نحن ضد الأدلجة والانتصار للأفكار لقناعتنا أن الأفكار والنظريات البشرية فيها ما هو ايجابي وما هو سلبي، فلا يوجد فكر أو نظرية ايجابية أو سلبية على إطلاقها. كما أن الفكرة والنظرية، لا بل الكلمة تختلف باختلاف الزمان والمكان والتكوين النفسي والديني والعلمي والأخلاقي للشخص المتناول لها.
نحن صراحةً لا نؤمن بإضافة النتاج البشري للأديان عموماً كالاقتصاد الإسلامي أو المسيحي، ألا أنه لم يكن لدينا خيار في ذلك؛ لأجل تقريب الفكرة للقراء.
ماذا تعني العلمانية؟ هل كانت الترجمة كانت خاطئة؟ فهي إذن الدهرية أو اللا دنينه. لن ندخل في هذا النقاش والتأصيل لمصطلح العلمانية فهذا نقاش لا ينتهي؛ لأن جميع المصطلحات المرتبطة بالعلوم الإنسانية لا يوجد لها تعريف أو مفهوم مطلق محدد بدقة ومحاولة ذلك خطأ شنيع. فالمصطلح قد يختلف معناه من بقعة لبقعة ومن زمان لزمان ومن إنسان لإنسان ومن فكر لفكر ….الخ.
ما ينبغي فعله من ناحية المنهجية العلمية أن نركز على الأشياء المشتركة بين مختلف هذه المفاهيم والتعريفات، ونحن في هذا الصدد نكاد نتفق أن العلمانية (أو سمها ما شئت) فكرة ترتبط بموضوعين أساسيين، هما: الدولة والدين.
غير دقيق ما يشيعه العديد من الإسلاميين من أن ظروف نشأة الفكر العلماني في البيئة المسيحية يختلف عن البيئة الإسلامية؛ لأنه (كما يدعون) لا يوجد في الإسلام سلطة دينية تحكم كالكنيسة كما حدث في القرون الوسطى في أوروبا وكان أحد أهم أسباب ظهور الفكر العلماني.
هذا الكلام غير دقيق. فحتى المسيحية لا يوجد بها كنيسة تحكم. لا بل أن الإشكال الذي وقع في أوروبا لم يكن مع الكنيسة، بل كان مع مركز البابا. وهو ما سنتاوله ضمن الجزء الثاني من هذا المقال.
لم يكن للمؤسسة الدينية المسيحية في بداية نشأتها أي عداء تجاه السلطة الحاكمة ، فالأصل لديهم (أحبوا مبغضيكم). بل أن إنجيلهم المقدس وتعليمات الأب الروحي لهم بولص تأمرهم بإطاعة السلطة الزمنية (الحاكمة) أياً كانت قراراتها وتوجهاتها باعتبارها قدر الله وتدبيره ، وعدم إطاعة المسيحي قدر الله تخرجه عن مقتضيات الإيمان (الكفر).
فيقول الأب الروحي لهم بولص :”….. ليخضع كل واحد للسلطات المنصّبة، فإنه لا سلطان إلا من الله والسلطات الكائنة إنما رتبها الله، فمن يقاوم السلطان، إذاً فإنما يقاوم ترتيب الله…..”. ((الكتاب المقدس، رسالته لأهل رومية، تحت عنوان الواجب نحو السلطة، ص 280 ، ط 3 ، بيروت 198))
فقد عاشت الكنيسة المسيحية مهادنة لأباطرة الإمبراطورية، بل حظيت بالاعتراف الرسمي من قبل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين.
لاحقاً تحالفت مؤسسة الاكلروس (تعادل المشايخ في الفقه الإسلامي) مع السلطة الإمبراطورية الحاكمة ، وفي ظل هذه الحماية تزايدت الطبقة الاكلروسية وتزايد عدد الكنائس ، ونجحت طبقة الاكلروس في تنظيم نفسها والتجمع تحت بناء هيكلي إداري محكم التنظيم والتراتبية بشكل يصعب الخروج عليه.
وباعتماد الإمبراطور ثيودوس المسيحية كدين رسمي للدولة حظي القساوسة بحظوة لدى الأباطرة وأصبحت لهم امتيازات كالتي كانت للكهان إبان العهد الوثني.
انهارت الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس على يد ضربات القبائل الجرمانية ، وقد حمل العديد المؤسسة الاكلروسية السبب في ذلك الانهيار.
ومن هذا السرد التاريخي يتضح عدم دقة ما يدعيه الإسلاميون من أن الدين المسيحي يؤسس للدولة الدينية بإسناده الحكم للكنيسة أو رجال الدين عموماً. فكيف إذاً أصبحت الكنيسة بطبقتها الاكلروسية هي الحاكم الفعلي لأوروبا وبشكل غير تاريخها في العصور اللاحقة؟
نقطة التحول الكبرى هو فقيه وفيلسوف المسيحية القديس اوغستين ومؤلفه مدينة الرب The City of God، فلم يرض اوجستين عن الدعوات التي كانت تنتشر مدعيةً أن سبب انهيار الإمبراطورية الرومانية كان راجعاً لتبنيها الديانة المسحية وتخليها عن الديانة الوثنية.
إن كتاب مدينة الرب كان نقطة تحول خطيرة وتفسير معوج وخاطئ لنصوص دينية ولأغراض طبقة دينية . فهذا الكتاب هو الذي سوف يحرف مسار السلطة الدينية المسيحية متمثلة في طبقة الاكلروس وسيطرتهم على السلطة الزمنية للأباطرة . مع أن أوجستين لم يدمج صراحة بين السلطة الروحية (الدينية) والسلطة الزمنية (الدولة)، إلا انه أكد سمو الأولى على الثانية ووجوب أن تخضع الثانية للأولى لا سيما في مجال الأخلاق.
ولم يجد من أتى بعد أوجستين كثير عناء في الذهاب بعيدا بحيث تطبق السلطة الروحية (الدينية) على السلطة الزمنية (الدولة) وتجمعهما معاً ، وذلك استناداً إلى المسوغات الفلسفية للقديس أوجستين والتي ضرب بها كل الأصول الراسخة للمسيحية.
استند أوجستين إلى نظرية (مثله) لأفلاطون ، ولنظرية القانون الطبيعي عند المدرسة الرواقية . ففلسفة أفلاطون ميزت بين الحقيقة والظاهر وبين الرأي والمعرفة. فما نشاهده مثلاً هو ظل للواقع ولكن المثالية المحضة أو المعرفة الحقيقية موجودة في العقل.
ربط القديس أوجستين كل ذلك بما ورد بالكتاب المقدس وبالواقع السياسي الناشئ بعد انهيار روما. ورأى أن العالم انقسم من بعد خطيئة آدم وطرده إلى مدينتين: أحداهما متحالفة مع الله (عالم المثل) وتمثله الكنيسة، والأخرى متحالفة مع الشيطان (عالم الظل) وتمثله الدولة، ورأى أن سبب انهيار الإمبراطورية الرومانية هو خضوع الكنيسة لسلطة الدولة، في حين انه يجب أن تخضع السلطة الزمنية (الدولة) للسلطة الأخلاقية للسلطة الدينية (الكنيسة).
بعد أوجستين جاء البابا جريفورا العظيم وتناول بشكل أوسع مفهوم ((السلطة خادمة الرب)) المستوحى من نصوص القديس بولص والمستوعب في فكرة اوجستين (الإدخال عنوة) في دين المسيح طبقاً لآية (أجبروهم).
وهكذا بدى الحزب الكنسي يبني أصوله من وجهة نظر فقهية فلسفية تمخضت عنها رؤى و نظريات في الفكر السياسي تدعم وتحرض الحزب الكنسي الاكلروسي على أن يستولي ويسيطر على السلطة الزمنية (الدولة) سيطرة مطلقة تحقيقاً لغايات تتعلق بالحياة الآخرة.
الطريف أن سبب سقوط الإمبراطورية لم يكن اعتناقها الديانة المسيحية وفقا لزوزيموس، ولا بسبب عدم إذعانها لسلطة الكنيسة وفقاً للتيار الاوجستيني، بل كان نتيجة حتمية في انهيار الامبراطوريات او الدول عموماً، وهو الاستبداد والفساد المستشري والانهيار الاقتصادي وزيادة الفوارق الطبقية غيرها من الأسباب الدنيوية والتي أضحت معروفة للقاصي والداني.
والآن ألا يشعر العديد منكم بتشابه كبير بين بعض مراحل ما ذكر آنفا وما يحدث في بلدنا ومنطقتنا من قبل الإسلاميين.
في الجزء الثاني من المقال سنبين ما حدث لاحقاً، وهل كان الصدام فعلاً مع الكنيسة أم مع البابا وإسقاطات ذلك مع ماضينا الإسلامي وواقعه. ولا ندعي هنا أننا بصدد إيراد أحداث تاريخية جديدة، بل رؤية جديدة، ندعي فيها أننا نحاول الاستفادة من الماضي لتجاوز إشكاليات حاضرنا.
أهم المراجع:
The City of God: by Saint Augustine, translated by Marcus Dods
– عندما يتغير العالم . جيمس بيكر.
– تاريخ الفكر السياسي . جورج سباين.
– كتاب تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية. جيبون. – تاريخ الفكر السياسي من المدينة الدولة إلى الدولة القومية. جان جاك شوفالييه.
– مفهوم العلمانية . د – التيجاني محمد الأمين.
– أوروبا العصور الوسطى . د – سعيد عاشور.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً