- استقالة الملك عام (1965 م) الأولى، واستقالته الثانية قبل الانقلاب العسكري بأشهر عام 1969م:
مع مرور الزمن وتقدم السن رأى الملك إدريس أن يتخلى عن الملك، وأن يقدم استقالته ويترك إلى الشعب أو ممثله إسناد الأمر إلى من هو أحق منه أو أقدر على حمل الأمانة والقيام بالواجب المطلوب، ولذلك لم يتردد الملك إدريس في عام (1965م) في عهد حكومة السيد محمود المنتصر الثانية أن يقدم استقالته بسبب التقدم في العمر، وخشيته نتيجة لذلك من التقصير في القيام بما عليه من الواجب والمسؤوليات إلى البرلمان الليبي، تاركاً له أن يتخذ ما يراه مناسباً من نظام للحكم لصالح البلاد، ومن رئيس للدولة فيها؛ ولكنه عندما تقاطرت إلى مدينة طبرق ـ حيث كان يقيم الملك ـ الجماهير الغفيرة من مختلف أطراف البلاد، وفي مقدمتهم الكثيرون من كبار قادة البلاد بما في ذلك قادة المعارضة فيها، وأحاط الالاف منهم بالقصر عدة أيام يطالبون بإلحاج الملك المحبوب بالعدول عن استقالته، وبقائه ملكاً لبلاده إلى ما شاء الله، فإنه لم يكن بوسع الملك سوى الرجوع عن هذه الاستقالة، موضحاً أن استقالته هذه كان قد تحدث بشأنها من قبل مع بعض رؤساء الحكومات الليبيا، الذين كان من بينهم السيد مصطفى بن حليم، والسيد محمد بن عثمان الصيد، وهي كانت فقط بسبب تقدمه في السن، وخشيته من يؤدي ذلك إلى التقصير في حسن القيام بما عليه من المسؤوليات، ولم تكن هذه الاستقالة بسبب خلاف مع الحكومة الليبيا أو البرلمان الليبي، حيث كان كل منهما كما ذكر الملك قائماً بواجبه، وباذلاً جهده في خدمة البلاد، ولكنه أمام معارضتهم لهذه الاستقالة فلا يسعه إلا العدول عنها، على أن يكون لهم الحق في رفع يده عن الحكم إذا ما شعروا مستقبلاً بعجزه عن حمل ما عليه من الواجبات، وتكليف من هو أقدر منه على حملها.
وقد كانت استقالة الملك إدريس الثانية والأخيرة هي تلك المؤرخة في (4/8/1969 م)، والتي وجهها أثناء رحلة استشفائية إلى تركية ثم اليونان إلى كل من رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ، ورئيس وأعضاء مجلس النواب، ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ عبد الحميد العبار، ورئيس مجلس النواب مفتاح عريقيب، عندما جاءا إلى تركية في ذلك الوقت للاجتماع بالملك بناءً على طلبه، وفي هذه الاستقالة أكد الملك إدريس أنه وقد تقدم به العمر حتى وهن العظم منه، وبلغ من العمر عتيّاً، ولهذا فهو قد قرر التخلي عن العرش إلى الأمير ولي العهد الحسن الرضا السنوسي، مشترطاً موافقة البرلمان على ذلك، ومن ثم عليه حلف اليمين واعتلاء العرش، ومطالباً في هذه الاستقالة الشعب الليبي بتقوى الله ومخافته، وحمد الله تعالى وشكره على ما أكرم بلاده من النعم، وأفاض عليها من الخير، وأن عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك خوفاً من أن يرفع الله تعالى عنها نعمه وخيره ويوليها الأشرار من عباده.
وكان نص هذه الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، واله وصحبه أجمعين أما بعد:
يا إخواني الأعزاء رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب، يعني مجلس الأمة الليبيا، ورئيس الحكومة الليبيا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أقدم لكم هذا الخطاب قائلاً: منذ أن قلدتني هذه الأمة الكريمة الليبيا ثقتها الغالية بتبوئي هذا المقام الذي شغلته بعد إعلان استقلال بلادنا العزيزة ليبيا.
قمت بما قدر الله لي مما أراه واجباً عليّ نحو بلادي وأهلها، وقد لا يخلو عمل كل إنسان من التقصير، وعندما شعرت بالضعف قدمت استقالتي قبل الان ببضع سنوات، فرددتموها، فطوعاً لإرادتكم سحبتها، وإني الان نسبة لتقدم سني وضعف جسدي أراني مضطراً أن أقول ثانية: إني عاجز عن حمل هذه الأمانة الثقيلة، ولا يخفى أنني بليت في سبيلها خمساً وخمسين سنة قبل الاستقلال وبعده، قد أوهنت جلدي مداولة الشؤون، وكما قال الشاعر:
(سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم)
وقد مارست هذه القضية وعمري (27) سنة، والان أنا في الثانية والثمانين، ولله الحمد أتركها في حالة هي أحسن مما باشرت في بلائي بها، فأسلمها الان لولي العهد السيد (الحسن رضا المهدي السنوسي الأول) على أن يقوم بعبئها الثقيل أمام الله وأمام أهل هذه البلاد الكريمة على نهج الشريعة الإسلامية والدستور الليبي، بالعدل والإنصاف، فاعتمدوه مثلي ما دام على طاعة الله ورسوله والاستقامة.
وبعد اعتماده من مجلس الأمة يحلف اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة قبل أن يباشر سلطاته الدستورية، وإني إن شاء الله عقدت العزم الأكيد على اجتناب السياسة بتاتاً والله على ما أقول وكيل.
والذي أختتم به قولي بأن أوصي الجميع من أبناء وطني بتقوى الله في السر والعلن، وإنكم جميعاً في أرغد عيش وأنعم النعم من الله تبارك وتعالى.
فاحذروا من أن يصدق عليكم قوله تعالى: [النحل: 112] فالله الله مما يغضب {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *} [النّحل: 112]، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ولا تفرقوا، قال (ص): «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم».
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد إدريس المهدي السنوسي
في 21 جمادى الأول 1389 هـ/ الموافق 4 أغسطس 1969 م.
المراجع:
- إيريك آرمر فولي دي كاندول، الملك إدريس عاهل ليبيا، ص. ص165، 166.
- علي محمَد الصلابي، الثمار الزكية للحركة السنوسية، دار الروضة، إستانبول، 2017.
- محمد المغيربي،وثائق جمعية عمر المختار، ص. ص410، 411، 416
- محمد طيب الأشهب، إدريس السنوسي، دار العهد الجديد للطباعة، القاهرة.
- محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، بيروت، ط1 1948.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً