من المسلمات التي لا خلاف عليها فى الإسلام أن العدل هو أحد صفات الله عز وجل، وقد أمر به فى كل شؤون الحياة وجعله فريضة إسلامية ولا تستقيم الحياة إلا به، يقول تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تدكرون.”1 ويقول تعالى في حديث قدسي: “يا عبادي: أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا…”2
والإسلام ينظر لقضية العدل نظرة شمولية، فمن جهة يأمرنا الله عز وجل بالعدل ويشترط أن يكون حسنا، ومن جهة أخرى، يُحرم علينا نقيضه (أي الظلم)، فهل بعد هذا يُعقل أن الإسلام قد تجاهل المسألة الاقتصادية في المجتمع؟
الإجابة بكل بساطة: بالطبع لا.
وحيث أنني، فى هذا المقال المختصر، لا يمكن شرح جميع أبعاد العدل في الإسلام، فسوف يقتصر حديثي على جانب واحد من جوانب العدل في حياتنا السياسية المعاصرة، هذا الجانب هو ما سأطلق عليه اصطلاحا مفهوم: “العدالة الاجتماعية“.
وما أقصده بالعدالة الاجتماعية هو فهم الاقتصاد السياسي في ضوء مقاصد الشريعة لتحقيق مصالح البلاد والعباد، وحماية الكرامة الإنسانية في المجتمع، وإتاحة الفرص لكل مواطن قادر لممارسة نشاطاته الاقتصادية بكل حرية ووفقا لقوانين الدولة وأهدافها.
بمعنى أن تحقيق العدالة الاجتماعية، في أي مجتمع، هي من أهم القضايا الجديرة بالاهتمام والتعامل معها بالكيفية التي تحقق إشباع رغبات الناس المادية، وذلك لأنه لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، فهما “وجهان لعملة واحدة“، بمعنى آخر، أن الحرية الاقتصادية شرط ضروري وأساسي من شروط تأمين الحرية السياسية، وأنه:
لا يمكن تحقيق حرية الرأي إلا بتحقيق حرية الرزق والعكس صحيح.
وحيث أن قضية العدالة الاجتماعية في المجتمع المعاصر هي قضية شائكة ومعقدة وتحتاج إلى الكثير من الشرح والتفصيل، فسأختصر مقالي هذا بالتركيز على أهم المبادئ والشروط التي تقوم عليها عدالتنا الاجتماعية، ويمكننا تحقيق ذلك بالإجابة على الأسئلة التالية:
- ما هي أهم مبادئ عدالتنا الاجتماعية؟
- ما هي أهم واجبات الدولة؟ 3. متى يمكن للدولة أن تتدخل؟ 4. ما هي أهم الفروق بين عدالتنا الاجتماعية والمدارس الاقتصادية الأخرى؟
أولا: ما هي أهم مبادئ عدالتنا الاجتماعية؟
لعل من أهم مبادئ العدالة الاجتماعية فى الإسلام الست مبادئ التالية:
(1) حق التملك
هذا يعني كقاعدة عامة أنه يحق للفرد أن يمتلك كل ما شاء ما دامت سبيل التملك مشروعة، بمعنى الإسلام يعترف بحق كسب الرزق بكل الوسائل المشروعة، وأن هذا الحق هو حق مقدس تؤكده الشريعة وتأمر باحترامه، وأن الاعتداء على هذا الحق يعتبر من الكبائر، ولا يؤخد من المواطن إلا لضرورة اقتضتها مصلحة المجتمع وفقا لإجرات قانونية وبتعويض عادل وفوري.
(2) حق العمل
وهنا يمكن القول إن الإسلام قد بالغ في احترام العمل حدّ التقديس واعتبره أساس الكسب المشروع، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبّل يدا ورُمت من كثرة العمل قائلا:
“تلك يد يحبها الله ورسوله”3 ،
واعتبر الإسلام العمل أحد الوسائل الرئيسية للتملك والحصول على الثروة، فعن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي (ص) يسأله (أي يطلب منه المساعدة)،
فقال (ص): أمَا في بيتك شيء؟
قال الرجل: بلى،
حلس (أي كساء غليظ) نلبس بعضه ونبسط بعضه،
وقعب (أي إناء) نشرب فيه الماء.
قال (ص): “أئتني بهما”
قال: فأتاه بهما،
فأخدهما (ص) بيده وقال: “من يشتري هذين؟”
قال رجل: أنا أخدهما بدرهم،
قال (ص): “من يزيد على درهم؟” مراين أو ثلاثا,
قال رجل آخر: “أنا أخدهم بدرهمين” فأعطاهما إياه،
وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري.
قال (ص): “أشترى بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك،
وأشتري بالآخر قدوما فأئتني به،
فأتاه به، فشد رسول الله (ص) عودا بيده، ثم قال: أذهب فاحتطب وبع،
ولا أرينك خمسة عشر يوما،
ففعل الرجل، ثم جاء إلى رسول الله وقد أصاب عشرة دراهم
فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما،
فقال (ص): “هذا خير لك من أن تجيء المُسألة (أي: سؤال الناس المال) نكتة في وجهك يوم القيام.
إن المُسالة لا تصلح إلا لثلاثة:
لذي فقر مدقع، أو لذي عزم مقظع، أو لذي دم مؤجع.”4
(3) التكامل الاجتماعية
بمعنى الإيمان بقيم التضامن والتعاون، لكي تكون حياة المواطنين أكثر سعادة وتألفا وتساندا، وحتى لا تطغى مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، ولا تذوب مصلحة الفرد في مصلحة الجماعة، وبذلك يتحقق للمواطن استقلاليته، وتصان كرامته، وتتاح له فرص الإبداع والإنتاج، ويتقدم المجتمع، وتتوحد كلمة المواطنيين، وبذلك يتجسد فينا:
قول رسولنا (ص): “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”5
وقوله (ص): “ترى المؤمنيين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”6
وقوله (ص): “والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”7
وقوله (ص): “خير الناس أنفعهم للناس”8
(4) لا ضرر ولا ضرار
بمعنى يقول رسولنا (ص): “لا ضرر ولا ضرار“9، وهذا يعني:
“لا تبدأ غيرك بالضرر، ولا تُقابل الضرر بضرر مثله“.
وقد روى عن علي زين العابدين أنه قال: “كان لسمره بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، وكان يدخل هو وأهله فيؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله (ص)،
فقال رسول الله لصاحب النخل: بعه، … فأبى،
فقال الرسول: فأقطعه، … فأبى،
فقال الرسول: فهبه ولك مثله في الجنة، … فأبى،
فالتفت الرسول إليه وقال: أنت مُضار،
ثم التفت إلى الأنصاري وقال: أذهب فاقلع نخله.”10
(5) من أين لك هذا؟
بمعنى يجب ألا يسمح لأي مواطن أن يستغل مركزه السياسي أو الاجتماعي فى خدمة أغراضه الشخصية، ولا يجب أن يسمح لرأس
المال أن يأتي عن طرق مُحرمة أو غير مشروعة.
استعمل رسول الله (ص) رجلأ من الأزد على الصدقات، فلما رجع حاسبه،
فقال الرجل: هذا لكم وهذا أُهدي لىّ.
فقال النبىّ (ص) ما بال الرجل نستعمله على عمل مما ولانا الله،
فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه،
فينظر أيهدى إليه أم لا!
والذي نفسي بيده، لا نستعمل رجلا على عمل مما ولانا الله،
فيغل منه شيئا، إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته،
إن كان بعيرا له رغاء،
وإن كان بقرة لها خوار،
وإن كان شاة لها تيعر.”11
ويروى ان أبو ذر قال لمعاوية لما راءه يشيد قصر الخضراء
ويُسخر آلاف العمال فى رفع قواعدة وسدّ [12] شرفاتة قال له:
“إن كانت هذه أموال المسلمين، فهي خيانة، وإن كانت أموالك فهي إسراف.”
(6) محاربة الفقر
الفقر بمعناه الاقتصادي هو النقص في السلع والخدمات اللازمة لإشباع حاجات المواطن الأساسية، ولعل من الأشياء الجميلة في الإسلام أنه يحقق العدالة الاجتماعية:
ليس بمعاقبة الأغنياء، وإنما بمساعدة الفقراء ومحاربة الفقر.
بمعنى ينظر الإسلام إلى الفقر كظاهرة اجتماعية سلبية وشادة، ويساويه بالكفر، وكان رسولنا (ص) يقول “كاد الفقر أن يكون كفرا“،12
وكان من دعائه (ص): “اللهم أني أعو بك من الكفر والفقر“.
فقال له رجل: أيعدلان؟
فاجاب الرسول (ص): نعم.”13
وقد ورد في الأثر أنه “إذا ذهب الفقر لبلد قال له الكفر خدني معك”14
وفي هذا الصدد يقول الإمام علي كرم الله وجهة:
“والله لو كان الفقر رجلا لقتلته”.
وعليه فإن محاربة الفقر في المجتمع واجب إنساني قبل كل شيء، ويجب أن تكون من أهم أهداف الدولة، ويمكن تلخيص هذا المبدأ الاقتصادي بالتأكيد على أن المجتمع الإسلامي:
“لا يمنع الغنى … ولكنه يحارب الفقر”.
لأن الأغنياء هم جزء لا يتجزأ من المجتمع ويجب يشتركوا في محاربة الفقر، وفي هذا الصدد لا يملك المرء إلا أن يُذكر الأغنياء بما قاله سيدنا علي كرم الله وجهة:
“إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفى فقراءهم،
فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء.”15
ويجب أن يكون دور الأغنياء في محاربة الفقر كدور الأشعريين،
فقد روى عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله (ص):
“الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة،
جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد،
ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية،
فهم مني وأنا منهم.”16
في الجزء الثاني من هذا المقال سوف أحاول الإجابة على
السؤال التالي:
ما هي أهم واجبات الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية من منظور إسلامي؟
يتبع…
والله المستعان.
هوامش
سورة النحل : اّية 901
رواه مسلم , والترمدى , وأبن ماجه2
عبد السميع المصرى (1975) “مقومات الاقتصاد الاسلامى.” مكتبة وهبة عابدين , جمهورية مصر العربية. ص232 .3
رواه ابو دواد فى سننه (ج) 2/ 293 رقم (1641) , والترمدى فى الجامع بأختصار 4
رقم (1218) , وابن ماجه فى التجارات رقم (198) , والنسائى
رواه احمد وابن ماجه عن ابن عباس9
الاحكام السلطانية لابى العلى , انظر أيظا دز عبد العزيز الخياط (1986) “المجتمع المتكافل فى الاسلام.” دار السلام. الطبعة الثالتة . القاهرة , مصر. ص 7910
كتاب التاج , فى باب الامارة والقضاة. أنظر أيظا دز عبد العزيز الخياط ص161.11
محمد الغزالى “نمادج من العدالة فى الاسلام.” [12]
عماد الدين خليل (1979) “مقال فى العدل الاجتماعى” دار الرسالة. بيروت. الطبعة الاولى. ص7512
د. احمد كمال ابوالمجد (1988) “حوار لا مواجهة”. دار الشروق. 14
عماد الدين خليل (1979) “مقال فى العدل الاجتماعى” دار الرسالة. بيروت. الطبعة الاولى. ص 3115
نفس المرجع السابق ص 8616
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً