من عدالتنا الاجتماعية (3 – 4)

من عدالتنا الاجتماعية (3 – 4)

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

ثالثا: متى تتدخل الدولة؟

في الجزء الأول من هذا المقال حاولت تسليط بعض الضوء على معنى العدالة الاجتماعية من منظور إسلامي، والإجابة على السؤال: ماهي أهم مبادى العدالة الاجتماعية؟.

وفي الجزء الثاني حاولت التركيز على أهم واجبات الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، أما في هذا الجزء فساحاول الإجابة على السؤال:

متى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع؟

لعل من أهم الحالات والظروف التي يمكن للدولة أن تتدخل فيها لتحقيق العدالة الاجتماعية فيى المجتمع هي الآتي:

(1) حالة نزع الملكية الخاصه للمصلحة العامة

بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل في نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع، فبالرغم من أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويضع لها ضوابط وحدود، إلا أنه يجيز نزعها للضرورة والمصلحة العامة وفقا لإجراءات قانونية واضحة وبعد دفع تعويض عادل وفوري.

(2) حالة تحقيق “التكامل” الطبقي

بمعنى طالما أن المجتمع الإسلامي يقوم على أساس “التكامل” وليس “الصراع” الطبقي، عليه من واجب الدولة أن تتدخل من أجل القضاء  على شرور ومخاطر الغنى في المجتمع، ولكي يتحقق ذلك يجب ألا يكون بإفقار الغني وتجريده من أمواله وثروته، وإنما بمراقبة ما يملك من ثروة حتى لا يستطيع إلحاق الضرر والأذى بغيره، بمعنى آخر، لكي يتحقق التكامل لا بد على الدولة أن تكون عادلة وداعمة لكل المواطنيين بما فيهم الأغنياء، فقد قال رسولنا (ص) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، “إن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة (أي الزكاة) تؤخد من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم”.22

(3) حالة تأميم المصالح العامة فى المجتمع

بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تحقيق تأميم المصالح الضرورية والعامة في المجتمع وجعلها ملكا عام للشعب، والمقصود بالتأميم هنا باختصار شديد هو استرداد الملكية للمصلحة العامة وجعلها في متناول الجميع، فقد حرص الإسلام على أن يكون كل ما هو ضروري لحياة الناس ملكية عامة، وفي هذا الصدد يقول رسولنا (ص):

“المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلاء، والنار”.23

وعليه يجب الاتفاق بأن سياسات التأميم في الإسلام جائزة ولكن ليست مطلقة، بمعنى آخر، يمكن للدولة ممارسة سياسات التأميم عندما تقتضي الضرورة العامة ذلك فقط.

فقد ورد أن رسول الله (ص) أقطع بلال بن الحارث أرضا فاحتجرها، فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له:

“إن رسول الله (ص) لم يقطعك لتحتجره عن الناس،

إنما أقطعك لتعمل،

فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي”.

وفي رواية يحيى بن آّدم:

أن عمر قال لبلال: يا بلال،

إنك أستقطعت رسول الله (ص) أرضا فقطعها لك.

وأنت لا تطيق ما في يديك،

فقال بلال: … أجل،

قال عمر فأنظر ما قويت عليه منها فأمسكه،

وما لم تطق فأدفعه إلينا نقسمه بين المسلمين،

فقال بلال: لا أفعل، هذا شيء أقطعنيه رسول الله،

قال عمر: والله لتفعلن،

وأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين…”24

(4) حالة منع “الاحتكار” و”الربا” و”الاستغلال” و”الرشوى” و”الإسراف” و”الغش” في المجتمع

بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل القضاء على “الاحتكار” و”الربا” و”الاستغلال” و”الرشوى” و”الإسراف” و”الغش” في المجتمع، وعليه يجب على الدولة أن تمنع احتكار الثروة وتكديس الأموال في أيدي طبقة صغيرة في المجتمع.

ففي الربا يقول تعالى: “أحل الله البيع وحرم الربا”،25

وفي الاستغلال يقول تعالى: “ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل…”26

وفي الإسراف يقول تعالى: “وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”،27 والإسراف يعني الاستهلاك الزائد عن الإشباع.

وفي الرشوة يقول (ص): “الراشي والمرتشي في النار”،

وفي الغش يقول (ص): “من غشنا ليس منا”،

وفي الاحتكار يقول رسولنا (ص) “لا يحتكر إلا خاطىء”،

ويقول: “من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ الله منه”.

من كل هذا وغيره الكثير، يمكن استخلاص “حق الدولة” في التدخل في الشؤون الاقتصادية لمنع الضرر والفساد وتحقيق المصلحة العامة.

(5) حالة توفير “حدّ الغناء” في المجتمع

بمعنى يمكن للدولة أن تتدخل من أجل تأمين السلع الضرورية والحيوية وتولي بيعها للشعب حتى لا تترك الفقير تحت رحمة الغني، فقد اتفق جُل علماء المسلمين على أن الإسلام يكفل للمواطن الفقير في الدولة حدا أدنى من الدخل يسميه فقهاء الإسلام بـ: “حدّ الغناء”  تمييزا له عن  “حد الكفاف“.

وفي هذا الصدد وتعليقا على حديث رسولنا (ص) “المسلم أخو المسلم  لا يظلمه ولا يسلمه”، يقول ابن حزم في كتابه المحلى، في باب الزكاة: “… إن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره… فإن قُتل الجائع، فعلى قاتله القصاص، وإن قُتل المانع فعليه لعنة الله!!…

ويستطرد ابن حزم قائلا:… وفُرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين ما يكفي ذلك، للقيام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يحميهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة”،28

والحقيقة أن هناك أحداث وآراء كثيرة تؤكد حق الدولة في التدخل وأخذ أموال الأغنياء من أجل خدمة مصالح عامة وضرورية، فقد اتفق علماء الأمة أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد فريضة الزكاة يحق للدولة فرض ضرائب من أجل تحقيق الأهداف العامة، فقد أفتى الإمام مالك، على سبيل المثال، بأنه يجب على الناس فداء أسراهم وأن استغرق ذلك أموالهم.

في الجزء الرابع (والأخير) من هذا المقال سوف احاول الإجابة على السؤال التالي:

ما هي أهم الفروق بين عدالتنا الاجتماعية والمدارس الاقتصادية الأخرى؟

يتبع ..

والله المستعان.

هوامش

رواه الخمسة22

الشيخ مححمود الصواف (1979)  “لا أشتراكية فى الاسلام.” القاهره, مصر.  دار الانصار. ص9 23

 الخراج ليحى بن اّذم, نقلا عن كتاب . دز محسن عبد المجيد, ص96 24

 سورة البقرة: اّية 27525

سورة البقرة: اّية  188 26

سورة الاعراف: اّية 31 27

عماد الدين خليل (1979) “مقال فى العدل الاجتماعى” دار الرسالة. بيروت.  الطبعة الاولى. ص 78 28

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

ا.د. محمد بالروين

أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

اترك تعليقاً