مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط: حفظا الوحدة والثروة

مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط: حفظا الوحدة والثروة

جاء بيان مصرف ليبيا المركزي الذي صدر في 29 أغسطس 2015م[1]، تتويجاً لمجهودات كبيرة قام بها خبراء من كل الجهات الليبية، بما فيها خبراء مصرف ليبيا المركزي، بالتعاون مع خبراء من صندوق النقد والبنك الدوليين، وبالتعاون والتنسيق التام مع المؤسسة الوطنية للنفط، حيث عمل المصرف والمؤسسة وسط حقلٍ من الألغام.

فمنذ أن اندلعت الحرب بين الفرقاء في ليبيا، قرر محافظ مصرف ليبيا المركزي الأستاذ الصديق الكبير النأي بالمصرف عن الحرب الدائرة والانقسام الناتج عنها[2]، وتصدى لكل محاولات الزج بالمصرف المركزي في أتون الحرب وتبعاتها. كذلك فعل المهندس مصطفى صنع الله، حيث نجح في جعل المؤسسة الوطنية للنفط ملكاً لكل الليبيين ورفض كل أشكال الابتزاز واستقل بقرارها عن أطراف النزاع.

لا شك أن المصرف والمؤسسة قد واجها ضغوطا كبيرة من السلطة الموجودة بطرابلس وصلت في بعض الأحيان لمستويات حادة، كما أنهما أجهضا، حتى الآن، كل محاولات السلطة الموجودة بطبرق لاستنساخ مصرف مركزي ومؤسسة للنفط، حيث أن العالم، الذي اعترف بشرعية برلمان طبرق، ساهم في تحيّد بعض المؤسسات، عن دائرة الصراع، على رأسها مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط[3].

لم يرضخا، المصرف والمؤسسة، لكل ذلك ونجحا بامتياز بالتواصل مع القوى السياسية في الداخل لتخفيف الضغوط، ومع المجتمع الدولي لضمان دعمه لحياد هذه المؤسسات والنأي بهما عن التجاذبات السياسية.

العلاقة والتحديات:

لقد واجه مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط العديد من التحديات. وقبل الخوض في هذه التحديات، علينا أن نفهم طبيعة العلاقة، باختصار، بين مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط فيما يخص ريع النفط المصدر للخارج.

تقوم المؤسسة الوطنية للنفط بالتعاقد مع الشركات الراغبة في شراء النفط الليبي، ثم بعد ذلك تقوم المؤسسة بتصدير النفط إلى هذه الشركات، ويتم الدفع وفق الشروط الواردة في العقد. يتم تحويل إيرادات النفط إلى مصرف ليبيا الخارجي ويتم تحويلها إلى حسابات المصرف المركزي خلال 48 ساعة من الاستلام كحد أقصى، وتتم التسويات بين المؤسسة والمركزي بشكل دوري للتأكد والمطابقة ما بين المبالغ المستلمة والنفط المصدر طبقاً للعقود.

هذه العلاقة غاية في الوضوح ولا تسمح للمغامرين أن يتصرفوا في النفط الليبي خارج هذه المعادلة، وقد حاولوا مراراً وفشلوا ولعل آخر المحاولات كانت محاولة لعقد مؤتمر بعنوان؛ “مؤتمر نفط ليبيا”، حيث اضطر المنظمون لهذا المؤتمر إلى إلغائه، نتيجة إصرار 26 شركة نفطية كبرى، على قصر التعامل مع المؤسسة الوطنية للنفط ومقرها الرئيسي طرابلس، دون غيرها، بعد اجتماع عقد في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، استمر لمدة ثلاثة أيام في مدينة لندن البريطانية، حضره السيد مصطفى صنع الله، رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، والسيد الصديق الكبير، محافظ مصرف ليبيا المركزي[4].

تحديات الميزانية:

في ظل انخفاض الإنتاج والتصدير وأسعاره، وفي ظل الانقسام ووجود سلطتين تشريعتين وتنفيذيتين؛ أضحى من المستحيل أن توجد ميزانية واحدة معتمدة على مستوى الوطن. لذا؛ قام مصرف ليبيا المركزي بتشكيل فريق فني من كامل التراب الليبي مدعوم بخبراء من صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل التوصل لميزانية استرشادية واقعية لسنة 2015م، تأخذ في الأسباب جل التحديات التي تعيشها ليبيا.

يُعد هذا الاجتهاد نوعا من الإبداع، استطاع من خلاله مصرف ليبيا المركزي أن يرتدي به قبعة الحكومتين في تسيير وترشيد ومراقبة الإنفاق وفق هذه الميزانية الاسترشادية[5].

تمكن المصرف وفريقه المتميز في السبعة أشهر الأولى من سنة 2015م من تقليص العجز في الميزانية بنسبة 69% (من 14.6 مليار دينار في نفس الفترة من العام الماضي إلى 4.5 مليار دينار)، وتقليص إجمالي الإنفاق بنسبة 37% (من 26.8 مليار دينار في نفس الفترة من العام الماضي إلى 16.9 مليار دينار)، وتقليص بند المرتبات بنسبة 28% نتيجة الالتزام بالرقم الوطني (من 13.4 مليار دينار في نفس الفترة من العام الماضي إلى 9.7 مليار دينار). كما انخفض بند الدعم بنسبة 52% (من 26.8 مليار دينار في نفس الفترة من العام الماضي إلى 16.9 مليار دينار).

هذا يوضح نجاح مصرف ليبيا المركزي في تقليص الإنفاق الفعلي في السبعة الأشهر الأولى من سنة 2015م، مقارنة بما رصده في الميزانية التقديرية لنفس السنة، مما سيساهم في زيادة تقليص العجز العام المقدر لهذه السنة في الميزانية التقديرية.

كما نجح المصرف أيضاً في الحد من استنزاف احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي. حيث انخفض إجمالي استعمالات النقد الأجنبي بنسنة 56% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2014م، بينما انخفض استعمال المصارف التجارية بنسبة 58% واستعمال مؤسسات الدولة بنسبة 51% من النقد الأجنبي.

لقد تولى مصرف ليبيا المركزي الدور المفقود الذي عجزت عنه كلا الحكومتين المؤقتة بالبيضاء، والإنقاذ بطرابلس أن تلعباه، نتيجة الصراع والإنقسام السياسي، حيث تولى مصرف ليبيا المركزي دور الحكومة الواحدة في العديد من بنود الميزانية؛ فتعامل بمهنية وحيادية في صرف المرتبات، وتوفير السيولة اللازمة لدعم السلع والمحروقات وتغطية احتياجات المصارف التجارية. كل ذلك في كامل التراب الليبي مِمَّا ساهم في تعزيز وحدة الوطن ورفع المعاناة عن عموم الليبيين.

تحديات انخفاض إنتاج وتصدير النفط وتقلص الإيرادات:

تملك ليبيا أكبر مخزون من النفط في إفريقيا، وتعتمد على إيراداته في تمويل أكثر من 95% من خزانة الدولة، وتمول منها بشكل رئيسي رواتب الموظفين الحكوميين، ونفقات دعم السلع الأساسية والمحروقات، وعدد من الخدمات الرئيسية[6].

يبلغ الإنتاج الحالي من النفط 390 ألف برميل يومياً، في حين أنه قد يصل الإنتاج في الأوقات الطبيعية إلى 1.6  مليون برميل يومياً. ووصل التراجع في إنتاج النفط إلى نسبة تصل 80% من القدرة الإنتاجية، وتراجع التصدير بما يقارب 85% مما تسبب في انخفاض كبير في الإيرادات. ويرجع هذا التراجع إلى استمرار إغلاق حقول النفط بسبب المشاكل الفنية التي تعاني منها عدد من الحقول في الشرق الليبي، والتي ساهمت في تراجع إنتاج النفط، بالإضافة إلى استمرار إغلاق حقلي الفيل والشرارة اللذين يمكنهما إضافة نحو 400 ألف برميل يوميا من خام النفط ليضاعف الإنتاج الحالي للبلاد[7].

ويمكن مضاعفة الإنتاج الحالي إذا ما قامت مجموعة مسلحة تابعة لكتائب الزنتان[8] فتح أنبوب النفط الواصل ما بين حقلي الشرارة والفيل وميناء الزاوية، وهناك جهود يبذلها مشايخ قبائل الزنتان لإقناع المحتجين على إعادة فتحهما[9]، والسماح بتدفق أرزاق الليبيين، حيث إن هذه الحقول تشتغل آلياً وفي حالة فتحها سيتدفق النفط خلال 24 ساعة ويمكن مباشرة الإنتاج والتصدير.

ففي الأحوال الطبيعية وفي ضوء الأسعار الحالية، (تقريباً 40 دولار للبرميل) يصل الإيراد اليومي، بما فيه “مصاريف النفط” ومستحقات الشريك الأجنبي إلى ما يقارب 64 مليون دولار. بينما يصل الإيراد اليومي الحالي إلى ما يقارب من 15.6 مليون دولار، ويمكن مصاعفة هذا الرقم إذا ما تم فض الاحتجاج في حقلي الشرارة والفيل.

تحديات الفساد:

ليس بغريب أن يستمر ترتيب ليبيا في ذيل القائمة التي تصدرها منظمة الشفافية الدولية في تقريرها السنوي و الذي يحتوي على مؤشر مدركات الفساد لـ 183 دولة، وتدرج ليبيا ضمن قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم[10].‏

من المؤسف أن يستشري الفساد ويصبح ثقافة سرطانية لن تتمكن الأمة الليبية من القضاء عليه إلا بيقظة وصحوة ضمير، وحرب لا هوادة فيها، وعقوبات زاجرة ورادعت لاجتثات هذا المرض الخطير الذي سيقضي على حلم الأجيال، بل قد يأتي على ليبيا بأكملها، ما لم يتم التوافق على ضرورة محاربته.

وكنتيجة طبيعية لإستشراء ثقافة الفساد، زاد الضغط على الدينار الليبي وتوسع أخطبوط الموظفين الفاسدين في المصارف فاستحوذوا على حق المواطن الليبي من حقه من النقد الأجنبي بحيل وطرق خبيثة لجني المال الخبيث وإطعامه لأبنائهم. حيث أورد موقع “مصارف ليبية” على شبكة التواصل الإجتماعي “فيسبوك” هذه الطريقة فذكر:

“نلاحظ قيام بعض الزملاء من مدراء فروع وموظفين فى جميع مدن ليبيا بالمتاجرة بالعملات الأجنبية المخصصة قانوناً وشرعاً لعملاء المصارف وفق ضوابط حددها القانون.

حيث يقومون بطلب مبالغ كبيرة للفرع بحجة تلبية طلبات الزبائن ليقوموا ببيع جزء قليل لهم لا يتعدى 10% من الإرسالية الواردة وبنظام التسجيل لإظهار أن هناك نظام وغيرها من المظاهر الخادعة. بينما 90% من الإرسالية تباع لأحد تجار العملة مع زيادة فرق السعر مع السوق ويتم للأسف استخدام صور جوازات أو بطاقات مزورة ومنهم من يعيد تصوير المستندات المقدمة من الزبائن.

ويتراوح فرق السعر الذي يجنيه هؤلاء فى 90% من 150 إلى 250 د.ل لكل خمسة آلاف د.ل وهي مخصصات الفرد الشهرية. ويتراوح الربح الحرام من 30000 إلى 50000 د.ل لكل مليون دولار. وتتم المقاسمة حسب المكانة والحظوة والمجهود لا بارك الله في الحرام. وهناك من يقوم بتوزيع جزء من الإيراد على الموظفين الآخرين فى أظرف لضمان سكوت وتواطؤ الجميع.

ندعو الشرفاء من الزملاء المدراء أو الموظفين إلى محاربة الفساد بجميع صوره وخاصة الرشوة التي هي الأخرى انتشرت وصارت مرض خبيث.”[11]

لا يمكن بناء دولة بهذا المستوى من الخيانة للأمانة وانعدام الشرف المهني لهؤلاء المسؤولين والموظفين المجرمين الأثمين في حق أنفسهم وحق أبنائهم وأزواجهم خاصة، والوطن بصورة عامة.

من أجل ذلك لفت بيان مصرف ليبيا المركزي إلى ميزانية سنة 2013م لإعادة تذكير الليبيين بالكارثة التي حلت بالبلاد وبحجم الفساد الذي سيتطلب إقامة العدالة في المتسببين فيه. حيث قام النائب العام بإصدار مذكرة للإنتربول يطلب فيها ملاحقة زيدان، رئيس الحكومة المؤقتة والمسؤول عن صرف ميزانية 2013م، لحين مثوله للتحقيقات حول تورطه في العديد من القضايا[12]. حيث فاق الإنفاق العام في ميزانية 2013م عن الميزانية المقدرة لهذا العام بأكثر من 20 مليار دينار ليبي، وكذلك كانت هناك زيادرات كبيرة في كل بنود الميزانية دون أن يحصد الليبيون مزايا هذه الميزانية؛ حيث “صرفت ميزانية كبيرة… ولم يقم مشروع واحد ولم يستكمل مشروع واحد ولم تحفر حفرة واحدة ولم يبني مستشفى واحد ولا مدرسة”[13].

وهنا لابد من التأكيد على محاسبة كل المسؤولين الذين تولوا كل هذه المسؤوليات خلال الفترة من 17 فبراير 2011م وحتى تاريخ تشكيل حكومة الوفاق، وتقديم الذين أساؤوا استخدام المال العام، للعدالة ليكونوا عبرة لمن بعدهم.

خاتمة:

مما لا شك فيه أن تراجع إنتاج النفط وتصديره، وانخفاض أسعار النفط واستمرار حالة الانقسام السياسي تهدد الاقتصاد وتؤدي إلى انهيار الدينار الليبي، واستنفاد احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي.

نحن في أمس الحاجة لوقفة جادة من أجل إنهاء الانقسام السياسي وتشكيل حكومة وفاق وطني قادرة على ضغط المصاريف وترشيد الإنفاق العام، كما فعلت الجزائر بالرغم من أنها دولة مستقرة، ومعالجة الآثار الخطيرة على الاقتصاد الليبي. كما أنه على المسلحين المغلقين لحقلي الفيل والشرارة، الإستجابة لحكماء ومشايخ الزنتان، وتحمل مسؤوليتهم التاريخية والسماح بتدفق شريان الحياة وقوت الشعب الليبي فيما تبقى من السنة، لخفض العجز في الميزانية الحالية. ويجب على مؤسسة النفط وضع الخطط العاجلة، لمباشرة أعمال الصيانة الفنية، حال استلام حكومة الوفاق الوطني للسلطة، لرد الإنتاج والتصدير لوضعهما الطبيعي.

————————————————————————-

[1] – فيديو نشر على موقع مصرف ليبيا المركزي، https://www.youtube.com/watch?v=HUb6xqRUeys.

[2] – مصرف ليبيا المركزي: توفر السيولة المالية بكافة المصارف التجارية، الشروق المصرية، 23 مايو 2014م.

[3] – Joint Statement by U.S., 5 European Nations on Libya, usembassy.gov, 11 May, 2015.

[4]Libya’s NOC, Center Bank woo oil majors in London in struggle for contracts, Reuters, August 30, 2015.

[5] – http://www.cbl.gov.ly/ar/images/stories/banks/baian2015.pdf

[6]– ارتفاع إنتاج (شركة الخليج) النفط بليبيا إلى 250 ألف برميل يومياً، ليبيا المستقبل، 31 أغسطس 2015م.

[7]– أوبك: تراجع إنتاج ليبيا للنفط إلى 390 ألف برميل يوميا، ليبيا المستقبل، 18 أغسطس 2015م.

[8]– ليبيا.. استمرار غلق حقلي النفط الشرارة والفيل، 18 أغسطس 2015م، http://www.alhurra.com/content/libya-oilfields-elfeel-sharara/278603.html.

[9]-http://www.libya-al-mostakbal.org/news/clicked/77702.

[10]– http://www.shaffaflibya.com/index.php?option=com_content&id=1701:g-2013.

[11] https://www.facebook.com/MsarfLibya/posts/409426969159750.

[12]– النائب العام الليبي يطالب الإنتربولب ملاحقة زيدان، عربي 21، 12 مارس 2014م.

[13]– انجازات الحكومة والمؤتمر لسنة 2013م…. خدوا المال والمناصب واتركوا لنا الوطن، د. ناجي بركات، عين ليبيا، 31 ديسمبر 2013م.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً