلا من المسلمين من قريش.
وتبعا لكل هذه الأحوال صدرت عنه صلى الله عليه وسلم أقوال، وأفعال وإشارات، فصلها العلماء، وبوبوها وصنفوها، وقد ألزموا المسلمين بما صدر عنه على جهة التبليغ عن الله، كأمر العبادات المخصوصة، باعتبارها أفعالا وأقوالا للعمل والاقتداء. ولكونه صلى الله عليه وسلم إنما يفتي بالوحي أو بما يفهمه من الوحي، اقترب مقام الفتيا من مقام التبليغ، فلزم اتباع فتواه في مثل أحكام الزواج والطلاق، ومع ذلك منها ما هو خاص، بوب له العلماء تحت قضايا الأعيان.
وما يصدر عنه باعتباره قاضيا يلزم المتقاضيين، وقد صرح صلى الله عليه وسلم أنه إنما يقضي بناء على ما يعرض أمامه من الحجج، وحكمه القضائي “لا يحل حراما ولا يحرم حلالا” كما في الحديث الصحيح.
وما يصدر عنه صلى الله عليه بوصفه رجلا من عامة الناس كاختيار لألوان ثيابه، ومأكله، ومشربه. فقد كره صلى الله عليه مآكل ولم ينه عنها، ورغب في أخرى ولم يأمر بها. وقريب من هذا أقواله الإرشادية المتعلقة ببعض الأمور الطبية؛ مثل نهيه عن لبس النعل قائما..إلخ
وما يهمنا هنا أكثر هو ما صدر عنه باعتباره قائدا سياسيا يدير أمور الدولة، والواضح الصريح في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف بهذه الصفة بناء على ما تقتضيه المصلحة، وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، فراجعوه في الأمور عند إقرارها، فرجع إلى بعض أقوالهم، ورفض بعضا من جهة الرأي لا من جهة الحكم الشرعي، وقد ألغوا العمل ببعض هذه الأعمال بعد وفاته لاعتقادهم أنه فعلها تدبيرا لا ديانة، كما فعل بعض العلماء نفس الأمر.
من أمثل ذلك:
أ. رجوعه عن رأيه بعد نقاش الصحابة:
- مسألة الخروج إلى قريش لما وصلوا إلى أحد في طريقهم إلى المدينة، فقد كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من الصحابة البقاء في المدينة، ولكنهم رضخوا لكثرة المطالبين بالخروج.
- منزل المسلمين يوم بدر، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالنزول في مكان معين، فجاءه الحباب بن المنذر رضي الله عنه فقال هل هذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه ولا نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال الحباب: إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى ننزل أدنى ماء من العدو، ثم نغور [نتلف] ما وراءه من المياه، فنشرب ولا يشربون. قال صلى الله عليه وسلم أشرت بالرأي.
- ومنها قراره بصلح غطفان عام الخندق، ثم عدوله عن ذلك بعد مشورة سعد بن معاذ رضي الله عنه.
- ومنها تحكيمه سعد بن معاذ في أمر بني قريظة.
ب. إلغاء بعض القرارات بعد موته صلى الله عليه وسلم:
- ألغى عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم في الغنائم، رغم وروده في القرآن الكريم معللا ذلك بأنه كان تشريعا أيام ضعف الإسلام.
- وألغى عمر رضي الله عنه أيضا اتفاقية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، وأجلاهم.
- وألغى قرار تقسيم الأراضي على الجند الفاتحين.
- وقد اعتبر مالك أن إعطاء المقاتل سلب القتيل يشترط له إذن الإمام وقال، كما في الموطأ: ” ما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر به إلا في حنين” في تقرير أن رسول الله فعله تقديرا للمصلحة وتشجيعا على القتال في حنين لا في غيرها، فليس حكما عاما يلزم العمل به دائما.
فهذه مسألة يطول الحديث فيها، ولا أعتقد أن هذه المقامات تخفى على أهل العلم، الراسخين فيه، ولكن ربما يقع بعض اللبس في تنزيل بعض الأحكام، والله تعالى أعلم.
يتبين مما سبق أن تسيير أمور السياسة والدول بالفتوى ليس من السنة النبوية، وأن رأي النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يرد في بعض هذه المسائل، ويرجع عنه هو صلى الله عليه وسلم إلى رأي ذوي الاختصاص والخبرة، وذوي الشأن.
لمَ لا نُمأسس الإفتاء؟
يدور في ذهني هذا السؤال دائما، وأعتقد أنه من المهم في هذه المرحلة من تاريخ إعادة تأسيس الدولة الليبية تحويل الفتوى إلى مؤسسة شرعية متكاملة الأركان، تستعين في كل القضايا بمتخصصين يعطون الرأي الفني، ويبقى على السادة العلماء بعد ذلك التحقق بشكل جماعي من تنزل النصوص الشرعية على الوقائع المعروضة مع مراعاة كل الأبعاد عند طرح الآراء وتنزيل النصوص.
وأعتقد أن لهذا دواعي كثيرة من أهمها:
- تشابك المعطيات الواقعية اليوم في المسألة الصغيرة، وتعدد زوايا النظر إليها،السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية والقانونية والدولية، وارتباطها بالكثير من القضايا، التي يصعب على الشخص الواحد الإلمام بها كلها، واستحضارها جميعا عند التفكير.
- توسع العلوم والمعارف التجريبية والإنسانية، مما لا بد أن يترك أثرا على الحكم الشرعي في المسائل الدينية المحضة، فكيف بتلك المتداخلة مع حياة الناس، ومعاشهم الدنيوي.
- الحاجة إلى مراعاة أحوال الناس في عيشهم وعلاقاتهم الاجتماعية، حتى لا يصدوا عن سبيل الله بسبب سوء فهم لكلام العلماء، تطبيقا لحديث النبي صلى الله عليه “خاطبوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله”.
إنني أعتقد أن مثل هذا القرار سيكفي الليبيين غائلة الكثير من اللغط، وسيحفظ للفتوى الشرعية مكانها، وسيجعل منها وسيلة لتجميع الناس على أمور دينهم ودنياهم، كما سيحولها إلى رافد حقيقي للإصلاح الاجتماعي.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
[1] – استعرض الدكتور سعدالدين العثماني أقوال العلماء بشأن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وناقشها في كتابه الدين والسياسية تميز لا فصل.
ويمكن مراجعة الكتاب على هذا الرابط.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
لستُ أهلاً للتقييم والتقويم ولكنه في نظري مقال موفق جداً، وأثار مسائل في غاية الأهمية والخطورة تحتاج إلى جيش من مؤسسات البحث والدراسة، وومع إحترامي لفضيلة المفتي وقدمه الراسخة في العلم غير أننا في هذا العصر الشديد التعقيد نحتاج أن نفكر بشكل جماعي مؤسسي كما أشرت سيد العرادي.
لعلّ الكاتب غابت عنه أشياء عند كتابة المقال أبرزها ماهو الفقه؟ الفقه هو معرفة أحكام تصرفات المكلفين فكل ماكان داخل هذه الدائرة فلايخرج عن أن يكون له حكم من الأحكام الخمسة (الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة) وإذا كان أي تصرف يلزمه حكم شرعي والحكم الشرعي يحدده المفتي فلا يقال حينئذ لايتدخل المفتي في السياسة لأن أي تصرف في السياسة هو داخل في الدائرة الأوسع التي يتحكم فيها الفقه دائرة جميع التصرفات للمكلفين، فعلى هذا لايجوز للسياسي صاحب الخبرة أن يتصرف فيما يراه الصحيح قبل أن يعرف حكم الشرع فيه وحكم الشرع لايحدده كما هو مسطر في كتب الأصول إلا المتأهل للإفتاء المستكمل لأدواته، وهو كذلك لايحكم في واقعة إلا بمعرفة أمرين: معرفة للأدلة ومعرفة بالواقعة، وتجرؤه على الحكم دون استيفاء الشرطين هلاك له وعاقبته وخيمة ولاعذر له عندها، أما إن أدار فتواه بشِقّي الرحا (أدلة الحكم-ومعرفة بالواقعة) فهو الداخل في قوله -صلى الله عليه وسلم- “إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر” وتبرأ ذمة الإنسان بتقليده، أما المتسوّر على ذلك وإن بلغ مابلغ من الخبرة والتجربة في ذلك التخصص فلايجوز عليه التصرف على وفق مايراه هو المصلحة لأنه فاقد لأحد ركني الفتوى -المعرفة بالأدلة-ولا إخال الكاتب يظن من يدافع عن الاتفاق والموقعين له قد أدركوا من العلم بالكتاب والسنة مابلغه الفاروق عمر رضي الله عنه فيقيس تصرفهم على وفقه، ثم ماذكره من أن الفتوى رأيٌ غير ملزم لا أفهم له محلّا من الكلام، فما ضرّٙ كونها رأيا غير ملزم في كونها هي الحكم الشرعي أمام المكلف، فلو أفتى المفتي المكلّفٙ بأن امرأته طالق بائنة منه نعم لايستطيع التفرقة بينهما لأنها وظيفة القضاء لكن هذا لا يجعل بقاءه معها في سقف واحد حلالا عليه!
وأخيرا ليت الكاتب يطّلع على ما ذُكر في توجيه حديث استفت قلبك!.
على المفتي أن يتحول من الإجتهاد الفردي الناقص إلى الإجتهاد الجماعي المؤسسي الأقرب للكمال البشري فما خاب من أستاذ الخالق و شاور المخلوقين … و لكن للأسف الفردية في ليبيا طآمة كبرى عمت كل شئ و سيطر على كل مؤسسة ليبية تقريبا فرد لا يري الناس إلا ما يراه هو فنحن نعيش تحت رحمة أفراد مهما بلغ مقامهم فهم بشر و هم للأسف يظنون أن بإمكانهم توجيه مؤسساتهم بلا حوكمة و لا إستشارات و لا تفويض و إحترام للتخصصات !!!! نحن نعيش في ليبيا تحت سيطرة : برلمان عقيلة و مجلس دولة السويحلي و جيش حفتر و مصرف الكبير و دار إفتاء الشيخ الغرياني !!!!!! و المصيبة أن الأخير له كل الحقوق و ليس لنا أن نطالب بشئ فهو إن أصاب فله أجران و إن أخطأ و مهما حصل بسبب خطأه من كوارث على البلاد و العباد فله أجر !!!! و هذا بالتأكيد ليس بصحيح ذلك لأن الفتوى لابد أن تراعي المآلات و الواقع و سيتحمل كل مفتي مسئولية كاملة عن كل ما تؤدي إليه فتواه طالما لم يبذل كل وسع و لا شك أن بذل أوسع يشمل توسيع دائرة الإجتهاد ليصير إجتهادا جماعيا متكاملا يصدر الفتاوى و يتحمل مسئوليتها كاملة و حينها يمكن أن نقول أن هذا إجتهاد صوابه مأجور و خطؤه مغفور .
أتنم مهتمون بمراجعات فكريه، وغيركم يخوض معارك الجهاد دفاعا عن الدين و الارض والعرض.
تيار صوان والعرادي ، هم علي خطى جماعة الديلمي في العراق ، أقحموا أنفسهم في صفقات سياسه مع إيران وأمريكا بدون أي فائده ، و أضعفوا خط الجهاد السني ( ليس داعش ) ، و أدخلوا نفسهم في مبارزه خاسره أمام قمم علميه من أهل الفتوى وعلماء المسلمين