الأستاذ المفكر والمؤرخ الجزائري مالك بن نبي، عاش حقبة الاستعمار الفرنسي في أرضه الجزائر، وعاش في داخل تلك الحالة دارساً ومحللاً عندما ذهب إلى فرنسا للدراسة. توصل بعد رحلة طويلة من المعايشة والدراسة؛ توصل مالك بن نبي إلى أن الاستعمار ظاهرة إنسانية لها تفاعلات بين المستعمِر والمستعمَر. تتخلق حالة نفسية عند المستعمَر تجعله قابلاً لما هو فيه من استضعاف، يقوده إلى الخضوع للاستعمار.
في المقابل يبدأ المستعمَر الضعيف في بناء قوة وعيه التي تصنع إرادة المقاومة. ذاك ما كان في الجزائر، التي مثلت ظاهرة فريدة في مقاومة الاستعمار؛ إذ قدمت أكثر من مليون شهيد ثمناً للحرية. الوعي كان بداية تأسيس إرادة الحرية، وتأكّلت عوامل الضعف والخضوع والقابلية للاستعمار. الأستاذ مالك بن نبي، غاص في العامل النفسي، وفكك مركبات الوهن التي تصيب الشعوب المقهورة الخاضعة لقاهريها. منهج بن نبي لم يغب مع رحيل الاستعمار الفرنسي عن بلاده، فمنهجه التحليلي في جانبه النفسي، لا يزال صالحاً لأن نشعله كي نرى ما يجري في بلدان كثيرة.
البيان الأول الذي يصدح به صوت قافز إلى السلطة، يعج بالشعارات التي تلهج بالحرية والعدالة، والقضاء على الظلم والفساد والديكتاتورية والتبعية للاستعمار والإمبريالية، إلى آخر ما في كل روشتات البيانات الأولى.
ما حدث في النيجر منذ أيام، يستحق أن يدفعنا لأن نعيد قراءة ما كتبه الأستاذ مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار، لكن بعنوان القابلية للاستغفال. العميد عبد الرحمن تيشاني رئيس الحرس الرئاسي، الذي قاد الانقلاب ضد الرئيس محمد بازوم، كان من أركان النظام في النيجر لسنوات طويلة. درس في الأكاديميات العسكرية الفرنسية، وتولى التنسيق مع القوات الفرنسية المقيمة في النيجر منذ سنوات طويلة. اليوم يتحدث عن الاستعمار الفرنسي في خطاباته، مثلما تحدث آخرون من حوله. البديل لفرنسا هو روسيا كما يعلن من حوله مدنيون وعسكريون. ما الفرق بين مستولٍ فرنسي أو روسي؟ القادم الروسي سيكون بقيادة قائد ميليشيا «فاغنر»، وهو خريج سجون؛ إذ قضى سنوات بين جدران السجن بتهم جنائية. الشعوب صارت تصفق لمن يستغفلها. حقيقة خلفية دوافع الانقلاب في نيامي، هي أن الرئيس محمد بازوم، قرر إنهاء خدمة العميد عبد الرحمن تيشاني كقائد للحرس الرئاسي، وعزله؛ يعني إحالته إلى التحقيق الذي قد يقوده إلى السجن بتهمة الفساد. الرئيس محمد بازوم، أحال أكثر من أربعين سياسياً وعسكرياً إلى النيابة بتهمة الفساد، وخطوته هذه شكلت قوة من الخائفين الذين سقطوا في هوة الفساد الذي كان الحبل الطويل القديم الذي شدّ البلاد إلى حفر التخلف، وردفتها قوة أخرى من الطامعين الذين يتحينون الفرص من أجل قضم ما يمكنهم من ثروة البلاد. الاستعمار والإمبريالية… إلخ، المخدر الذي يستغفل به القافزون إلى السلطة، جموع البسطاء الذين يضيعون في الأوهام عمراً، وفي كل انقلاب يتنفسون نسائم الاستغفال اللذيذ.
الضابط الصغير توماس سنكارا الذي قاد انقلاباً عسكرياً في دولة بوركينا فاسو، أطلق شعارات نارية ضد الاستعمار والإمبريالية، حتى أطلق عليه البعض اسم جيفارا الأفريقي، ثم كانت نهايته بيد من كان معه من الضباط الذين تحركوا معه ليلة الانقلاب. قتلوه عندما كان ذاهباً ليخطب في أحد الاجتماعات. أطلقوا عليه النار وقطعوا جثته إرباً ودفنوه في إحدى المقابر. رفيقه الأول في الانقلاب بليز كمباوري، كان المهندس المعماري والمدني للانقلاب عليه. الانقلابات العسكرية، كانت هي اللعنة الكبرى في أفريقيا. يكفي أن نسترجع ماذا حدث في أوغندا عندما قفز عيدي أمين إلى قيادتها في انقلاب عسكري، واستولى على كل ما للأوغنديين من أصول آسيوية، وأجبر عدداً من البريطانيين على حمله على أكتافهم وهو فوق ما أسماه بعرش الحرية، عرض الزواج على ملكة بريطانيا، وأنذر إسرائيل بهجوم قريب عليها لتحرير كل فلسطين. الشخصية الأخرى التي أضحكت الدنيا، كانت بوكاسا الذي قفز إلى السلطة في جمهورية أفريقيا الوسطى، وأعلن نفسه إمبراطوراً لها. استولى على كل شيء في البلاد، وصنع به تاجاً من الألماس، وضعه على رأسه، في حين كان كل الشعب يعاني الجوع والفقر والمرض. جمهورية الكونغو التي تسمى اليوم بالشعبية، هي أغنى بلد في العالم بما تملكه من كل الثروات فوق أرضها وتحتها. استوطنتها الحروب والفقر والمرض، وتقاسم كل ما فيها من ثروات الفاسدون والمغامرون المحليون مع شركائهم الأجانب. ليبيريا البلاد الجميلة الزاخرة بالثروات، تناهب السلطة والثروة فيها مغامر عسكري برتبة عريف هو صامويل دو، ثم استولى عليها أحد قادة مجموعة إرهابية إجرامية هو تشارلز تايلور؛ إذ سقطت البلاد في مستنقع الدم والنهب والدمار لسنوات، إلى أن تولت أمرها سيدة فاضلة قادت بلدها إلى الاستقرار والسلام، هي السيدة سيرليف جونسون.
الرئيس محمد بازوم، هو ضلع مثلث أفريقي في جنوب الصحراء الكبرى. ليوبولد سيدار سنغور، الشاعر والمفكر الذي أسس دولة حديثة في السنغال ولم تشهد انقلاباً عسكرياً، مع الضلع الآخر وهو جوليوس نيريري الذي وحَّد إقليمي زنجبار وتنجانيقا. مزج اسمي الإقليمين ليبدع منهما اسم دولة تنزانيا، يتداول فيها الرئاسة مسيحي ومسلم بأسلوب ديمقراطي، واستوطن بها السلام والتنمية، ولم تسمع بياناً أول من مغامر صغير. كان محمد بازوم مشروعاً مضافاً إلى الحكيمين الكبيرين في أفريقيا؛ ليوبولد سيدار سنغور في السنغال، وجوليوس نيريري في تنزانيا. الانقلابيون اليوم في النيجر، رفع بعضهم صوت العرقية، ووصفوا بازوم بأنه لا ينتمي إلى شعب النيجر؛ لأنه من أصول عربية ليبية. تناسى هؤلاء أن الرجل له جذور في أرض النيجر تمتد لمئات السنين. لقد هاجر أجداد أجداده إلى أرض النيجر منذ بداية القرن التاسع عشر، بعد حربهم مع العثمانيين. لقد عمل في مجالات عدة، في النقابات والسلطات المحلية، ووزيراً للداخلية والخارجية، ولعب دوراً بارزاً في عمليات السلام الأهلي، وشُهد له بالنزاهة ونظافة اليد. لهذا أُعلنت عليه الحرب؛ لأنه كان بالفعل عدواً لهذا. والذين يرفعون الآن شعارات طرد المستعمر، إنما يمارسون لعبة الاستغفال، التي يصفق لها البسطاء، ولا يعلمون أنهم يهتفون ضد من يعدونه مستعمراً قديماً، ويصفقون لآخر يدعونه.
حيث ما لعلع البيان الأول في أفريقيا، رفع الفساد والاضطهاد رأسه، وانطلقت يده تفعل ما لم يفعله الاستعمار. الاستغفال قوة يستولى بها القافزون ليلاً على السلطة، على آذان البسطاء الضحايا. رحم الله الأستاذ مالك بن نبي. لقد حلَّت القابلية للاستغفال محل القابلية للاستعمار، أو للاثنين معاً.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً