سيقف القادمون إلى مدينة مصراتة يوما، ينظرون إلى البناء الجديد، ولن يعرفوا أنه كان هنا ذات يوم مسجد، شاهد على حياة بأكملها، لن يشعروا بتلك الفجوة التي ستظل في قلوبنا، نحن الذين عشنا بين جنباته، بين أذانه وصلواته، بين رائحة السجاد العتيقة وصوت المطر وهو يلامس سقفه.
للكثيرين كأنما هو نزع عنيف لقلب نابض، تتهاوى ذكريات عمر بسقوط كل طوبة، حين يقضى على معلم كان يوما ما حكاية متجذرة في اعماقنا.
ذاك المسجد، لم يكن جدرانا صماء، بل كان نبضا لهذه المدينة، وملذا لكل روح عرفته او سجدت بين جنباته.
كيف لمرورنا العابر -وإن لم نطأ باقدامنا عتباته- الا يحمل في طياته لمحات من ذكرى، ونحن نشاهد من يدخل ويخرج من تلك البوابة المحاذية للطريق العام، من ساجد وراكع، كل يحمل همه وامله؟
سيعلن الاذان -بعد فترة التجديد- لكن الصوت سيكون اجنبيا عن روح “جامع العايب”، فهو اكثر من مئذنة تلامس السماء، واكثر من جدران شهدت تسبيحات لا تنفك. كان شاهدا على طفولة بريئة، وعلى خطى صغيرة تسرع الى الصلاة، وعلى ضحكات متوارية بعد التراويح.
هناك، في زواياه الدافئة، كان اهل الحي يلتقون في رمضان، تضاء ارواحهم قبل المصابيح، وفي ساحاته تحكى حكايات الاجيال، كبارا وصغارا، كل يحمل ذكرياته ويترك بصمته. هذا المسجد، لم يكن فقط مكانا للتعبد، بل مرآة عكست حياة وافرة بكل شيء.
واليوم، لغرض التوسع العمراني، سيزال! يا لها من كلمة تثقل الكاهل وتدمي القلب! “سيزال!” كانما تمحى سنوات طويلة انغرست فيها ارواحنا في جدرانه. نعم، سيبنى مكانه مسجد جديد، ربما اوسع واكثر حداثة، لكن هل تعاد الذكريات؟ هل تسترجع تلك اللحظات التي تعيد للروح دفأها؟
لست في وارد معارضة التوسع، ولا ارفض التحديث، لكن من يخبر قلوبنا ان تتقبل هذا الغياب؟ من يقنع الذاكرة ان تسكن بعدما كانت كل زاوية من زواياه قصة حياة؟
وها نحن اليوم كمن يرثي صديقا فقده، او قطعة من روحه غابت. رحم الله مسجدنا الذي سيبقى محفورا فينا، حتى وإن غاب عن اعيننا -بشكل القديم- فلن تمحى ذكرياته، ولن يبهت اثره، لان الجدران تزال، لكن الارواح التي سكنتها لا تزال شاهدة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً