تُواصل الجزائر إغلاق حدودها البرية، وتعليق التراخيص الخاصة بالمرور البري إلى جارتها تونس، بالرغم من ظهور بوادر تناقص مرض كورونا أو اندثاره أكثر من مرّة.
وفي تقرير نشره في موقع “رصيف 22″، تساءل المذيع والصحفي الميداني الجزائري كريم قندولي، عن جدوى إبقاء الحدود مغلقةً مع حالة الاستقرار الحالية للوضع الصحي في البلاد، خاصةً أن الحدود بالنسبة إلى الجزائريين والتونسيين شريان حياة، من خلال ممارسة التجارة وحركة التوريد والتصدير، كما أنها متنفس لسكان الشريط الحدودي الجزائري التونسي.
مخاوف أمنية
يُشير التقرير إلى أنه منذ تولّي الرئيس عبد المجيد تبون، رئاسة الجزائر، لم يتوقف عن التأكيد على قوة العلاقات الجزائرية التونسية، وأن الجزائر لن ترضى بتعرض تونس لأي ضغوط، إذ توالت الزيارات على أعلى مستوى بين قيادات البلدين، لكن في المقابل بقي قرار إغلاق الحدود البرية سائر المفعول بشكل غير مفهوم.
وعن السبب الرئيسي لهذا الإغلاق، نقل المحامي والحقوقي الجزائري المقيم في تونس جمال خذيري قوله: “أعتقد أن القرار سياسي وأمني بالدرجة الأولى، لأن مُخرجات الوضع السياسي في تونس بعد 25 يوليو وقرارات الرئيس قيس سعيّد لم تكن مرضيةً، بل لنقل لم تلقَ قبولاً من النظام الجزائري، وهو ما عدّه شخصياً السبب الرئيس في استمرار إغلاق الحدود البرية بين البلدين”.
شبح التطبيع مع إسرائيل
يُوضح التقرير أنه من أكثر الأسباب الحديثة التي ساهمت في عدم فتح الحدود التونسية الجزائرية، مخاوف الجزائر من تطبيع مُحتمل للعلاقات بين تونس وتل أبيب، إذ تحدّثت تقارير إعلامية “إسرائيلية” حديثة، عن وجود محادثات بين الطرفين مؤخراً، وذلك في ظل رغبة الاحتلال الإسرائيلي في توسيع دائرة نفوذه في المنطقة، وتطويق الجزائر التي تُعدّ الخطر المغاربي الأكبر عليها حالياً.
وأكد محمد رابح، الصحافي ومدير موقع سبق برس الجزائري، لموقع “رصيف22″، أن “مخاوف الجزائر من تطبيع تونس مع إسرائيل باتت حقيقيةً بعد تأكيد اتحاد الشغل التونسي لهذه الأخبار، وهو أكبر منظمة مهنية واجتماعية لها ثقل كبير في المنظومة التونسية، وهذا ما يمكن أن يشوّش على العلاقات الممتازة والتاريخية بين البلدين الجارين، والتي تنعم بدعم الجزائر الدائم لتونس، وكذا بزيارات الرئيسين ورؤساء الحكومة ووزراء الخارجية التي لم تنقطع منذ بداية حكم الرئيسين”.
ويتابع محمد رابح: “في السابق ومع بداية حملته الانتخابية، تحدّث الرئيس التونسي قيس سعيّد، عن التطبيع، رافضاً إياه، وأي تغيير في الموقف الآن يُعدّ خيانةً، لأن الجزائر ترفض جملةً وتفصيلاً وجود الكيان الصهيوني بالقرب منها على الجهة الشرقية، خاصةً في ظل وجوده غرباً بعد التطبيع المغربي(…). وجود علاقة تطبيع يُعدّ أمراً يثير حفيظة الجزائر بلا شك، ويدفع أيضاً لإبقاء الحدود مغلقةً، مع محاولات سياسية حثيثة من الجزائر مع أصدقائها في تونس لوقف هذا الخيار المضر بمصالح البلدين”.
وإلى جانب ملف التطبيع الذي يأخذ سياقاً غير مرغوب فيه للجارة الشرقية، يرى بعض المراقبين أن الجزائر تريد دعماً أكبر لمواقفها، يضاهي الدعم الذي تحظى به تونس في قضايا عدة.
والمقصود هنا هو قضية الصحراء الغربية، إذ شكل تغيير موقف إسبانيا التي دعمت مقترح الحكم الذاتي المغربي للمنطقة المتنازع عليها حسب لوائح الأمم المتحدة، صدمةً لا ترغب الجزائر في تكرارها مع جيرانها، فبالرغم من ميل موقفها إلى الجانب الجزائري، إلا أن تونس تلقى ضغوطاً مغربيةً كبيرةً وإغراءات لجرّها إلى الدفاع عن مقترحها، وهو ما يثير قلق السلطة الجزائرية، التي تريد موقفاً واضحاً في توقيت حساس وإستراتيجي، بمساندة صريحة لما تراه قضيةً عادلةً، يبدد سحابة الشكوك التي خلّفتها بعض تصريحات كبار المسؤولين التونسيين، وفي مقدمتهم الرئيس السابق منصف المرزوقي حول ملف الصحراء الغربية، الذي يقف حسب قوله ضد توحيد المغرب العربي الكبير.
تعافي اقتصاد الجزائر بعد الإغلاق
لم يؤثر الإغلاق الحدودي الحاصل حالياً بين الجزائر وتونس، على الطرف الجزائري، بما أن كل المؤشرات تشير إلى ازدهار الاقتصاد المحلي، فالقرار منع شبكات التهريب عبر الحدود من نقل الوقود والمواد الغذائية المدعومة، مثل الزيت والسكر والقمح، ما ساعد في وفرتها واستقرار أسعارها في الأسواق الوطنية، وحال دون تكبد خسائر مهمة في ميزان المدفوعات الوطني، بالنظر إلى خروج النقد الأجنبي خارج التراب الوطني بطرق غير شرعية، إذ إن معظم المواد الغذائية المدعومة مستوردة بالعملة الصعبة.
وهذا ما ذهب إليه النائب البرلماني رابح جدو، في تصريح لصحيفة “الحصاد اليومي” في هذا الصدد، إذ قال إن “إغلاق الحدود عاد بالفائدة على الخزينة الجزائرية، لا سيما ما تعلق باحتياطي الصرف من العملة الصعبة، التي بقيت في الجزائر خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى المبالغ غير المصرّح بها، والتي يأخذها السائح لتغطية احتياجاته اليومية في المدن التونسية”.
معاناة سكان الحدود
“لا أخفي عليك أن إغلاق الحدود طوال هذه الفترة أمر أثّر كثيراً على الحركة بين الجارتين، وهناك العديد من العائلات البسيطة كانت تسترزق من هناك وهناك”.
هكذا يفتتح رمزي عبيدي كلامه، خلال حديثه لموقع “رصيف22″، وهو القاطن في منطقة الونزة الجزائرية الواقعة بمحاذاة التراب التونسي، ويضيف: “شباب وتجار بسطاء، كانوا يدخلون التراب التونسي، ويقومون باقتناء بعض المستلزمات غير الموجودة في الجزائر، مثلاً شراء الفخار أو الألبسة والأحذية المستعملة، على أمل تحقيق دراهم معدودة، وكل هذا توقف فجأةً ووجدوا أنفسهم من دون مصدر رزق”.
ويختم رمزي:” قبل وباء كورونا، المطاعم والمقاهي والفنادق على مستوى الشريط الحدودي، كانت في حالة نشطة وجيدة، نظراً إلى الحركة التي تشهدها مراكز العبور، من أصحاب الشاحنات والخواص، وغيرهم وحتى من القادمين من ولايات أخرى للعلاج أو السفر إلى أوروبا، عبر مطار قرطاج الدولي. أما الآن، فيمكن القول إن البعض منهم أفلسوا، وأتمنى أن تعيد السلطات النظر في قرار إعادة فتح الحدود البرية، خاصةً أن علاقتنا طيبة ومتينة جداً مع الأشقاء في تونس”.
السفر جواً لمن استطاع إليه سبيلاً
التداعيات الإنسانية لإغلاق الحدود البرية، تتجاوز منطق الربح والخسارة في المعاملات التجارية بين سكان المناطق الحدودية.
آية كودجي، من أصول جزائرية، تقطن في تونس العاصمة، تروي لموقع “رصيف22″، قصة معاناتها من هذا القرار وتقول:”أسكن في العاصمة التونسية، بينما كل عائلتي من جدتي وجدي وأختي وعائلتها، وكل أعمامي وعماتي وخالاتي في الجزائر في مدينة تيرزي وزو”.
وتضيف آية، أنها أضاعت العديد من المناسبات العائلية السعيدة والحزينة قائلةً: توفي عمي، ورزقت العائلة بمولود جديد، وتزوجت ابنة عمي، وتركت ابنة أختي في عمر ثلاث سنوات وهي الآن تبلغ ست سنوات وبالكاد تعرفني، ونجحت ابنة أختي الأخرى في امتحان البكالوريا، كل هذا ولم أستطع العودة إلى الجزائر، لأن الحدود البرية والجوية ظلت مغلقةً”.
وتتابع آية: “عشنا طوال هذه المدة على أعصابنا نواجه الشائعات، وفُتحت أخيراً الحدود الجوية، ولم يكن ذلك كافياً في ظل برمجة رحلتين، حتى أن والدتي لم تجد تذكرةً لولا تدخلات من معارفنا داخل شركة الخطوط الجوية الجزائرية(…). وبالرغم من زيادة عدد الرحلات الجوية، بقي الطلب مرتفعاً، وهو ما جعل التذاكر تحلق في السماء قبل الطائرات، بسعرها الذي فاق مبلغ شراء تذكرة إلى تركيا التي تدوم 3 ساعات، وإلى ايطاليا وغيرها من البلدان الأوروبية، فلا يُعقل دفع 400 يورو من أجل 50 دقيقةً في الطائرة. هذا استغلال لحاجة الناس ومشاعرهم”.
هذا واتُّخذت بعض الإجراءات الاستثنائية لتخفيف العبء على المقيمين بين البلدين الذين تعطلت مصالحهم لاستمرار إغلاق الحدود البرية، بفتح معبر أم الطبول الحدودي في مدينة القالة في أقصى شمال شرق الجزائر، شريطة إظهار جواز السفر، أو بطاقة التسجيل القنصلي، أو أي وثيقة تثبت الجنسية.
غير أن مزدوجي الجنسية يجبَرون على التنقل إلى المعبر الحدودي طالب العربي، الواقع في ولاية واد سوف جنوب شرق الجزائر.
وتصف آية دكوجي، هذا القرار بتعسف آخر للإدارة في حق مزدوجي الجنسية مثلها: “قرارات سلطات البلدين غير مدروسة، ولم تأخذ في عين الاعتبار حاملي الجنسيتين الجزائرية والتونسية، الساكنين في العاصمة والسواحل التونسية، فمسافة التنقل أبعد من المعتاد بـ400 كيلومتر كاملة، ونضطر إلى عبور طريق الصحراء التونسية القاحلة، عبر منطقة توزر الجنوبية، علماً أن هذه الطرق مخيفة وموحشة وخطرة على المسافرين. لقد طال صبرنا، ولم نعد نتحمل فراق الأحبة، في انتظار سماع خبر مفرح يوم 5 يوليو (عيد الاستقلال في الجزائر)”.
تونس الأكثر تضرراً من الإغلاق؟
يرى الخبراء أن تونس وحدها من تتحمل عبء إغلاق الحدود، فمهنيو السياحة في تونس، يرون أن الجزائريين طوق نجاة الموسم الصيفي، نظراً إلى أهمية السوق الجزائرية التي ينتفع منها كافة العاملين في القطاع السياحي. في هذا الشأن يصف علي ياحي، مدير وكالة بيشا للسياحة والأسفار، أن قرار إغلاق الحدود البرية التونسية، بالضارة النافعة بالنسبة إلى الجزائر، وفي حديثه إلى رصيف22، يؤكد أن إغلاق الحدود ساهم بشكل كبير في اكتشاف الجزائريين للمقومات السياحية في بلادهم، إذ يقول: “الجانب الإيجابي أن الجزائري اكتشف بلاده وقد انبهر السياح بالمناظر الخلابة الموجودة في البلاد، لأنه لم يكن يزورها من قبل بسبب تفضيله السفر إلى تونس، لكن إغلاق الحدود منح فرصةً لقرابة ثلاثة ملايين سائح جزائري، لرؤية المعالم الأثرية والسياحية الكثيرة في الجزائر. الأسف الوحيد الذي أحمله، أن الطلب على السياحة الداخلية تم استغلاله بنحو 50 في المئة فقط، بسبب سوء التنظيم تارةً وغلاء الأسعار في الفنادق تارةً أخرى، وهي نقطة سلبية وجبت معالجتها في ظل الظروف القائمة وإغلاق الحدود البرية مع الجارة الشرقية”.
ومنذ الاستقلال، شكّلت الجزائر درعاً يدافع عن تونس طوال ستة عقود، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من خلال المساعدات المالية والهبات والودائع، وآخرها منح الجزائر للبنك المركزي التونسي وديعةً بقيمة 150 مليون دولار مع بداية الجائحة، كضمانات للحصول على قروض لتجاوز الأزمة الاقتصادية، بالإضافة إلى تقاسم المعدات الطبية والأدوية، وجرعات لقاح كوفيد19، وشاحنات أوكسجين في عز أزمة كورونا، كما تمنح الجزائر تونس الغاز والكهرباء بأسعار تفضيلية، وساهمت في تحقيقها مكسباً اقتصادياً كبيراً، بعد الاتفاق الجزائري الإيطالي الذي يقضي بمضاعفة تزويد الغاز لصالح إيطاليا، في ظل الأزمة العالمية في مجال الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما سيحقق لتونس أرباحاً مضاعفةً، بالنظر إلى أهمية أنبوب “ترانسماد” من الجزائر إلى إيطاليا عبر أراضيها.
اترك تعليقاً