المتتبع لسياسة الدول المغاربية لعقود طويلة يستنتج أنها لم تتغير رغم الربيع الديموقراطي الكبير الذي اقتلع حكومات وهدد أخرى وقام بإعادة برمجة هياكل داخلية للبعض الأخر.
الدول المغاربية مارد نائم؛ بجغرافية قارة، وموارد متنوعة غير محدودة وكثلة سكانية تتجاوز مئة مليون نسمة، متجانسة ثقافيا ودينيا ولها تاريخ نضالي مشترك.
حكومات الدول المغاربية مفلسة إلى حد كبير، فليبيا أضرمت فيها نار الحروب لغياب الدور المغاربي الفاعل، وتونس لم تخرج من النهج البورقيبي الفرنكفوني حتى بعد 14 يناير، ولم نسلم من ابتزاز المستثمرين الخليجيين في قطاعي السياحة والبنوك، والجزائر حبيسة هياكل ودستور عقيم صمم للبقاء على حزب الجبهة الوطنية ورموزه ولا علاقة لها بالخارج، أما المغرب فرغم محاولاته الكثيرة لرأب الصدع فعلاقاتها مع دول أفريقيا أفضل بكثير من علاقتها بجاراتها المغاربية، وهؤلاء جميعاً في عداء أبدي لحكومات مصر وتدخلاتها السافرة ولكم ليسوا في توازن معها، وأخيراً موريتانيا التي تعتبر دولة ملاصقة جغرافيا ولكن لا دور لها مغاربي، بل أن ارتباطها بالخليج أكبر من ارتباطها بالجزائر أو المغرب.
حرب طرابلس كانت دفاعا عن كل الدول المغاربية؛ لأن الدول المعادية للديموقراطية تعلم أن نجاح الدمقرطة في الدول المغاربية، يعني تقويض لحكومات الاستبداد في مصر والخليج، ولذا لعبت الإمارات دورا أساسياً في حبك المؤامرات في كل الدول المغاربية، ففي تونس تم تفتيت حزب نداء تونس إلى خمسين حزبا جهويا عروبي أو فرنكفوني قزمي (سمسار) بتمويل إماراتي من أجل توزيع الناخبين جهويا وأيديولوجيا ومنع حصول النهضة على الأغلبية، رغم ذلك تحصل حزب النهضة على 52 مقعد وقلب تونس (حزب الثورة المضادة) على 38 مقعد من مجموع 217 مقاعد مجلس النواب.
هذا التفكيك الحزبي تعرضت له وثيقتين قيل أنهما وجدا في قاعدة الوطية الليبية بعد تحريرها من القوات الأجنبية الموالية لحفتر وهو ما عرف بوثائق الوطيةـ ولكن للأسف عدد قليل من وسائل الإعلام تعرض لمخططات هذه الوثائق.
الوثيقة الأولى عبارة عن تقرير من مديرة تقصي الجريمة بوزارة الدفاع الأمريكية بخصوص ليبيا وتونس التي ورد فيها مقابلة مع دحلان الذي يحث الإدارة الأمريكية على مساعدة قوات حفتر على قصف مواقع في طرابلس، وأن الجانب الإماراتي العسكري أعلم السلطات الأمريكية في أعلى المستويات بكل تفاصيل الحرب.
أما بخصوص تونس فإن دحلان يقول أننا مولنا الكثير من السياسيين التونسيين المتعاونين مع الإمارات، وأن المبالغ التي صرفت عليهم تتجاوز المصروفات على مصر وليبيا مجتمعة، وأنهم مغرمين بأموالنا (They enjoyed our mony). ويقول هؤلاء السياسيين الأغبياء لو نجحوا في الانتخابات النيابية الماضية لجعلوا دخولنا لطرابلس أمراً يسيراً، ومن ثم التحكم في كل الدولة الليبية، وهناك تفاصيل عتد الأمريكان والإماراتيين بأسماء المتعامل معهم والمبالغ المستلمة زمن الانتخابات التونسية.
الوثيقة الثانية نُشِرت في بعض الصحف المعنية بالشأن الليبي، والتي توضح بالتفصيل التقرير السابق، وتؤكد أن العمل على إجهاض ثورة تونس ليس بجديد ولكن من أولويات الإمارات منذ 2012م.
فكما استطاعت تجميع أحزاب قزمية في ليبيا تحت قيادة محمود جبريل من أجل منع فوز الأحزاب الإسلامية، قامت في تونس بتفتيت حزب نداء تونس الوطني إلى أحزاب قزمية صغيرة يمكن شرائها عرفت بأحزاب السمسارة منها الدستوري الحر وحزب التيار الديموقراطي وحزب حركة الشعب وحزب مشروع تونس، وغيرهم الكثير وأسند الأمر إلى قيادات موالية جداً للإمارات مثل رئيسة الحزب الدستوري الحر وبعض رجال الأعمال المقربين لبن علي للتصعيد الإعلامي.
وثيقة الوطية توضح برنامج لقلب النظام في تونس من خلال الخطوات الآتية:
- مع ضمان دخول حفتر إلى طرابلس ووقوع ليبيا تحت الهيمنة الإماراتية والفرنسية، يتم استجلاب مليشيات ومرتزقة من سوريا مثل فيلق بدر وزينبيون وعناصر أخرى موالية للإمارات والمرصد السوري إلى قاعدة الوطية.
- يتم تدريب المرتزقة على القيام بالعمليات الإرهابية وتخطيط لأماكن تنفيذها في تونس مع تحديد للشخصيات التونسية التي سيتم اغتيالها.
- الدفع بهؤلاء المرتزقة عبر الحدود للقيام باغتيالات لشخصيات تونسية مهمة، ونشر الرعب في الكثير من مواقع تونس.
- تقوم الأحزاب الموالية للأمارات والتُبع الفرنكفونيين بشن هجوم إعلامي على رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية والمطالبة باستقالته لأنه ضعيف ولا يستطيع ضبط الأمن في البلاد وذلك بمساعدة القنوات التابعة لدول الاستبداد.
- تتصاعد الأصوات بإقالة الرئيس وحل البرلمان التونسي من أحزاب “السمسارة”.
- يكون الجيش بقيادة وزير الدفاع جاهزا لإعلان الأحكام العرفية والتحفظ على رئيس الجمهورية وسجن رئيس مجلس النواب وقيادات النهضة والوزراء المعارضين.
- يتولى الجيش الحكم كما في مصر والبدء في تعيين حكومة تابعة للرئيس، والبقية معروفة.
مع سقوط الوطية في يد الوفاق وهزيمة حفتر في الغرب الليبي واعتراف الجميع بفشل المخطط في ليبيا، أوعزت الإمارات إلى السمسارة بشن حملة إعلامية على حزب النهضة، وحاولت تحريك الشارع التونسي يوم 14 يونيو ليقول كلمته في إسقاط البرلمان ولكن لم يستجيب للنداء سواء عدد قليل من فئة الدفع المسبق. وهكذا استطاعت بركان الغضب إفشال مخطط الثورة المضادة في تونس وتعريتها.
في الجزائر الأمر أكثر تعقيدا، وخاصة أن الحرص القديم لم يتغير وذهاب الشعب إلى انتخابات بوسائل قديمة قد لا ينتج واقع جديد، والمخاض مازال مستمر.
في المغرب حاولت الإمارات جر الحكومة المغربية لتأييد حفتر ومصر، فرفضت الحكومة، وما كان منها إلا استخراج أحزاب قزمية للعب دور التشويش مثل حزب الطليعة والحزب الوطني الاتحادي الذي لم يسمع بهما أحد، واستمر الضخ الإعلامي إلى أن ساءت العلاقات بين الدولتين.
دور الدول المغاربية مستمرا في ضعفه، فما قامت به تركيا يمكن أن تقوم به الجزائر والمغرب وتونس، إلا أن السياسة المغاربية كانت حياداً سلبيا بكل مساويه؛ ففي حين أن السفير التركي لم يغادر طرابلس في الحرب أو السلام، والشركات التركية لم تتوقف وحتى المعارك على بعد أميال قليلة منها، والرئيس التركي لم يتوقف عن مناصرة الوفاق سياسياً قبل أن يكون عسكرياً، وقطع مسالك الاتصال مع حفتر من أول وهله ووصفه بالمتمرد والانقلابي، ورفض عقيلة ونهجه القبلي، بالمقابل لا زالت تونس والجزائر تتحدثان عن اجتماع القبائل ودعوة القبليين للمصالحة واستدراج بعضهم للزيارة، وكأن التاريخ توقف عند 1918م، ولم يتوقفا عن زيارة ودعوة حفتر وعقيلة للتشاور والتنسيق معهم، وهم يعترفون بالحكومة الشرعية وبقرارات الأمم المتحدة، وعلمهم بنهج مصر المنحاز.
الدور المغربي ربما كان الأفضل، فهي التي احتضنت اجتماعات الصخيرات وهو الاتفاق الذي لا بديل له حتى الآن، وهي التي تحفظت على اتفاق القاهرة، وهي التي لم تتماهى من المعتدين، بل وصل بها الأمر إلى تأزم العلاقات مع الإمارات بسبب موقفها من ليبيا.
الدول المغاربية كان يمكن لها أن تكون فاعلة بظهير أمريكي، لتبعد دول الاستبداد الخليجية من المشهد، وتكون بادرة سياسية وعسكرية لبدء التعاون المغاربي بقوة، ولكن ترددت وتأخرت كثيراً، مما جعل الأتراك أكثر فاعلية وأكثر حظوة، وفي النوائب يعرف الرفيق من الصديق، ولا شك الحظوة للرفيق قبل الصديق.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً