في الجزء الأول – من هذا المقال – حاولت تسليط بعض الضوء على معنى العدالة الاجتماعية والإجابة على السؤال: ما هي أهم مبادئ عدالتنا الاجتماعية؟ وفي الجزء الثاني حاولت التركيز على أهم واجبات الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي الجزء الثالث حاولت الإجابة على السؤال المتعلق بـ: متى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية؟ أما في هذا الجزء – الرابع والأخير- فسأحاول الإشارة إلى:
أهم الفروق بين عدالتنا الاجتماعية والمدارس الاقتصادية الأخرى؟
بمعنى: كيف يمكن تصنيف عدالتنا الاجتماعية:
هل هي “اشتراكية؟” أم “رأسمالية؟” أم ماذا؟
هناك من الإخوة والسادة من يدعو إلى الاشتراكية بسبب الخلط بينها وبين العدالة الاجتماعية من جهة، ومناداتها بمحاربة الظلم من جهة أخرى.
والحقيقة أن الاشتراكية تتفق مع عدالتنا الاجتماعية في بعض المواقف مثل محاربة الظلم، ولكن تختلف معها في مواضع عديدة أخرى وخصوصا في تصنيف المجتمع على أسس الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وهيمنة الدولة على الاقتصاد والثقافة.
يُعرف الأستاذ صبري أبو المجد (صحفي ومؤرخ مصري، 1920- 1991) في كتابه “البناء الاشتراكي” الاشتراكية كالآتي: “… إن الخطوط الرئيسية لاشتراكيتنا العربية هي أن نؤمن بحق الدولة الصريح والواضح في تملك وسائل الإنتاج وتأميم مصادر الثروة الطبيعية والإشراف الكامل والشامل على الاقتصاد والثقافة…”29
من هذا يمكن القول إنه بالرغم من اتفاق الاشتراكية مع بعض الأهداف الإسلامية إلا أنه لا يمكن وصف العدالة الاجتماعية في الإسلام بالاشتراكية وذلك لأنها تجيز الكثير من الوسائل التي لا تتفق مع الإسلام، وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمود الصواف (أحد علماء العراق والدعاة الإسلاميين، 1915-1992) في كتابه “لا اشتراكية في الإسلام”: “… إن الإسلام قد وافق اليهودية في بعض قواعدها وأصولها ولكنه خالفها في جميع مسائلها. فهل يجوز لنا أن نطلق على الإسلام وحاشاه (الإسلام اليهودي) لأنه وافق اليهودية في بعض مبادئها؟ وكذلك في النصرانية، فإن الإسلام قد وافقها في كثير من أخلاقها ومبادئها، فهل يجوز لنا أن نطلق عليه وحاشاه (الإسلام النصراني) لمجرد أن مبادئ منه وافقت مبادىء النصرانية؟ فكما لا يجوز هذا ولا ذاك, فلا يجوز بحال أن نطلق الاشتراكية على الإسلام، ونقول (الإسلام الاشتراكي) لمجرد موافقته لبعض مبادئ أو ملامح الاشتراكية”.30
هذا كما تختلف العدالة الاجتماعية في الإسلام عن الرأسمالية في الغاية والهدف وكثير من الوسائل والأدوات، فالرأسمالية على سبيل المثال تطلق الحرية للأفراد بلا حدود، هذا كما تركت حرية التملك شبه مطلقة، ولا تضع إلا قيودا خفيفة على طرائق الكسب، ولا تضع حدا معينا للثروات المكتسبة، فهي تبيح الربا وتعتبره نوع من أنواع التجارة الناجحة! وعليه بالرغم من أنها وافقت الإسلام في بعض المواضع إلا أنها خالفته في مواضع أخرى، فلا يجوز، بحال من الأحوال، أن نطلق الرأسمالية على الإسلام، ونقول (الإسلام الرأسمالي) لمجرد موافقته لبعض مبادئها أو أهدافها.
الخلاصة
في الختام يبقى السؤال:
ماذا يمكن أن نسمي عدالتنا الاجتماعية؟
بمعنى آخر، إذا كان لا ينبغي أن نطلق مصطلح الاشتراكية ولا الرأسمالية على عدالتنا الاجتماعية،
فما هي إذا؟ وكيف يمكن تصنيفها؟
في اعتقادي أنه من المناسب أن نطلق عليها مصطلح:
“التعاونية”، أي “الاقتصاد التعاوني”.
فهي من جهة تشترك مع الرأسمالية في بعض الأمور، مثل ممارسة التجارة وحق العمل، ولكن تختلف معها في أمور أخرى عديدة،
ومن جهة تتفق مع الاشتراكية في بعض الأهداف، كمحاربة الفقر وتحقيق المساواة، ولكن تختلف معها في الكثير من الأساليب والأهداف الأخرى.
وعليه يمكن القول، إن عدالتنا الاجتماعية ليست اشتراكية ولا رأسمالية، وإنما “تعاونية”، ولعل من أهم ما يعني ذلك أن:
* اقتصادنا “تعاوني”، يقوم على شعار: “وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”،
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه لا يلغي الملكية الخاصة، ولا يسمح بأن تضع الدولة يدها على موارد وأدوات العمل المُكتسبة، فالملكيه الفردية مشروعة ومصونة ومقدسة، ويجوز الاستشهاد في سبيلها كما ورد في الحديث الشريف: “… من مات دون ماله فهو شهيد…”، ولا يحق للدولة انتزاعها إلا لضرورة تقتضيها المصلحة العامة ووفقا لإجراءات قانونية وبتعويض فوري وعادل.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يعتبر الملكية العامة أصل ولا يجب التفريط فيها، وتشمل كل المصادر الطبيعية للطاقة والثروة، ويجب اعتبار كل مال لا مَالك له هو مُلك عام.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يقوم على أسس محاربة الاحتكار، والغش، والاستغلال، والإسراف، والفساد.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يقوم على أساس “التكامل” وليس “الصراع” الطبقي.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يقوم على أساس محاربة الفقر – لكن ليس بمعاقبة الأغنياء وإنما بمساعدة الفقراء.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يرتكز على مبدأ: “لا ضرر ولا ضرار”، بمعنى ألا يبتدئ المواطن غيره بالضرر، ولا يُقابل الضرر بضرر مثله.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه ينادي بمبدأ: “من أين لك هذا”، وبمحاسبة المسؤولين على كل أنواع الفساد في المجتمع.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يُقدس العمل ويجعله عبادة وفريضة ويضعه في مرتبة الجهاد،
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يُشجع الاعتماد على النفس، ويجعل صاحب الشيء أحق بالقيام به.
* واقتصادنا “تعاوني” لأنه يضمن المساواة في الحاجات الضرورية للمواطنين، ويُلزم الدولة بتوفير الحد الأدنى من اليسر والرفاة لكل أفراد المجتمع.
* واقتصادنا “تعاوني”، لأنه يشجع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص لتحقيق أهداف استراتيجية ووطنية.
بناء على هذا يمكن القول أن تحقيق العدالة الاجتماعية ضرورة لبناء وتقدم الدول والمجتمعات وذلك:
أولاً، لأنها واجب إسلامي.
ثانيا، لأنها ضرورة لتحقيق رغبات الناس المادية والمعنوية.
وثالثاً، لأنها ركن أساسي في الحياة السياسية والاجتماعية والنفسية.
ختاما، أدعو الله أن أكون قد وفقت في المساهمة في هذا الموضوع، وما هذا المقال إلا مجرد دعوة صادقة لفتح باب الحوار بين كل المهتمين في هذا الشأن، من اشتراكيين ورأسماليين وإسلاميين، للتوافق حول هذه القضية الضرورية والمصيرية لبناء دولة حديثة ومتقدمة يحلم بها الجميع.
أخيرا لا تنسوا، يا أحباب، أن هذا مجرد اجتهاد،
اعتقد أنه صواب،
فمن أتى باجتهاد أحسن منه قبلناه،
ومن أتى باجتهاد يختلف عنه احترمناه.
والله المســتعـان.
هوامش
د. صبرى أبو المجد (1963) “البناء الاشتراكي” الدار القومية للنشر. القاهرة.29
الشيخ مححمود الصواف (1979) “لا اشتراكية في الإسلام” القاهرة، مصر. دار الأنصار. ص 930
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً